يُنشر هذا النص ضمن ملف "لنتخيّل"، وهو ملف مفتوح يضمّ نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات، وتقارير صحافية، يتيح مساحة للخيال ولضرورته، سواء في تخيّل ماضٍ بديل، أو واقعٍ مختلف، أو مستقبلٍ نودّ أن نعيش فيه، أو ذاك الذي قد يُفرض علينا.
صوت نَحيب ليلى كان يدوّي في الفضاء، حيث اللازمان واللامكان، وحيث فقط سراب لا حدود له، وسلاسل حديدية تلتف حول معصميها، لتقيّد حركتها في حين لا تبُصر أين تنتهي هذه السلاسل، ولا كيف المفرّ منها. ثمة إجابة واحدة هي: "غفران زوجها الدنيوي حسام علاء الدين".
ذات ليلة من ليالي الشتاء القاسية، حيث السماء معُكّرة بسحب جافة سوداء تُنذر بمطر غزير، وهزيم الرعد يضرب الثقة في القلوب فيخترقها كسهم أصاب فريسته فنال منها، جلست ليلى صاحبة الثلاثين عاماً، تلك الفتاة التي أبصرت الدنيا في منطقة التجمع الخامس شرقي العاصمة المصرية القاهرة، لأسرة تُعدّ من صفوة القوم، ليس لأخلاق أبنائها وإنما لأموالهم ونفوذهم في بلد لا يعترف سوى بالسلطة والجاه، على شرفة فيلا زوجها، تنفخ دخان سيجارتها المستورد، غير مكترثة ببرودة الجو أو ومضات البرق الخاطفة.
سيجارة تلو الأخرى، فيما تشرد ليلى متذكرةً تلك الكلمات التي استوقفتها في كتاب السيرة الشعبية "ثلاثية الأمالي لأبي علي حسن ولد خالي"، للروائي والقاص خيري شلبي، حينما تحدث عن وجود ما يسمّى بالسجن الفاصل بين الجنة ونار جهنم الحمراء، يقضي فيه الناس ما عليهم من ديون دنيوية، وخروجهم من هذا السجن مرهون بغفران صاحب الدَين، أو انقضاء مدة زمنية غير معلومة، حتى يتسنى العبور نحو الجنة الفيحاء والاستمتاع برغدها ونعيمها.
على طريقة أفلام السينما، وبينما كانت تتجه إلى النادي الليلي في منطقة الرحاب بسرعة أقرب إلى الجنونية، تفاجأت بسيارة تعبر الطريق... تلك التي كانت تُدعى سيارةً تحولت إلى كومة تحتاج إلى جميع "سمكرية" أبو رواش في الجيزة لإصلاحها
نسيت أن أخبركم كيف وقع هذا الكتاب في يد الفتاة التي لا تأتي القراءة ضمن أولوياتها؛ فقط السهر حتى وقت متأخر والتسكع مع أمثالها من "شباب إيجبت" المُولودين وفي أفواههم "ملعقة من الذهب والعاج والياقوت"، وما شئت طالما خيالك لا يزال يعمل، فقد اعتادت ذلك منذ تخرّجها من كلية إدارة الأعمال الخاصة بالجامعة الأمريكية؛ حتى أن زواجها من حسام علاء الدين، ابن الوزير السابق وأحد أكبر رجال الأعمال في الدولة، لم يُغيّر في عاداتها شيئاً، إلى أن صادفت محمود أبو بكر.
على طريقة أفلام السينما، وبينما كانت تتجه إلى النادي الليلي في منطقة الرحاب بسرعة أقرب إلى الجنونية، تفاجأت بسيارة تعبر الطريق، لتكبح فراملها التي نجّت صاحب السيارة (محمود أبو بكر) من الموت؛ لكن تلك التي كانت تُدعى سيارةً تحولت إلى كومة تحتاج إلى جميع "سمكرية" أبو رواش في الجيزة لإصلاحها.
اعتذارات تلاها تبادل أرقام، لتنشأ علاقة سريعة بين الشاب صاحب الميول اليسارية والساخط على النظام، والفتاة التي أبصرت عالماً جديداً بعيداً عن العالم الذي أحاط عقلها بسور "كومبوند" شاهق، فما كان من أبو بكر في لقاء لاحق إلا أن أهداها هذه السيرة الشعبية كعربون محبة تحولت مع مرور الوقت إلى علاقة مساكنة؛ الجنس فيها متاح دون حاجة إلى ورقة عليها ختم مأذون واثنين من الشهود.
