"ضرب الحكومة مش عيب"... فلسفة الكرامة المكسورة داخل السجون المصرية

رأي نحن والحرية

الجمعة 7 نوفمبر 20256 دقائق للقراءة

"ضرب الحكومة مش عيب" عبارة قصيرة، لكنها تفتح باباً واسعاً على عالمٍ مغلق خلف الجدران العالية والأسوار المسنّنة. 

هي ليست مجرد قول دارج بين المسجونين الجنائيين في مصر، بل هي نتاج منظومة كاملة من الإذلال اليومي، صيغت بذكاء بدائي كي تمنح صاحبها قدرة على البقاء وسط القهر. 

من يسمعها للمرة الأولى قد يظنها تبريراً للعنف أو إذعاناً للسلطة، لكنها في جوهرها أكثر تعقيداً. إنها محاولة لترويض الألم، لإعادة تعريف الإهانة حين تصبح قانوناً للحياة، ولتحويل الضرب إلى فعل بلا دلالة كي ينجو الإنسان من انهياره الداخلي. 

في عالمٍ تُسلب فيه الحرية وتُقمع الإرادة ويُختزل الوجود في جسدٍ محاصر، لا يبقى للسجين سوى اللغة كمساحة ضيقة للتنفس، وسيلة يعيد بها إنتاج معنى جديد للكرامة، حتى لو كان زائفاً. فهل هي حقاً تبريرٌ للعنف، أم شكل من أشكال المقاومة الرمزية ضد ما لا يمكن مقاومته؟

الكرامة كسلاحٍ للبقاء

في السجن تُختزل الحياة في معركة واحدة: من ينهار أولاً؟ تصبح الكرامة آخر ما يمكن الدفاع عنه بعد أن يُسلب الجسد والحرية والاختيار. ولأن الكرامة داخل السجن لا يمكن ممارستها فعلاً، تُمارس قولاً. تتحوّل إلى خطابٍ يحاول فيه السجين أن يستعيد ذاته عبر اللغة، ولو بالتزييف. 

في السجون المصرية، لا يُقدَّم العقاب بوصفه "عقوبة قانونية"، بل "تربية أمنية". الضابط الذي يضرب لا يعتقد أنه يعذّب، بل "يؤدّب"، والسجين لا يرى نفسه ضحية بل "متلقٍ طبيعي" لسلطة لا تُسأل ولا تُحاسَب

فالجملة "ضرب الحكومة مش عيب" ليست تبريراً للتعذيب، بل محاولة لنزع الإهانة من الحدث، كأن السجين يقول: اضربني، لكنك لم تهن إنسانيتي، لأني أنا من يقرر إن كنتُ مهاناً أم لا. 

هنا تنشأ فلسفة بدائية لكنها شديدة الذكاء: أن تفقد السيطرة على جسدك، لكنك تخلق وهماً بالسيطرة على معنى الألم. إنها حيلة بقاء، مثل ضحك المجانين في وجه الجنون. السجين لا يقبل الإهانة، لكنه يحاول أن يفرّغها من معناها حتى لا تدمّره. فالمعنى هنا يصبح وسيلة الدفاع الأخيرة، بعد أن تُسلب منه كل أدوات الدفاع الأخرى.

السجن كمنظومة للضبط والسيطرة

لم يعد السجن، منذ القرن التاسع عشر، مجرد أداة لمعاقبة الجريمة، بل أداة لتأديب المجتمع بأكمله. هكذا وصفه ميشيل فوكو في كتابه الشهير "المراقبة والمعاقبة"، حين قال إن الدولة الحديثة لا تكتفي بأن "تعاقب"، بل تسعى إلى إنتاج مواطنين مطيعين من خلال السيطرة الدقيقة على الأجساد. 

فوكو يرى أن العقاب لم يعد استعراضاً علنياً للسلطة كما في العصور القديمة، حين كانت الجثث تُعلّق في الميادين، بل أصبح ممارسة خفية متكررة داخل مؤسسات تبدو إنسانية في ظاهرها: السجن، المدرسة، الثكنة، والمستشفى. كلها تعمل على ما يسميه فوكو "تطبيع الجسد"، أي تحويل الإنسان إلى كائنٍ يُطيع دون مقاومة لأنه اقتنع أن الطاعة هي النجاة. 

تحولت جملة "ضرب الحكومة مش عيب" إلى تجلٍ واضح لفكرة فوكو: أي حين ينجح النظام في جعل المقموع يشارك في إنتاج قهره، ويعيد إنتاج السلطة في داخل نفسه.

في السجون المصرية، يُمارس هذا التطبيع بشكل عارٍ، فالعقاب لا يُقدَّم بوصفه "عقوبة قانونية"، بل "تربية أمنية". الضابط الذي يضرب لا يعتقد أنه يعذّب، بل "يؤدّب"، والسجين لا يرى نفسه ضحية بل "متلقٍ طبيعي" لسلطة لا تُسأل ولا تُحاسَب. 

