رميت النرد على الطاولة الخشبية الصغيرة في مقهى زهرة البستان، المقهى الذي كان ولا يزال يشبه بيتاً بديلاً، مأوى لكل من ضاقت به الدنيا أو وسعت عليه بالأسئلة. اهتزّت الطاولة قليلاً من قوة الرمية، وتدحرجت "القواشيط" البيضاء والسوداء مثلما تتدحرج أيامنا، ومثلما تتساقط الطبقات الاجتماعية من أعلى إلى أسفل في لعبة قاسية أكبر بكثير من لعبة الطاولة.
تأملت حركة النرد، وشعرت بأنها أشبه بإنذار صغير: انقلاب محتمل. ليس انقلاباً في لعبة فحسب، بل انقلاب يلوح على مستوى المكان والمدينة والذاكرة.
وسط البلد الذي عرفته وعرفته أجيال قبلي، لم يعد كما كان. هويته البصرية، تلك التي تشكلت عبر العمارة الأوروبية العتيقة، وألوان الجدران المتآكلة، والمقاهي التي كانت معابد صغيرةً للفكر والفن، كلها تتعرض اليوم لتهديد صريح. رأس المال الزاحف، بجبروته ودهائه، يريد أن يغيّر الجلد، أن يفرض على المكان هويةً جديدةً تجاريةً لامعة، بلا ذاكرة، وبلا ملامح إنسانية.
الممر… طريق قصير وذاكرة طويلة
من زهرة البستان إلى مقهى "ريش"، يمتد ممرّ قصير، لكنه في ذاكرة المدينة أطول من أي شارع. هنا مشيت مئات المرات مع أصدقاء وأدباء، بعضهم رحل وبعضهم بقي شاهداً مثلي. كنت أرى في كل حجر من حجارة الرصيف بقايا أقدام يوسف إدريس، أو ظلّ نجيب محفوظ وهو يعبر بهدوئه المعتاد، أو لمحة من ابتسامة إبراهيم أصلان، أو حماسة أحمد فؤاد نجم وهو ينشد قصيدته في لحظة غضب.
ذلك الممرّ لم يكن مجرد معبر بين مقهى وآخر، بل كان جسراً بين زمنين: زمن ثقافة كانت تنبض في الشارع، وزمن جديد يريد أن يستبدل الثقافة بعلامات تجارية لامعة، وبأضواء مصطنعة لا تدفئ قلباً ولا تفتح نقاشاً.
إبراهيم داود والنرد الثاني
حين جلستُ ألعب الطاولة، كان بجواري صديقي إبراهيم داود. أخذ النرد من يدي ورماه هو الآخر. سقطت الأرقام متفرقةً، كأنها تعكس حوارنا الداخلي. قال وهو يبتسم نصف ابتسامة:
"النرد لا يرحم، مثلما لا ترحم المدن أبناءها".
من زهرة البستان إلى مقهى "ريش"، يمتد ممرّ قصير، لكنه في ذاكرة المدينة أطول من أي شارع. هنا مشيت مئات المرات مع أصدقاء وأدباء، بعضهم رحل وبعضهم بقي شاهداً مثلي
تأملت كلامه. بالفعل، القاهرة تغيّرت. الطبقة الوسطى التي كنا منها، تلك الطبقة التي كانت قادرةً على شراء كتاب، أو حضور عرض مسرحي، أو الجلوس في مقهى لتبادل الأفكار، تتعرض للتآكل. ومع تآكلها، يتآكل الفضاء الذي نشأت فيه هويتنا الثقافية.
الذائقة الجديدة
أعرف أنّ لكل زمن ذائقته. لكن الذائقة التي تزحف إلى وسط البلد اليوم ليست ابنة المكان، بل دخيلة عليه. لم تعد المقاهي تحتفي بالكتب والنقاشات والجدالات حول الشعر والمسرح والسينما. صارت تقيس نجاحها بعدد الأكواب التي تباع، وبمستوى "الديكور" المستورد.
أسمع الموسيقى الصاخبة تنبعث من مقهى جديد فتح أبوابه بجوارنا. موسيقى بلا روح، تعلو على أصوات الأحاديث المتقطعة. أقول لنفسي: هذه ليست موسيقى زهرة البستان، ولا موسيقى "ريش"، ولا حتى موسيقى غروبي القديم. هذه موسيقى سوق، لا موسيقى مدينة.
الصور الأخيرة
روّاد زهرة البستان، وأنا منهم، صاروا يلتقطون الصور بكثرة. كأننا ندرك أن المكان يوشك أن يغادرنا، وأننا نريد أن نحتفظ منه بذكرى مادية: صورة. كم مرةً رأيت شاباً أو فتاةً تقف أمام الطاولة الخشبية لتصوّر فنجان قهوة لا يختلف في طعمه عن أيّ قهوة، لكن طعمه في الذاكرة مختلف. الصورة محاولة يائسة لتثبيت الزمن، ولتجميد لحظة نخشى ضياعها.
الاستبدال والرحيل
كل شيء في وسط البلد مهدد بالاستبدال: السكان، المحال، المقاهي، وحتى الوجوه. سكان الطبقة الوسطى، الذين شكلوا العمود الفقري للمكان، يُجبرون على الرحيل. أسعار الشقق ترتفع، الضرائب تزداد، الضوضاء تستفحل. يحلّ محلهم مستثمرون جدد، يبحثون عن الربح السريع، لا عن إقامةٍ في مكان له ذاكرة.