العلاقة الغرامية مع الشاب اليساري كانت تفيض بمشاعر مُلتهبة، افتقدتها مع زوجها المشغول على الدوام بـ"البزنس" واستثمارات عائلته داخل مصر وخارجها، حيث يتركها بالأشهر غير مُكترث لمزاجها أو وجودها، لتجد في أبو بكر ما حُرمت منه؛ اهتمام وحبّ وغرام محرّم، لتمضي عامين تعاشر زوجها في مرات معدودة، بينما تفترش سرير عشيقها ليالي متواصلةً، وفي أحيان كثيرة سرير زوجها الغائب.
الكتاب الذي جاء عربون محبة ولم يغادر رفوف مكتبة زوجها، وقع أمام عيني أبو بكر حينما كان يتجول في منزل عشيقته، ليذكّرها بكيف يكنّ معزّةً خاصةً لهذا الكتاب الذي كان حلقة الوصل الأولى بينهما، ويطالبها بأن تتصفحه؛ لعلهما يجدان مساحةً مشتركةً للحديث بخلاف الجنس والغرام.
العلاقة الغرامية مع الشاب اليساري كانت تفيض بمشاعر مُلتهبة، افتقدتها مع زوجها المشغول على الدوام بـ"البزنس" واستثمارات عائلته داخل مصر وخارجها.
في تلك الليلة التي أخبرتك عنها في ما سبق، حيث كان الشتاء يزأر مرسلاً تحذيراته لباقي فصول السنة، بأنه "الفتوّة" والأقوى فتكاً ببني البشر، صوت داخلي هاتف ليلى طالباً منها أن تخوض تجربةً مع هذا الكتاب، حتى وصلت إلى السطور التي تتحدث عن سجون عدة موجودة في منطقة وسط بين الجنة والنار، وتُعدّ خياراً ثالثاً يوم القيامة، حين تنتهي الدنيا ويُحاسَب الأفراد، كلّاً على حسب ميزانه، ومن تسقط حسناته أمام براثن سيئاته، فالسجن دفتر مصاريف.
الشرود الذي غالب ليلى في تلك الأثناء، صاحبه تساؤل خيالي: ماذا لو كان السجن حقيقةً؟ فالمعروف لدى البشر، أنّ نهاية الدنيا وقيام الساعة خياران لا ثالث لهما؛ إما الظفر بكلّ ملذات الحياة وغير الحياة التي لم تخطر على عقل أنسيّ، أو السقوط في الهول الكبير، حيث النار الحمراء واللهيب الذي لا يُمكن تصوّر شدّة عذابه.
برودة الطقس لم تفلح في إذابة شرود ليلى، لكن القلق الذي داهم قلبها بغتةً جعلها تمسك بهاتفها لتبحث عن احتمالية وجود سجن في الآخرة، حيث وقعت عيناها على حديث شريف ورد في صحيح البخاري، نصّه: "عَنْ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: إذَا خَلَصَ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بقَنْطَرَةٍ بيْنَ الجَنَّةِ والنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بيْنَهُمْ في الدُّنْيَا، حتَّى إذَا نُقُّوا وهُذِّبُوا أُذِنَ لهمْ بدُخُولِ الجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لَأَحَدُهُمْ بمَسْكَنِهِ في الجَنَّةِ أدَلُّ بمَنْزِلِهِ كانَ في الدُّنْيَا".
وبالطبع لم تَعي ما الذي يعنيه هذا الحديث، لتواصل عملية البحث وهنا سقطت في موقع "إسلام ويب" الذي سمعت عنه قديماً في فترات مراهقتها من الفتيات المعدودات اللواتي كنُ يتمسكن بالحجاب وسط عالم الانفتاح الغربي، إلا أنّ المفاجأة أنها اكتشفت وجود منطقة تشابك بين الصراط ودخول الجنّة، حيث "يُحبَسُ المؤمِنون بعْدَ أنْ يَتجاوَزوا الصِّراطَ ويُنَجِّيَهم اللهُ –عزّ وجل- مِن النَّارِ، فتُوقِفُهم الملائكةُ على جِسْرٍ بيْن الجنَّةِ والنَّارِ، فيَقْتَصُّ المَظلومُ مِن ظالِمِه حَقَّه الَّذي اعتَدَى عليه في الدُّنيا، وهذه المُقاصَّةُ هي لقَومٍ دونَ قومٍ، وهمْ مَن لا تَستغرِقُ مَظالِمُهم جَميعَ حَسَناتِهم".