وهكذا تتحول الجملة "ضرب الحكومة مش عيب" إلى تجلٍ واضح لفكرة فوكو: حين ينجح النظام في جعل المقموع يشارك في إنتاج قهره، ويعيد إنتاج السلطة في داخل نفسه.

الجنائي والسياسي… وجعان في نظامٍ واحد

الجنائي لا يملك من العالم سوى زنزانته، والسياسي يملك منها المعنى، لكن الجدران واحدة والعنف واحد والليل واحد. كلاهما يقف عارياً أمام سلطةٍ ترى في الجسد وسيلةً للضبط. ومع ذلك، يختلف الخطاب: السياسي يتحدث عن "الانتهاك"، بينما الجنائي يتحدث عن "العيب". 

الاختلاف يبدو لغوياً، لكنه يعكس تاريخاً طويلاً من الطبقية داخل الوعي الجمعي، حيث يُنظر إلى الجنائي كـ"مذنب مستحق"، بينما يُعامل السياسي كـ"ضحية نبيلة". لكن في الحقيقة، كلاهما يُسحق في المنظومة نفسها. 

الجنائي، الذي يعيش عنف الدولة في صمت، طوّر لغته الخاصة — لغة تُبرّر القهر كي تُبقيه قابلاً للاحتمال، بينما يخرج السياسي من السجن ليتحدث عن الثورة، يخرج الجنائي ليقول ببساطة: "الحكومة كده".

لكن خلف الجملة البسيطة يكمن وعي عميق، وعيٌ بأن الظلم بنية لا حادثة، وأن الخلاص لا يأتي إلا بالتكيّف معها. اللغة هنا تصبح خط الدفاع الوحيد في مواجهة منظومةٍ تستهدف المعنى قبل الجسد، وتحاول تحويل الإنسان إلى رقمٍ في سجل الطاعة.

اللغة كمساحة مقاومة والكرامة المؤجلة

اللغة في السجن ليست وسيلة تواصل، بل وسيلة بقاء. هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للضعيف بها أن يغيّر شكل الواقع من دون أن يغيّره فعلاً. حين يقول السجين "ضرب الحكومة مش عيب"، فهو لا يصف الواقع، بل يعيد تشكيله رمزياً ليقدر على العيش فيه. 

إنها محاولة يائسة لصنع مساحة حرّة داخل عالمٍ مغلق، حرية المعنى بدلاً من حرية الجسد. في هذا السياق، يمكن اعتبار المقولة لغة مضادة للسلطة وإن بدت خاضعة. فهي في ظاهرها تبرير، لكنها في جوهرها استهزاء مبطن: "اضرب كما تشاء، لن تمنحني وصمة العار التي تريد". 

اللغة في السجن ليست وسيلة تواصل، بل وسيلة بقاء... وحين يقول السجين "ضرب الحكومة مش عيب"، فهو لا يصف الواقع، بل يعيد تشكيله رمزياً ليقدر على العيش فيه، في هذا السياق، يمكن اعتبار المقولة لغة مضادة للسلطة وإن بدت خاضعة

هذه العبارة تُفرغ السلطة من قدرتها على الإذلال، حتى لو لم تُفرغها من قدرتها على الإيذاء. وهذا ما يجعل السجن، كما قال فوكو، ليس مكاناً لإصلاح الجريمة، بل لمسرحة السلطة، ففي كل صفعة عرضٌ جديد لإثبات من يملك الجسد ومن يملك المعنى.

ربما تكون هذه الجملة التي ترددت آلاف المرات في السجون المصرية هي التعبير الأكثر دقة عن فلسفة الدولة الأمنية الحديثة: جعل الإذلال مقبولاً، والعنف طبيعياً، والخضوع بطولة. 

لكن داخل هذه المأساة اليومية، تنشأ مقاومة صامتة، مقاومة لا تُرفع فيها شعارات، بل تُقال فيها أمثال ومواويل ومقاطع ساخرة. إنها مقاومة "من الداخل"، من قلب الجرح ذاته، محاولة لخلق مساحة صغيرة من المعنى داخل ظلمة مطلقة. في النهاية، حين يقول السجين "ضرب الحكومة مش عيب"، فهو لا يدافع عن الجلاد، بل يحاول أن يسترد من العالم حقّه في المعنى. يقولها كمن يرفض أن يكون ضحية حتى وهو في قاع القهر، يقولها لأنه، في لحظة الصفر، لم يتبقَّ له سوى صوته ليقول: "أنا ما زلت إنساناً، حتى وإن سُلبت مني إنسانيتي."

ومع ذلك، يظل السؤال مفتوحاً: هل يمكن للبشرية يوماً أن تبتكر نظاماً يحفظ الأمن من دون أن يسحق الكرامة؟ وهل يمكن أن توجد عدالة لا تحتاج إلى جدرانٍ كي تثبت وجودها؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image