عقب حصار وحشي امتدّ 18 شهراً، أعلنت قوات الدعم السريع بسط سيطرتها الكاملة على مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، التي شكّلت المعقل الأخير للجيش السوداني في دارفور (غربي البلاد)، وسط مخاوف واسعة من أن يكون شبح تقسيم السودان أقرب من أي وقت مضى، بالتزامن مع احتدام المعارك في مناطق أخرى بين طرفَي الصراع الذي بدأ في نيسان/ أبريل 2023، ولم يتوقّف حتى اللحظة.
وفيما تُتّهم قوات الدعم السريع بارتكاب جرائم قتل واسعة وتنكيل وانتقام جماعي منذ إحكامها سيطرتها على الفاشر بما يرقى في رأي مراقبين إلى "تطهير عرقي"، يتهم كثيرون الجيش السوداني بالتخلّي عن الفاشر وخذلان أهلها وتسليمها بلا مقاومة للجنجويد، الاسم الآخر لـ"الدعم السريع".
فما الذي يعنيه استيلاء "الدعم السريع" على الفاشر؟ ولماذا يُهدد ذلك بتقسيم البلاد؟ هذا ما يسعى رصيف22 إلى الإجابة عنه في هذا التقرير.
الجنجويد متهمون بارتكاب مجازر و"تطهير عرقي"، والجيش متّهم بـ"التخلّي عن المدينة وخذلان أهلها"... ما الذي يعنيه استيلاء "الدعم السريع" على الفاشر بعد 18 شهراً من الحصار الوحشي؟ ولماذا يُهدد ذلك بتقسيم السودان أكثر من أي وقت مضى؟
ما معنى سقوط الفاشر في أيدي "الدعم"؟
أثار خبر سيطرة الجنجويد على الفاشر المخاوف من تقسيم البلاد مرةً أخرى، بعد عقد واحد من استقلال جنوب السودان، عام 2011، حيث أحكمت القوات التي يتزعمها محمد حمدان دقلو، الشهير بـ"حميدتي"، قبضتها على إقليم دارفور، فضلاً عن أجزاء من الجنوب، فيما يسيطر الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان على المناطق الممتدة على طول نهر النيل والبحر الأحمر في شمال البلاد وشرقها ووسطها.
وبحسب وكالة "رويترز"، يمكن للسيطرة الكاملة على الفاشر أن تكرّس تقسيماً جغرافياً فعلياً للسودان بين الفصائل العسكرية المتناحرة، ولا سيّما أنّ "الدعم السريع" تتخذ من دارفور معقلاً له وقد شكّلت فيها حكومةً موازيةً، ويقيم فيها حالياً كبار قادة الجنجويد وعلى رأسهم حميدتي.
فضلاً عن ذلك، ربما تستغلّ هذه القوات الزخم المترتب على إعادة سيطرتها على كامل إقليم دارفور لمحاولة استعادة السيطرة على مناطق أخرى من البلاد. الخطير أن "الدعم السريع" حقّقت مكاسب ميدانيةً أخرى، مطلع الأسبوع الجاري، في مدينة بارا الإستراتيجية (شمال كردفان)، التي تقع عند مفترق طرق بين الخرطوم ودارفور، ما يجعلها على بُعد ساعات فقط من العاصمة.
خلال الأشهر الأخيرة، ركّزت قوات الدعم السريع هجماتها على دارفور (الغنية بالذهب) وكردفان (الغنية بالنفط)، عقب نجاح الجيش في إحكام سيطرته على مناطق رئيسية وحيوية في وسط البلاد بما في ذلك العاصمة الخرطوم. في المقابل، كثّف الجيش هجماته الجوية على نيالا، عاصمة جنوب دارفور، التي اتخذت منها "الدعم السريع" مقراً لحكومتها الموازية.
