منذ 22 عاماً أعيش في طهران الكبرى. كنت في الثامنة عشرة عندما قُبلت في جامعة الفنون بطهران، في التخصص الذي أحببته. غادرت الأهواز بفرح، ورأسي مليء بالآمال، متجهة إلى طهران. كانت طهران بالنسبة لي مدينة مميزة جداً وخاصة. عاصمة كبيرة تضم كل ما أحب: من "مسرح المدينة" إلى المقاهي الجميلة، وصولاً إلى مطاعم الأكلات السريعة (الفاست فود) المتسلسلة، والتي لم تكن موجودة في أي مكان آخر آنذاك، فضلاً عن ورش التمثيل للفنانين المعروفين. كانت طهران كبيرة، مرعبة، مغرية وجذابة في الوقت نفسه، وكنت صغيرة ومليئة بالأحلام.
قبل 22 عاماً أصبح لدي سرير في طهران في السكن الجامعي، ومن ثم سنتين أخرى قضيتهما ممتلكة غرفة خاصة في نفس السكن، ثم انتقلت للسكن مع فتاتين أخريتين في منزل واحد، وبعدها استأجرت شقة لنفسي وحدي، ثم صار لدي بيت خاص بي في طهران. خلال هذه السنوات، تغيّرت أنا كثيراً، وتغيّرت طهران أيضاً؛ كلتانا أصبحنا متعبتَين وخامدتَين.
في طهران، لا تسير الأقدام على الأرصفة فقط، بل تمشي فوق تعب السنين وصبر الناس
منذ البداية، كنت عابرة مشاة، لم أستطع امتلاك سيارة. لذا، طوال 22 عاماً، كنت أعتمد على الحافلات العامة أو المترو للوصول إلى وجهتي، أو أسير على الأقدام لساعات طويلة على الأرصفة. طهران كبيرة جداً، وبالنسبة للكثيرين تستحيل الحياة بلا سيارة فيها. إذا اضطروا للبقاء ساعات في زحمة المرور، يفضلون ذلك داخل سياراتهم، حيث يمتلكون خصوصيتهم ويستمعون إلى موسيقاهم المفضلة أثناء الانتظار. لا يحبون الخروج قبل الموعد بساعتين ونصف، والتنقل عبر مترو مكتظ أو الوقوف في محطات الحافلات بلا حراك.
بالنسبة لي، حتى سنوات قليلة مضت، لم يكن أي من هذا مزعجاً؛ لم يكن يقضّ مضجعي الوقوف في المترو المكتظ أو أن يُداس عليّ بسبب صغر حجمي، ولا الحرارة أو البرد في المحطات الطويلة. لكن السنوات الأخيرة غيّرت كل شيء. لم تعد طهران كما كانت، ولا أرصفتها كما عهدتها، ولا حتى الشوارع تبدو واسعة وجادّة كما قبل. التغيرات في وجه الدولة، الصراعات والقبض، الاحتجاجات، تبديل الإدارة، كل هذا انعكس على وجه طهران المتعبة، وعلى وجوه الناس الذين يسيرون بجانبي في الأرصفة، أو يجلسون بجانبي في المترو.
الآن، كعابرة مشاة، لم أعد أشعر بالأمان في الأرصفة، لأنها احتلّتها الدراجات النارية بلا رحمة. عندما تصبح الشوارع مزدحمة، يتجه السائقون بلا تردد إلى الأرصفة، ويقودون بسرعة، وإذا بقيت وراء أحدهم، يضغطون على البوق حتى تضطر للتراجع. تتراجع أنت لتفسح الطريق لدراجة واحدة، ثم تأتي عشرات الدراجات الأخرى، متسلسلة في طريقها، وكأنك مجرد عقبة لا أكثر. وعندما تريد عبور خط المشاة، السيارات والدراجات على حد سواء تتجاهل الخط تماماً، متجاوزة حقوق المشاة. حتى لو كان الضوء أخضر للمشاة، الدراجات تتعدّى على حقك، وأحياناً يضطر المرء للركض في اللحظات الأخيرة أو الانتظار حتى الضوء الأخضر التالي. وأحياناً، بينما تعبر، تأتي دراجة من الجهة المقابلة، قريبة جداً منك، لدرجة أن رياحها تدفعك للخلف! في قاموس الدراجين في طهران، الذين يسعون لتجنب الزحام والوصول سريعاً بأي ثمن، لا توجد قوانين تُراعى. يقودون عكس الاتجاه في الشوارع ذات الاتجاه الواحد، ينعطفون في الحارات بتهور، وغالبهم بلا خوذة، على الرغم من كونهم الأكثر عرضة لحوادث المدينة. تخيلوا أنه بعد أن تتجاوزوا الأرصفة الخطرة وخط المشاة الذي صار بلا قيمة، تصلون أخيراً إلى المترو.
