ثلاث وقائع في سوريا تزامنت وفضحت

ثلاث وقائع في سوريا تزامنت وفضحت "خطاب العدالة" في نيويورك 

رأي نحن والتطرف

الجمعة 26 سبتمبر 20257 دقائق للقراءة

يليق بالمسرح لا بالسياسة أن يفتتح رئيس انتقالي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بعبارة: "الحكاية السورية حكاية تهيج فيها المشاعر ويختلط فيها الألم بالأمل". فالجملة التي بدت كأنها مقدمة لملحمة شعرية، جاءت في لحظة لا تحتاج إلى الشعر بقدر ما تحتاج إلى الخبز، ولا إلى البلاغة بقدر ما تحتاج إلى الأمن. 

في تلك اللحظة، وبينما كان الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، يشرح للعالم أنّ سوريا تكتب "فصلاً مشرقاً من فصول الصراع"، كان السوريون في الداخل يكتبون فصولاً أكثر قتامةً: رغيف خبز مفقود في السويداء، توتر مسلّح في حماة، واعتقال صحافي عند الحدود.

كافكا كتب مرةً: "كل ثورة تتبخر وتترك خلفها طين البيروقراطية".

والخطاب الأممي الذي حمل مفردة "العدالة" عشر مرات على الأقل، لم يكن سوى إعادة إنتاج لهذه البيروقراطية، لكن بوجه جديد وابتسامة هادئة، بينما العدالة نفسها تُسحَب يومياً من تحت أقدام الناس.

الرغيف الضائع

في اليوم الذي ألقى فيه الشرع خطابه، استيقظت السويداء على توقف بعض الأفران عن العمل ليوم كامل بعد نفاد الطحين، قبل أن تصل شحنة إسعافية بالكاد تكفي أياماً قليلة.

المحافظة التي تحتاج يومياً إلى 120 طناً من الطحين لا تحصل إلا على نصفها، ما يخلق طوابير طويلةً على الأفران ويدفع الأهالي إلى شراء الخبز بأسعار مضاعفة من السوق السوداء. هذه الأزمة لا تقف عند حدود الجوع، بل تفاقم شعور الناس بالخذلان: من دولة تعجز عن تأمين قوت يومهم، ومن معارضة مشغولة بخطاباتها الدولية أكثر من همومهم اليومية.

حتى التضامن الأهلي ـ-الذي اشتهرت به السويداء- بدأ يتآكل تحت وطأة الفقر، إذ لم تعد العائلات قادرةً على تحمّل أعباء مساعدة جيرانها أو توزيع الخبز مجاناً كما كان يحدث سابقاً. هنا تتحول أزمة الطحين إلى أزمة ثقة كاملة، فالجوع لا يكسر المعدة فحسب، بل يكسر العقد الاجتماعي. 

في اليوم الذي ألقى فيه الشرع خطابه، استيقظت السويداء على توقف الأفران عن العمل بعد نفاد الطحين، قبل أن تصل شحنة بالكاد تكفي أياماً قليلة. فالمحافظة تحصل على نصف حاجتها من الطحين، ما يدفع الأهالي إلى شراء الخبز بأسعار مضاعفة من السوق السوداء

رئيس لجنة الإغاثة في السويداء، فادي الشعراني، شدد على الحاجة إلى زيادة كميات الطحين الموردة من برنامج الأغذية العالمي، وإلى وجود مخزون إستراتيجي للطوارئ لا يقلّ عن مئة طن، وعلى أنّ أزمة المازوت المستمرة تعرقل عمل المخابز وتهدد الأمن الغذائي للأهالي.

وبرغم أنّ حديثه جاء في إطار مطالب عملية محددة، إلا أنه يكشف ـ بشكل غير مباشرـ عن صورة أشمل للواقع المعيشي في المحافظة: مواد أساسية كالدقيق والمازوت لم تعد مجرد تفاصيل لوجستية، بل صارت خطوط حياة يومية تحدد استقرار العائلات وقدرتها على مواجهة الأزمات. في هذا السياق، يبدو أنّ النداء ليس موجهاً للعالم الخارجي فقط، بل هو انعكاس لحاجة داخلية ملحة لتأمين أبسط مقومات البقاء.

إذاً، كيف يمكن لسوريا أن تبيع العالم قصة العدالة الانتقالية، فيما أبسط حقوق العدالة الاجتماعية (الحق في الخبز) لا تزال مؤجلةً؟

السلم الأهلي على خط النار

وبينما كان الرئيس يتحدث عن "ملء فراغ السلطة" و"ضمان السلم الأهلي"، كان ريف حماة يغلي على وقع تصعيد خطير: خطف جندي، بث فيديو تعذيبه، هجوم مسلح، تعزيزات أمنية، ومطاردة للمهاجمين.

لكن ما يجعل هذا التصعيد أكثر تعقيداً، هي الخلفية المشتعلة لحادثة اغتصاب الشابة روان الأسعد، حيث تتهم عائلات محلية عناصر حكومية بالضلوع فيها، ما جعل القضية تتحول من جريمة فردية إلى شرارة تهدد السلم الاجتماعي برمّته. الغضب لم يعد أخلاقياً فقط، بل صار فعلاً سياسياً مسلّحاً، تعبيراً عن فقدان الثقة الكامل بمؤسسات العدالة الرسمية.

