حينَ تبِعتْ أليس الأرنب الأبيض إلى بلاد العجائب، كان الصمت اللغة الوحيدة التي جمعت بينهما في رحلتها. في لقطة مدهشة من فيلم "قصة أو "الفرنسيّ" (1975)، تقول "أو" التي خاضت تجربةً جنسيةً جديدةً مع حبيبها رينيه، عندما سألها إن كانت ترغب في الانسحاب من اللعبة، إنَّ أليس بعد تلك المغامرة الساكتة، اكتشفت عالماً مذهلاً. وتضيف: "الأمر ربما يستحق أن أدخل إلى قصر رواسي (Roissy)"، وهو فضاء مخصص للتدريب على الخضوع.
في الفيلم المقتبس من الرواية الشهيرة "قصة أو"، للكاتبة الفرنسية آن ديسكلو Anne Desclos، تلعب "أو" دور مصوّرة أزياء فرنسية اختارت الدخول طوعاً إلى هذه التجربة، وتعلّمت خلالها الخضوع، ثمَّ معنى السيطرة في علاقات أخرى خاضتها لاحقاً.
تحولت رواية "قصة أو"، إلى فيلمٍ فرنسي، بعد مسار طويل من القمع والرقابة التي مارستها الحكومة الفرنسية. ولم تسلم الرواية أيضاً من هجوم النسويات الراديكاليات عند صدورها في خمسينيات القرن الماضي، إذ عددنها تكريساً للعنف ضد النساء، وكُنَّ يعتقدن في البداية أنَّ مؤلفها رجل يريد فرض أجندته الأبوية. ولم تُعرف هوية مؤلفتها إلّا قُبيل وفاتها، حين اعترفت بأنها هي من كتبت الرواية، لتعيد إحياء الجدل داخل الأوساط النسوية حول ممارسات الـBDSM. وأعني بالـBDSM، تلك الممارسات الجنسية غير المعيارية التي تتضمن التقييد، والانضباط، والسيطرة، والمازوخية، والسادية.
من فرنسا الخمسينيات إلى لبنان عام 2024... أجساد تحت الرقابة
تُعدّ ممارسات الـBDSM في لبنان، من التابوهات الجنسية والفنية، إذ لا يُسمح بإقامة عروض تتناولها، لأسباب تعود تاريخياً إلى علاقة السلطة بالتحكم في الجسد وضبطه. في عام 2024، منعت السلطات المحلية اللبنانية تنظيم أحد العروض الفنية وورش العمل المرتبطة بفن "الشيباري" (فن التقييد بالحبال). لكن ردّ الجهة الداعية، Beirut Midnight، جاء ببديل، حيثُ أقيم العرض أونلاين بالتعاون مع عدد من الفنانين العابرين جنسياً، من بينهم Renee De Sans، المصوّرة وصانعة الأفلام المقيمة في ألمانيا. وقدّم العرض الحيّ تجربةً في ربط الحبال مستوحاةً من التقاليد اليابانية، تناولت موضوعات الألم والتقييد والمتعة والحرية، بوصفها أفقاً فنياً وجسدياً يتجاوز المنع.
تقول الشاعرة سينثيا أوشيلي: "لكي تُحقق البذرة أقصى تعبير عن ذاتها، يجب أن تتحللّ تماماً، تتصدّع قشرتها، وتخرج محتوياتها، ويتغير كلّ شيء. بالنسبة لشخص لا يفهم معنى النموّ، قد يبدو هذا لهُ دماراً تامّاً"، إلى أي حد تسمح لنا هذه الفكرة بالتجريب والمخاطرة بالذات؟
وعلى خلاف منع رواية " قصة أو"، والضجة التي أثارتها آنذاك في أوساط الفاعلين ثقافياً ونسوياً، لم نشهد في لبنان أي موقف نسوي معلن معارض أو مؤيّد تجاه هذه العروض الفنية وردّ فعل السلطة اللبنانية.