الخيال الممزوج بالقلق، حطّ رحاله في عقل ليلى ليصحبها إلى منطقة السجون في الآخرة؛ لكنها ليست معتقل "غوانتانامو"، وليست كذلك مركز الإصلاح والتأهيل في وادي النطرون؛ هنا سجن مُختلف، لا أرض له ولا سقف، والنوم لا يعرف طريقاً إلى العيون، في حين تتوقف آلة الزمن، والوقت يمرّ بطيئاً كأنّه لا يَمرّ، وأناس يسبحون في الفضاء مقيّدين بسلاسل تمتد كثراب صحراء لا نهاية لها، وصوت فحيح الأفاعي يدوّي في الأرجاء، ومشاهد الخيانة والسرقة والكذب والرياء تُعرض أمام الملأ بجودة تتفوق على الـ4k.
الأدهى أنّ البعض كان يفضّل خيار السجن على مغامرة الجنة والنار، خاصةً من يعلم أنّ موازينه مُثقلة وفرصة النجاة تكاد تكون معدومةً، فيختار السجن علّ الرحمة تعرف طريق أصحاب الحقوق ، ويقرروا العفو عنهم ومنحهم تذكرة عبور إلى أبواب الرضوان.
حسام لم يكن مشاهداً فحسب، بل كان ممسكاً بمفتاح هو سرّ شقائها وكذلك نجاتها، ففي السجن لا حيلة إلا بالغفران، ومن يمتلك صكّ الغفران ينجُ، والمفاتيح هي لأصحاب الحقوق فقط، الذين يمكنهم أن يقتصوا ممن ظلموهم فيبقوا في السجن إلى ما لا نهاية، وأيضاً يمكنهم العفو والغفران
في هذه الأثناء، كان صوت نحيب الفتاة قد بدأ في العلو، هي التي وجدت نفسها مقيّدةً بسلاسل، تشاهد نفسها في علاقة غرامية لا تنقطع مع الشاب اليساري، في مشاهد تفوق أعظم ممثلي "أفلام البورنو"، بينما يقف زوجها حسام علاء الدين ليشاهد زوجته "بنت الذوات" في أحضان شابّ لم يسبق أن صادفه، بل الأدهى أنه كان مرتدياً "الروب الشخصي" الخاص به، ويفترش سريره!
حسام لم يكن مشاهداً فحسب، بل كان ممسكاً بمفتاح هو سرّ شقائها وكذلك نجاتها، ففي السجن لا حيلة إلا بالغفران، ومن يمتلك صكّ الغفران ينجُ، والمفاتيح هي لأصحاب الحقوق فقط، الذين يمكنهم أن يقتصوا ممن ظلموهم فيبقوا في السجن إلى ما لا نهاية، وأيضاً يمكنهم العفو والغفران.
"ليلى… ليلى... ليلى... إنتي سمعاني!؟"؛ الصوت كان يطرق أبواب أذنَي الفتاة الشاردة بينما عقلها كان معلّقاً في قيود سجن الآخرة، وسط نظرات استجداء لزوجها علّه يسامحها ويمنحها صكّ الغفران. فجأةً يضع يده على كتفها ليتأكد أنها بخير، قبل أن يختلط عليها الأمر؛ أهي في الدنيا أو في سجن الآخرة؟ ثم يفاجئها باحتضانها وبكلمات مثل: "وحشتيني… أنا لسه واصل من المطار حالاً"، ليقضي الكتاب بقية الليلة يخاطب السحاب المكلومة، بينما ليلى غارقة في فراش زوجها القادم من رحلة خارجية امتدت لأشهر، فيما الهاتف يصيح برنّات متواصلة من الشابّ اليساري دون مُجيب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.