أفكر في سكان الأطراف الذين كانوا يأتون إلى هنا باشتياق، ليشعروا أنهم جزء من قلب المدينة. اليوم لم يعد قلب المدينة يفتح ذراعيه، بل صار مكاناً طارداً، يخنق من يحاول أن يتنفس فيه.
الحوار في الممر
في إحدى المرات، وأنا أعبر الممر بين زهرة البستان و"ريش"، سمعت شاباً يقول لصديقه:
"تعالَ نصوّر هنا، المكان شكله حلو".
ابتسمت في داخلي. "المكان شكله حلو"؟! شكله فقط؟ وماذا عن روحه؟ ماذا عن ذاكرته؟
لكنني لم ألمه. هو ابن زمن جديد، زمن الصورة السريعة التي تُستهلك ثم تُرمى. لم يعرف أن هذه الجدران شهدت نقاشات سياسيةً كبرى، وأنّ هذه الطاولات احتضنت قصائد وكتابات غيّرت وجه الأدب العربي.
روّاد زهرة البستان، وأنا منهم، صاروا يلتقطون الصور بكثرة. كأننا ندرك أن المكان يوشك أن يغادرنا، وأننا نريد أن نحتفظ منه بذكرى مادية.
لا أستطيع المرور بالممرّ دون أن أستحضر وجوهاً عدة. أرى بهاء طاهر جالساً في زاوية، يستمع أكثر مما يتكلم. أرى محسن حلمي متحمساً، يلوح بيده وهو يروي فكرةً جديدةً. أرى صنع الله إبراهيم، صامتاً كعادته، لكنه يقول الكثير بنظرته. أرى سعدي يوسف في زيارة عابرة، وأرى الأبنودي حين كان يلتقي الأصدقاء هنا، وأسمع صوته وهو يقرأ "الخواجة لامبو".
كل هؤلاء مرّوا من هنا، وهذا الممر كان شاهداً على زمن كامل. فكيف نقبل أن يُمحى كل هذا التاريخ بجرّافة أو بلافتة جديدة؟
"الجَنتَرة" والهوية البصرية
كلمة "الجَنتَرة" باتت على كل لسان، وتعني أنّ المكان يُعاد تشكيله ليخدم مصالح فئة جديدة، على حساب الفئات القديمة. لكن وسط البلد ليس حيّاً عادياً. وسط البلد ذاكرة وطن. "الجَنتَرة" هنا لا تعني فقط رفع الأسعار أو طلاء الجدران بلون مختلف، بل تعني محو هوية بصرية كاملة.
الهوية البصرية لوسط البلد ليست في واجهات العمارات وحدها، بل في تفاصيل صغيرة: في المقاهي، في أصوات الباعة، في الخطوط التي كُتب بها اسم المحل على لافتة قديمة، وفي رائحة الكتب المستعملة على الرصيف. هذه التفاصيل كلها تُستبدل اليوم بتفاصيل مصطنعة، بلا تاريخ، وبلا عمق.
انقلاب النرد… وانقلاب الحياة
أعود إلى الطاولة. إلى النرد. أرميه من جديد. الأرقام تتناثر أمامي. في كل مرة أشعر أنّ النرد يعلن لي مصيراً محتملاً: أن نفقد المكان، وأن نفقد أنفسنا.
أقول لإبراهيم داود:
"هل يمكن أن نكسب هذه اللعبة؟".
يرد بهدوء:
"يمكن أن نكسب لحظات فقط. أما اللعبة الكبرى، فلها لاعبون آخرون".
طبقة مهددة
أعرف أنّ ما يحدث في وسط البلد ليس معزولاً عما يحدث في مصر كلها. الطبقة الوسطى التي شكلت القوة الاجتماعية والثقافية الأهم، تتعرض لتآكل شديد. هذه الطبقة لم تكن تملك القصور، لكنها كانت تملك الحلم. لم تكن تملك رأس المال الكبير، لكنها كانت تملك القلم والكتاب والآلة الكاتبة والغيتار والقصيدة. ومع ذبول هذه الطبقة، يذبل معها المكان الذي كان يعكس صورتها.
ذاكرة شخصية وجماعية
كلما عبرت الممر، أستعيد ذكرياتي الشخصية: لقاءاتي الأولى مع أصدقاء الشعر، ضحكاتنا، ونقاشاتنا التي كانت تمتد لساعات. لكنني أعلم أنّ هذه ليست مجرد ذكرياتي. هذه ذاكرة جماعية، لذاكرة مدينة بأكملها. وإذا فقدناها، نفقد أنفسنا.
أقول لإبراهيم داود: "هل يمكن أن نكسب هذه اللعبة؟" يرد بهدوء: "يمكن أن نكسب لحظات فقط. أما اللعبة الكبرى، فلها لاعبون آخرون"
أسأل نفسي دائماً: ما مستقبل وسط البلد؟ هل ستبقى فيه بقية من ذاكرته؟ أو أنه سيصبح مجرد نسخة مشوهة من مول تجاري كبير؟
أخشى أن نصل إلى يوم لا يجد فيه الباحث عن الثقافة سوى لافتات مضيئة، ومقاهٍ بلا روح، وأناس لا يعرفون من كان هنا قبلهم.
محاولة أخيرة
أرمي النرد مرةً ثالثة. أضحك مع إبراهيم داود. نعرف أننا لا نملك أن نوقف عجلة الرأسمال، لكننا نملك أن نكتب، أن نحكي، وأن نوثّق. ربما يكون هذا أضعف الإيمان.
ربما لن نستطيع إنقاذ المكان كما كان، لكننا نستطيع أن نحمي ذاكرته من النسيان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.