ويُعدّ تاريخ "الشيباري" من التواريخ المعقدة. يُقال إنه "في اليابان القديمة، كان المحاربون يمارسون فنّاً عسكرياً سرّياً أو مشرّفاً لابتكار قيود ملائمة للرتب، أو عقد تعذيب غامضة في ساحات المعارك. وكانوا يطبقونها على أعدائهم النبلاء بالمثل". مع مرور العقود، تطور هذا الفنّ في اليابان، متداخلاً بعمق في جميع جوانب الثقافة والتاريخ اليابانيين.
فخلال فترة إيدو، حكمت الحكومة العسكرية شوغوناتي توكوغاوا Tokugawa shogunate، اليابان وعزَلتها عن بقية العالم. ويُشير التاريخ إلى أنَّ أصل "الشيباري"، كفنّ عسكري، يعود إلى عصر الدول المتحاربة المعروف بعصر sengoku، وهي فترة كارثية في اليابان تشبه العصور الظلامية التي عاشتها أوروبا، حيث تعيش الطبقة الحاكمة في رفاه، في حين يغرق سكان المدينة في البؤس الشديد.
وعلى إثر الانتقادات الموجهة للحكومة العسكرية من مختلف الطبقات، قامت الحكومة بإلهاء الطبقة البرجوازية، والطبقة الوسطى "الغنية الجديدة" التي نشأت من التجار وازدهرت بفضل قطاعات اقتصادية معينة، من خلال تشجيع أحياء المتعة، بما في ذلك المرتبطة بممارسات الـBDSM. وبما أنَّ اليابان لم تكن دولةً قائمةً على التعاليم المسيحية مثل الدول الأوروبية، فقد سمحت بازدهار هذه العروض المرخصة.
وهكذا أصبحت هذه الأحياء إحدى أهم الوسائل الفعالة للحكومة العسكرية لضبط المجتمع بمختلف طبقاته. وعلى الرغم من قسوة حياة العاملين، فقد تمكّنوا أيضاً من الوصول إلى هذه الأحياء، حيث عملوا خدماً بعقود طويلة الأمد، وكانت هذه الحياة أفضل بالنسبة إليهم من المجاعة خارج هذه المدينة الليلية المسوّرة.
الرواية، التي كتبتها آن ديسكلو، ستتحول إلى فيلم في 1975، حيث تختار "أو" وهي مصوّرة أزياء فرنسية الدخول طوعاً إلى قصر رواسي، الفضاء المخصص للتدريب على الخضوع.
يُنظر إلى "الشيباري"، اليوم بعد تحوّلات معقدة، غالباً من منظور إيروتيكي وجمالي وفني مناهض للهيمنة، إلّا أنَّ أصوله لم تخلُ من طابع الهيمنة الذكورية الأبوية ومن وجود كراهية ضد النساء. وكما الحال مع العديد من الفنون والمصطلحات مثل كلمة"الكويرية" التي تحولت من إهانة إلى رمز سياسي لمجتمع الميم-عين، يُنظر إلى "الشيباري" اليوم كفنّ مفتوح على تأويلات متعددة ومتنوعة.
جدل النسويات حول رواية "قصة O"
بعد اعتراف الكاتبة الفرنسية آن ديسكلو Anne Desclos، بكتابة رواية "قصّة أو"، أُعيد طرح السؤال المشروع الدائر حول إعادة تعريف مفاهيم السلطة والخضوع داخل فضاء جنسي قائم على التوافق مثل الـBDSM، حيث يقوم على اتفاق صريح وواضح بين الشريكين، يتضمن اختيار كلمة الأمان، وحواراً مسبقاً، ورعايةً متبادلةً بعد التجربة. وهنا يُطرح التساؤل: هل يتعارض هذا الشكل من الممارسات مع مبادئ النسوية؟
وجهات نظر مختلفة ظهرت لدى العديد من النسويات. فالنسويات الراديكاليات مثل أندريا دوركين Andrea Dworkin، وجّهت نقداً حادّاً للرواية عادّةً أنَّ شخصية O، جرى تسليعها وتحويلها إلى مجرد شيء جامد Object، تُبرمج في قصر رواسي لتصبح "عبدةً جنسيةً". وبحسب قراءتها، يُعيد رينيه، حبيبها، إرسالها إلى ستيفن، أخيه غير الشقيق، حيثُ تتعرّض بشكل منتظم للتعذيب والإهانة والجلد.