إلى ذلك، يرى مدير مشروع القرن الإفريقي في مجموعة الأزمات الدولية، آلان بوسويل، أنّ "هذه هي اللحظة التي يخشى كثيرون أن تؤدي إلى تقسيم واضح للسودان"، محذراً من أنه "سواء تحقّق هذا السيناريو أو لا، فقد بات السودان في حكم المقسّم. وكلّما طال أمد هذه الحرب، من المرجّح أن يصبح هذا التقسيم أكثر رسوخاً ومن الصعب الحؤول دونه". ويذهب بوسويل أبعد بقوله إنّ سقوط الفاشر يمنح قوات الدعم السريع نفوذاً أكبر في محادثات السلام حيث إنه "عسكرياً، يسمح لها أيضاً بنشر مزيد من الموارد والمقاتلين على خطوط المواجهة".
وتنقل وكالة "فرانس برس" عن كاميرون هدسون، من مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) في واشنطن، أنّ سيطرة "الدعم السريع" على دارفور من شأنها أن تعزّز مزاعمها عن طابعها الشرعي كحكومة.
وتتزايد مخاطر تقسيم السودان بالنظر إلى الدعم الخارجي الذي يحظى به طرفا الصراع إذ يتمتّع الجيش بدعم كل من مصر والسعودية وإيران وتركيا، فيما تتلقى "الدعم السريع" أسلحةً ومسيّرات من الإمارات، وفق ما أثبتته تقارير الأمم المتحدة، علماً أنّ أبو ظبي تنفي ذلك.
ويُعدّ هذا الدعم الخارجي المستمر أحد أبرز أسباب استدامة الصراع وفشل محادثات السلام التي تشرف عليها الولايات المتحدة الأمريكية وقوى إقليمية. وكانت أحدث جولة من المفاوضات قد استضافتها واشنطن الأسبوع الماضي وشاركت فيها أيضاً مصر والسعودية والإمارات، بجانب ممثلين عن طرفَي الصراع، لكنها لم تشهد تقدّماً.
موقف إنساني معقّد وبائس
بعيداً عن الجانب السياسي، عمّق سقوط الفاشر في أيدي "الدعم السريع" المخاوف على مصير أكثر من 250 ألف شخص لا يزالون فيها، خاصةً أن هذا الحدث يأتي بعد 18 شهراً من الحصار عانى فيها سكان المدينة الجوع وسوء التغذية والكثير من الأمراض المترتبة على ذلك حتى اضطرت العديد من الأسر إلى تناول علف الحيوانات.
وتداول العديد من السودانيين النشطين عبر الإنترنت، مقاطع الفيديو والصور التي تُظهر احتفال عناصر من "الدعم السريع" بالاستيلاء على الفاشر ومن حولهم عشرات الجثث لمدنيين على ما يبدو من بينهم نساء وأطفال، بإطلاق الرصاص في الهواء وهتافات مثل: "الله أكبر" و"سودان جديد يتقدم سودان قديم يتحطم"، الشعار الذي ترفعه الحكومة الموازية الموالية للجنجويد.
وبُثّت مقاطع مصوّرة لعناصر الجنجويد وهم يطلقون الرصاص على أشخاص عُزّل. كما تكرّرت المناشدات عبر الإنترنت بشأن مئات المدنيين/ ات، الذين/ اللواتي كانوا/ كنّ قد فرّوا/ ررن إلى المدينة من مدن وقرى مجاورة في وقت سابق، وورد أن "الدعم السريع" تحتجزهم.
ونبّه المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، فولكر تورك، إلى أن "الانتهاكات والفظائع ذات الدوافع الإثنية" باتت خطراً متزايداً.
وفيما لفتت المنظمة الدولية للهجرة إلى أنّ المعارك أدّت إلى نزوح نحو 26 ألف شخص، ذكر مصدران عسكريان ومصدران من منظمات إنسانية، لرويترز، أن عناصر "الدعم السريع" يوجهون المدنيين الفارين إلى البلدات المحيطة بالفاشر لإنشاء مخيّمات للنازحين هناك.