طهران مدينة مزدحمة جداً؛ فوق الأرض هناك زحام رهيب، وتحت الأرض في المترو، الناس متكدسون كحبات التمر في علبة. في هذا الزحام، يتواجد الباعة الجائلون، رجالاً ونساءً، يحملون رجايل ضخمة وحقائب كبيرة، يدفعون الناس ويبيعون بضائعهم! أكثر نشاطهم في عربات النساء، لأنهم يعتقدون أن النساء يشترين أكثر. مع أن هناك عربتين مخصصتين للنساء من الأمام ومن الخلف، إلا أن بعض الباعة الرجال لا يعترفون بذلك. الضوضاء، والإجهاد البدني، والأذى الذي يسببونه للمسافرين الآخرين، يمر دون أن يراه أحد، ولا أحد يحاول منعه.
مؤخراً، وفي نفس القطار، دفعت فتاة لأنها كانت بلا حجاب، وكادت تُقتل. الحكومة أغلقت الطرق وحرّرت الفوضى، والنتيجة أن كل شيء يحدث بلا رادع. صحيح أننا نتعرض دائماً لاستغلال قدراتنا من قبل حكومة سلطوية وفاسدة، لكني لست من النوع الذي يسكت. لذلك أحياناً أقف في الأرصفة، وأرفض أن تزاحمني الدراجات التي تأتي من الأمام. أجادلهم، وأصرخ بأن هذا رصيف وليس مضماراً لهم. الدراجات تنظر إليّ، وأحياناً تقول كلاماً مسيئاً، وأحياناً تمر في صمت، ملتوية حولي لتجاوزي. خلفي، باقي المشاة يتراجعون وكأنها وظيفتهم الطبيعية. وعند خط المشاة، غالباً ما أضطر إلى الإشارة باليد للسيارات، لتذكيرهم بأن الخط الأبيض الأفقي على الطريق يُسمّى خط عبور المشاة، ويجب احترامه! ثم أدخل المترو، وأحاول أن أشرح للباعة المتجولين، الذين يدفعوننا أثناء البيع، ويخترقون أذرعنا وحقائبنا، أن هذا ليس مكاناً للبيع، ولا يحق لهم التسبب في إيذائنا.
ومع ذلك، لا أحد يعترض. بل غالباً ينظر إليّ الناس بغرابة، كما لو كنت للتو نزلت من سفينة فضائية! نعم، في كل هذه المواقف، أبدو الغريبة، بينما الباعة والدراجون هم المعتادون والعاديون، أصحاب الحق المزعوم. قبل أيام قليلة، كنت في عربة النساء، التي أسميناها "عربة الأخوات". جاء رجل طويل القامة، محمّل بعدد كبير من الحقائب والشنط، ويدفع بها بينما يعلن عن بضاعته، وطلب مني ومن آخرين أن نتمايل على أطراف أصابعنا لنفسح له المجال للمرور فوقنا ومن حولنا. قلت له: "من أين تريد المرور؟ لا يوجد مكان!".
قال: "إذا تحركتِ قليلًا وضغطت نفسك، سأمرّ".
قلت: "لا أستطيع أن أضع نفسي فوق المسافرين الآخرين! هذه عربة النساء! ليس لك الحق بالدخول!".