ومع ذلك، تُظهر الرواية نفسها أنَّ الخضوع لم يكن إجبارياً بل اختياريّاً. إذ في مشاهد عدة نرى الفتيات اللواتي يؤدّين أدوار "الخاضعات" غير مرغمات على المشاركة في اللعبة، بل إنَّ إحداهنَّ، في أثناء مشهد جلدٍ كانت تُنفّذه "أو" على فتاة أخرى بأمر من ذوات الصلاحية الأعلى، شعرت بالذعر وقالت إنها لا تريد الاستمرار في اللعبة، فانسحبت وغادرت قصر رواسي بالفعل.
عودةً إلى ممارسات الـBDSM، يمكن القول إنّه فضاء لعب، لا يمكن مقاربته بالمفاهيم التقليدية للتشييء والتسليع والخضوع والسيطرة. بل على العكس، يتيح هذا الفضاء إمكانيات أوسع لتأويلات جديدة، بعد سلطوية، وبعد تسليعية… خصوصاً أنه يقوم على مبدأ التوافق بين الشريكين.
وغالباً ما يُجادل بأنَّ الخضوع داخل هذه الممارسات يعزز الأدوار الجندرية التقليدية ويعيد إنتاج عدم المساواة. لكن ماذا عن "الليزبيانز" اللواتي يمارسنَ الـBDSM معاً مثلاً؟ أو الرجال الخاضعين؟ أو اللواتي ترغبنَ في لعب الدورين: الخاضع/ المسيطر؟ ألا تعقّد هذه الحالات المشهد؟ وهل يمكن اختزالها بديناميكية القوة التي تقلّد وتطبّق الهياكل الأبوية داخل المجتمعات؟
في الجنس الذي يُسمّى "بالفانيلا"، أي الجنس السائد الذي يخلو من الممارسات غير المعيارية أو الفيتشية، كثيراً ما تتعرض النساء أو اللواتي تعرّفنَ أنفسهنَّ كنساء، للعنف أو الضغط الجنسي نظراً إلى غياب أي حوار مسبق أو لاحق يضمن التفاهم والحدود. فكيف يمكن القول إذاً إنّ ممارسات الـBDSM القائمة على التفاوض المسبق والوضوح في الحدود والاعتناء اللاحق، ببساطة، ممارسات ذكورية؟
تقول النسويات المؤيّدات للجنس sex-positive feminism، إنَّ جميع الممارسات الجنسية بمختلف أنواعها، نسوية طالما أنَّ النساء هنَّ من يمتلكن السيطرة على خياراتهنَّ ويقررنَ كيف يشاركنَ في هذه الممارسات بحرية تامة. كما تعتقد النسويات المؤيدات للجنس بحق النساء في المتعة الجنسية التي لا ينبغي أن تُقيّد بالوصاية الاجتماعية والثقافية التقليدية.
لكنَّ أخريات كـlisa downing ليزا داونينغ، يتبنّينَ منظوراً يتجاوز الثنائية النسوية المؤيدة للجنس والراديكالية. ترى داونينغ أنَّ هاتين الحركتين تختزلان الممارسات غير المعيارية. فالنسوية الراديكالية تعدّ ممارسات الـBSDM ممارسات ذكوريةً، أمّا النسوية المؤيدة للجنس فتركزّ على النشوة الجنسية لدى النساء وتعالج الموضوع من منظور ليبرالي. ترى ليزا أنَّ الـBDSM يعيد للأفراد تملّك أدوات القمع عبر التحكّم الذاتي والتفاوض والموافقة.