وأوضح شهود عيان للوكالة، أنهم أُرسلوا إلى بلدة قرني القريبة، سيراً على الأقدام، مؤكدين أنّ مئات الأشخاص، من بينهم نساء وأطفال، لا يزالون محتجزين لدى "الدعم السريع" في الفاشر.
وقد حذّرت منسقة الأمم المتحدة المقيمة للشؤون الإنسانية في السودان، دينيس براون، من أن البالغين والأطفال الذين غادروا الفاشر عبر طرق غير آمنة "يعانون الجفاف وسوء التغذية وبعضهم مصاب جسدياً وجميعهم مصاب بصدمات نفسية"، وفق ما نقلت "رويترز".
خلال الأشهر الأخيرة، ركّزت "الدعم السريع" هجماتها على دارفور (الغنية بالذهب) وكردفان (الغنية بالنفط)، عقب نجاح الجيش في إحكام سيطرته على مناطق رئيسية وحيوية بما في ذلك العاصمة الخرطوم. في المقابل، كثّف الجيش هجماته الجوية على نيالا، مقرّ حكومة الجنجويد الموازية. ما الذي يحدث في السودان؟
وتزعم "الدعم السريع" أنها توفّر "ممراً آمناً للمقاتلين السابقين"، مشدّدةً على "حرصها التام على حماية المدنيين داخل مدينة الفاشر"، و"التزام قواتها بالقوانين والمواثيق الدولية، وتنفيذ توجيهات القيادة بمعاملة الأسرى باحترام"، بعكس ما يظهر في المقاطع المتداولة عبر الإنترنت وفي مناشدات أهالي الفاشر عبر حساباتهم وحسابات سودانيين آخرين.
في الوقت عينه، تحدّث مراقبون للانتهاكات في سياق الحرب الأهلية في السودان عن وقوع مجازر واسعة النطاق في كردفان منذ أن أعلنت "الدعم السريع" استعادة السيطرة عليها.
ويُعيد كل ما سبق إحياء مخاوف تكرار العنف العرقي ضد مجموعات غير عربية في دارفور قبل عقدين من الزمن، فضلاً عن المجازر العرقية التي ارتكبتها قوات الدعم السريع نفسها في الجنينة، عاصمة غرب دارفور، عام 2023، حيث قُتل نحو 15 ألف مدني، غالبيتهم من المجموعات غير العربية.
سهام حسن واحدة من مئات القصص المأساوية
من بين اللقطات التي توثّق جرائم وانتهاكات الدعم السريع في الفاشر، ظهرت مشاهد لجثّة النائبة البرلمانية والناشطة الحقوقية والمجتمعية سهام حسن، التي قُتلت الأحد 26 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، على أيدي قوات الدعم السريع خلال اجتياحها الفاشر.
كانت سهام، التي تتحدّر من ولاية شمال دارفور، عضوةً في البرلمان الأخير للإنقاذ برئاسة إبراهيم أحمد عمر، عن قائمة المرأة القومية، عن حزب التحرير والعدالة. وقد سُجلت في العام 2016، كـ"أصغر نائب يُنتخب في البرلمان". لكنها لم تشتهر بذلك فقط بل بفاعليتها ونشاطها السياسي وفي البرلمان وجهودها الهادفة إلى تعزيز المساءلة والمحاسبة للوزراء وكبار المسؤولين بمن فيهم وزير الداخلية، دفاعاً عن حقوق المواطنين وإصراراً على إيصال صوتهم.
مشاهد التنكيل بجثة سهام، وتعريتها، التي أثارت غضب الكثيرين، ليست سوى واحدة من مئات القصص الإنسانية المؤلمة التي كشفها استيلاء "الدعم السريع" على الفاشر.
خذلان آخر من الجيش
لم تكن "الدعم السريع" المدان الوحيد في ما حلّ بالفاشر وأهلها، إذ تعالت الاتهامات للجيش بالتخلّي عن المدينة وخذلان أهلها عقب شهور من صمودهم في وجه "الدعم السريع" وحصارها.