بينما كان الرئيس يتحدث عن ضمان السلم الأهلي، كان ريف حماة يغلي على وقع تصعيد خطير: خطف جندي، بث فيديو تعذيبه، هجوم مسلح، تعزيزات أمنية، ومطاردة للمهاجمين.

هذه الحادثة قد تفتح الباب لدوامة انتقام متبادل، إذ يشعر كثيرون أنّ "العدالة العشائرية" هي الملاذ الأخير حين تغيب العدالة القانونية، وهو ما قد يجرّ المنطقة إلى سلسلة من الثأر والاقتتال الأهلي، تعيد مشاهد السنوات الأولى من الحرب إلى الواجهة.

الأدهى أنّ الحكومة تكتفي بإرسال تعزيزات أمنية، من دون أي إعلان شفاف عن التحقيقات أو محاسبة المتورطين، ما يزيد من قناعة الناس بأنّ الدولة تحمي الجناة لا الضحايا.

أليس من المفارقة أن يجري الحديث في نيويورك عن "المصالحة" بينما تنفجر ألغام الغضب الاجتماعي في بلدات صغيرة لا يعرف أحد أسماءها في القاعة الأممية؟

اعتقال الذاكرة

العدالة الانتقالية التي بشّر بها الشرع، لم تصمد حتى نهاية خطابه؛ ففي اليوم نفسه، وفي أثناء انشغال الشاشات بكلمة "العدالة" في نيويورك، أقدمت السلطات على اعتقال الصحافي والحقوقي عامر مطر عند معبر الجديدة، بعد أيام قليلة من افتتاحه متحفاً يوثّق تاريخ الاعتقال السوري. عامر مطر، الذي نجا من السجون ليحوّل ألمه إلى ذاكرة جماعية، وجد نفسه مجدداً ضحيةً للذاكرة نفسها التي أراد حمايتها.

أثناء انشغال الشاشات بكلمة "العدالة" في نيويورك، أقدمت السلطات على اعتقال الصحافي والحقوقي عامر مطر عند معبر الجديدة، بعد أيام قليلة من افتتاحه متحفاً يوثّق تاريخ الاعتقال السوري. عامر الذي نجا من السجون ليحوّل ألمه إلى ذاكرة جماعية، وجد نفسه مجدداً ضحيةً للذاكرة نفسها التي أراد حمايتها

لكن اعتقال مطر ليس حادثةً معزولةً؛ بل هو جزء من مشهد متكامل لتقييد حرية الرأي في سوريا. فقبل مدة ليست ببعيدة، تعرّضت الصحافية زينة شهلا للضرب والإهانة اللفظية أمام مقرّ مجلس الشعب، في أثناء مشاركتها في وقفة صامتة حملت شعار "دم السوري على السوري حرام"، فيما تلقّى الصحافي أنس إدريس، المعروف بلقب أحمد القصير، مراسل تلفزيون سوريا، تهديداً مباشراً بالقتل من عنصر أمني، بالتزامن مع اعتداء جماعي على المصوّر خليل زهوري في مدينة القصير. 

أما المنتقدون السلميون للسلطة، فلم ينجوا من حملات التخوين والتهديد الممنهجة على وسائل التواصل الاجتماعي، وكأنّ الفضاء العام يجب أن يظلّ معقماً من أي صوت خارج السردية الرسمية.

هذه الوقائع تضع سؤالاً أكبر أمام ما يُسمّى بالمرحلة الانتقالية: أيّ عدالة هذه التي تبدأ بإسكات الشهود؟ أي ذاكرة يمكن أن نحفظها إذا كان حاملوها مهددين بالاعتقال أو النفي أو التصفية المعنوية؟ إذا كان حفظ الذاكرة جريمة، فربما يجب أن نعيد تعريف كلمة "عدالة" من الأساس.

بين نيويورك ودمشق

هكذا، وبينما كانت كاميرات العالم تصوّر الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، وهو يتحدث عن مستقبل مشرق والمرحلة الانتقالية، كان السوريون يختبرون يومهم بين طوابير الخبز، وانقطاع المازوت، ودوريات الأمن، والخوف من الاعتقال. الفارق بين الصورتين ليس مجرد مفارقة عابرة، بل يتمثل في الفجوة التي تلتهم أعمار الناس يوماً بعد يوم، وتترك أثرها العميق على الحاضر والمستقبل.

المشهد أقرب إلى تراجيديا يونانية: البطل يقف على المنبر يروي ملحمة الانتصار، بينما الجوقة في الخلف تصرخ من الجوع، وتبحث عن الخبز والوقود والحد الأدنى من الأمان. وبينما تُصاغ الكلمات بلغة السياسة والدبلوماسية في نيويورك، تُكتب حياة الناس في الداخل بلغة الفقدان والانتظار؛ انتظار كهرباء، أو راتب، أو مفقود يعود.

وربما هذا هو جوهر الحكاية السورية اليوم: خطاب ضخم على المنابر، وحياة تضيق أكثر فأكثر حتى لم تعد تتسع إلا للألم، وكأنّ قدر السوريين أن يعيشوا بين وعد لا يتحقق وواقع لا يرحم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منذ 12 سنةً، مشينا سوا.

كنّا منبر لناس صوتها ما كان يوصل،

وكنتم أنتم جزء من هالمعركة، من هالصوت.

اليوم، الطريق أصعب من أي وقت.

وصرنا بحاجة إلكن.

Website by WhiteBeard
Popup Image