تختلف شخصية "أو"، الخاضعة في الرواية، عن اللواتي يخضعنَ للقيود المجتمعية والضغط اليومي، إذ اختارت "أو" خضوعها بوعيٍ تام، وتالياً يمكن القول إنها تسيطر على خضوعها بشكلٍ ما. وفي هذه اللعبة تعيد "أو" تعريف السلطة، حيثُ تكون السيطرة والخضوع في وضعية قابلة للتفاوض، فلا يملك الشخص المُهيمن في الرواية السلطة المطلقة، بل مُنحت له مؤقتاً في فضاءٍ لعبيّ وفق اتفاق وافق عليه كلّ من "أو" وحبيبها، ثمّ السيد ستيفن.
ممارسات الـBDSM كفعل تجاوز للسلطة في العالم العربي
ارتبطت ممارسات الـBDSM في المخيال العربي، بمشاهد الرعب والعنف والغموض. لكنَّ هذه الممارسات غير المعيارية في جوهرها بعيدة كلّ البُعد عن العنف غير التوافقي المعروف. خلال بحثي، لم أعثر إلّا على عدد محدود جداً من المقالات التي تناولت هذه القضايا، دون أن أجد نصّاً نسوياً يعيد تعريف مفهوم الكينك kink على سبيل المثال، وهو مفهوم لا تقابله ترجمة حرفية في لغتنا، أو التفكير في هذه الممارسات من منظور نسوي/ سياسي، وتحكّم السلطات بها وبالجسد عموماً.
يُنتقد الـBDSM باعتباره يعيد إنتاج الأدوار الجندرية التقليدية، لكن وجود ممارسات بين نساء أو رجال خاضعين أو تبديل الأدوار يُعقّد الصورة. ففي حين يغيب التفاوض في الجنس التقليدي "الفانيلا"، ما قد يعرض النساء للضغط، يقوم الـBDSM على التفاهم المسبق والاعتناء اللاحق، ما يجعله أبعد من أن يُختزل بوصفه مجرد ممارسة ذكورية
نعيش يومياً ضمن أنماط من التقديس والخضوع بأشكالها المختلفة: سياسياً، دينياً، اجتماعياً… نقدّس القائد، نقدّس الأب، ونخضع للسلطة، للأعلى، ونتشيّأ. نعيش تحت وطأة هيراركية سلطوية عميقة ومعقدة تحكم مفاصل حياتنا. وبرغم ذلك، لا نجد أيّ مقالة تشير إلى العلاقة المعقدة التي تجمع التابوهات الأساسية داخل مجتمعاتنا: الجنس، الدين، والسياسة، من منظور نسوي.
ماذا لو أتحنا الفضاء، للفئات المهتمة بالممارسات غير المعيارية بأداء الخضوع أو الهيمنة كفنَّ أو كفعل جنسي بمحض إرادتهم؟ ماذا لو نقلنا الجدال حول هذه الممارسات غير التقليدية الموجودة بكثرة إلى فضائنا النسويّ؟
من منظور نسوي وكويريّ، قد تشكلّ هذه المساحة إمكاناً سياسياً وجسدياً في آن معاً. إذ يمكن أن يسمح التحدث عن هذه الممارسات فهم وتفكيك الثنائيات التي فرضتها المجتمعات البطريركية علينا (رجل/ امرأة.. مسيطر/ خاضع)، ويفتح المجال أمامنا لإعادة التفكير في العلاقة بين القائد والتابع له، بين الحاكم والمحكوم، وفي مفاهيم كثيرة: كالألم، والخضوع والسيطرة والضبط والحدود.
لا يمكن الإحاطة بجميع الممارسات غير المعيارية في هذه المدوّنة، لكنّي أختم بما اقتبسته من قراءتي لمقابلة مع مجموعة من الكويريين والكويريات حول ممارسات الـBDSM بما قالته مرّةً الشاعرة سينثيا أوشيلي Cynthia Occelli: "لكي تحقق البذرة أقصى تعبير عن ذاتها، يجب أن تتحللّ تماماً، تتصدّع قشرتها، وتخرج محتوياتها، ويتغير كلّ شيء. بالنسبة لشخص لا يفهم معنى النموّ، قد يبدو هذا لهُ دماراً تامّاً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.