في خطاب بثه التلفزيون السوداني، اعترف رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة، البرهان، بأن القيادة الموجودة في مدينة الفاشر في ولاية شمال دارفور بما فيها لجنة الأمن كان تقديرها وجوب مغادرة القوات المدينة بسبب ما تعرّضت له من تدمير وقتل ممنهج للمدنيين، مردفاً: "وافقناهم على أن يغادروا المدينة ويذهبوا إلى مكان آمن حتى يُجنِّبوا بقية المواطنين وبقية المدينة الدمار".
ورأى البرهان أنّ هذه ليست سوى "محطة من محطات العمليات العسكرية التي فُرضت على البلاد"، متمسكاً بأنّ "القوات المسلحة ستنتصر لأنها مسنودة بالشعب ويقاتل معها كل أبناء الشعب السوداني"، مشيراً إلى "العزم على الاقتصاص لكل الشهداء، والعزم على الاقتصاص لما حدث للأهل في الفاشر". كما تعهّد البرهان بـ"قلب الطاولة" كما في المرات السابقة واستعادة الفاشر كما غيرها من المناطق التي استعادها الجيش.
بدوره، نبّه حاكم إقليم دارفور، المشرف العام على القوة المشتركة، القائد مني أركو مناوي، عبر إكس: "سقوط الفاشر لا يعني التفريط في مستقبل دارفور لصالح جماعات العنف أو مصالح الفساد والعمالة. نطالب بحماية المدنيين، والإفصاح عن مصير النازحين، وتحقيق مستقل في الانتهاكات والمجازر التي تقوم بها المليشيا بعيداً عن الأنظار. كل شبر سيعود لأهله".
أما والي وسط دارفور رئيس حركة تحرير السودان، مصطفى تمبور، فقال إن القوات المسلحة والقوات المساندة لها، "عازمة على دحر ميليشيا الدعم السريع المتمردة وتحرير كامل تراب دارفور"، معتبراً أنّ "خسارة معركة لا تعني خسارة الحرب وثقتنا بجيشنا كبيرة".
وضع سياسي ضبابي ووضع إنساني بائس ومأساوي… الأمم المتحدة تجدّد تحذيراتها من أثر التدخّلات الخارجية والدعم الخارجي لطرفَي الصراع في السودان على استدامة الصراع وتقويض أيّ محاولات للسلام
وفي بيان، اكتفت الحكومة الموالية للجيش، بإدانة "الجرائم الإرهابية المروعة" التي ترتكبها "الدعم السريع" في مدينة الفاشر، مردفةً "حرب المليشيا الإرهابية ضد المواطن السوداني شكلت سابقةً تاريخيةً في صحف الإبادة الجماعية في العالم"، مؤكدةً: "حيثما حلّت المليشيا حل القتل والترويع".
الأمم المتحدة تحذّر
إلى ذلك، أكد المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أن "التدخّل الخارجي في السودان يقوّض آفاق السلام". ونقل متحدث باسم الأمين العام تعبيره عن قلقه البالغ إزاء تفاقم الصراع في السودان، ودعوته إلى إيصال المساعدات الإنسانية بأمان.
"يندّد الأمين العام بشدة بالتقارير الواردة بشأن انتهاكات القانون الإنساني الدولي وانتهاكات حقوق الإنسان في الفاشر، بما في ذلك الهجمات العشوائية واستهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية، فضلاً عن العنف القائم على النوع والهجمات ذات الدوافع العرقية وسوء المعاملة"، قال المتحدّث.
ختاماً، يبقى مستقبل السودان رهن أيادٍ خارجية تعبث عبر وكلائها الداخليين بأمن البلاد واستقرارها، وبأرواح مواطنيها بعدما تسبّبت الحرب المستمرة بين الجيش و"الدعم السريع" في تشريد أكثر من 12 مليون شخص، ومقتل الآلاف، وانهيار البنية التحتية وترك الغالبية العظمى من السكان في فقر واحتياج إلى المساعدات الإنسانية الأساسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