صاح وقال: "ابتعدن جميعاً لأمرّ! ليس لي صبر أمام هذه! دفعتْ خمسة آلاف تومن، وكأنها اشترت القطار كله!". كل ما قاله كان بلا منطق، ولا علاقة له بما قلته، ولم يُظهر أي احترام. المسافرات الأخريات لم يندهشن، لكن أنا شعرت بغرابة الموقف: من أين أتى هذا الشخص؟ من أصبح صاحب الحق هنا؟ وكيف أصبح بإمكانه انتهاك خصوصيتي؟ يبدو أن الناس قرروا اعتماد مقولة "هوّن على نفسك واستمتعْ" كما يقال في الفارسية، وفقاً للتوصية الساخرة: إذا لم تستطع المقاومة، استسلم واستمتع! ويبدو أن كثيرين في طهران قد أصبحوا هكذا، يحاولون تجاهل الانتهاكات أو التعايش معها. ربما فقدنا الحق في المطالبة بالأمان، أو السير بحرية في الأرصفة، أو الوقوف في المترو كبشر محترمين. وربما فقدنا الاحترام لأنفسنا بسبب الاستغلال المستمر من قبل الحكومة.
كل مرة أخرج من إيران، أجد لنفسي متعة مؤقتة كعابرة مشاة. في إسطنبول، أستطيع المشي بحرية، بلا خوف أو قلق، أغرق في أفكاري، وأتمدد في شوارع المدينة لساعات. لكن عند عودتي إلى طهران، أعود إلى "الهاوية" اليومية، وأتعلم من جديد فن البقاء حيةً في شوارعها وقطاراتها. كل مرة أصل سالمة إلى المنزل، أتنفس الصعداء وأقول لنفسي: اليوم نجوت! وصلت بسلامة!
كل يوم أعود فيه سالمة إلى بيتي، أشعر أني نجوت من معركة صغيرة ضد مدينة نسيت أن تُنصت لخطواتنا
يقول البعض إن طهران بدأت تشبه بومباي: مدينة مليئة بالفوضى، مزدحمة، بلا قوانين واضحة. لدي صديق يحكي لي كل مرة عن الهند، تحديداً عن الطريق بين دهلي وأغرا، حيث شاهد أحدهم يدهس أحد المشاة بسيارته دون أن يقلل السرعة، والشخص الواقع على الأرض لم يتوقف أحد لمساعدته. الجميع ظل واقفاً، يراقبون الأفق، ينتظرون حافلتهم، دون أي محاولة للتدخل. الدليل الوحيد الذي يعطيه لهم مرشد سياحي هندي هو: "هذه الأمور طبيعية هنا. حياة الإنسان هنا أقل قيمة من أي شيء آخر. لا تقلقوا!".
ويبدو أننا نحن أيضاً نسير في نفس الاتجاه. نحن، شعب إيران، فقدنا تدريجياً أهميتنا لأنفسنا، حتى أمام أنفسنا. نأمل أن نعيش بأمان ونمشي على الأرصفة بحرية، أو نقف في المترو بسلام، لكن في الواقع أصبحنا نتعايش مع الانتهاك اليومي، نضطر للتكيف مع الظلم، ونتعلم أن نصمت أو أن "نهوّن على أنفسنا" ونحاول الاستمتاع بأي طريقة ممكنة.
ربما أنا الوحيدة الغريبة هنا، عابرة المشاة التي تقول بصوت عالٍ: هذا المكان ملك لي أيضاً. لكن مع كل يوم يمرّ، أدرك أننا جميعاً، بشكل أو بآخر، تعلمنا أن نبتلع الظلم ونتظاهر بعدم الاكتراث. نتكيف مع العبث اليومي، مع الدراجات النارية، الباعة المتجولين، التعدي على خطوط المشاة، والزحام الهائل في المترو.
نعم، قد أحتاج أحياناً أن أتحمل كل هذا، وأن أكرر لنفسي مثلاً ساخراً متداولًا: "هوّن/ي على نفسك واستمتع/ي!"، لأنه إذا لم أفعل، سأكون في حالة غضب مستمرة، وأدخل في جدالات لا تنتهي مع الدراجين والباعة، دون أن يتغير شيء على الإطلاق. لكن في الداخل، ما زلت أرفض أن أقبل بهذه الفوضى كأمر مسلم به. كل مرة أتجول في المدينة، كل مرة أتعرض لهذه الانتهاكات اليومية، أذكّر نفسي أنني موجودة، وأن للأرصفة والمترو وحق المشاة قيمة، حتى لو كان العالم من حولي قد قرر أن ينسى ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



