قالت بهار وهي تشير إلى حقيبتي التي تقف بثبات على عجلاتها الأربع:
"حسناً، لا تحدّقي فينا هكذا. لا تتوقعي الرحيل. عليك أن تعودي إلى الوضع الأفقي. لن تسافري الآن".
شعرت أنها تخاطبني أنا، لا الحقيبة. وكأنها تقول: "لا تفكري في الرحيل، هذا ليس وقت المغادرة".
في إيران، كل ثانية تمرّ، هناك شيء في داخلي يتحضّر لانهيار العالم فوق رأسي. هذا حالنا منذ سنوات.
بيت بهار في إسطنبول، وبيتي في طهران. أنا سائحة هنا. أردت أن أمنح نفسي أسبوعاً إجازة، أن أرتاح من كوني امرأة إيرانية تقاتل بلا هوادة. أردت أسبوعاً دون قلق من رسائل الحجاب النصية التي تصل بين حين وآخر. أردت ألا أفكر لسبعة أيام بكيفية النجاة في ظل الانهيار الاقتصادي للدولة، وأواصل رغم كل ذلك، صنع الأفلام.
وصلت إلى إسطنبول؛ المدينة الجميلة التي تفتح ذراعيها لنا نحن الإيرانيين. إسطنبول ليست عبوسة في وجوهنا، لا تطردنا، ولا تحرمنا من التمتع بجمالها. مدينة كريمة، تسمح لنا بأن نتنفس في فضائها، ونشعر بأننا بشر عاديون.
الزمن في إسطنبول ليس كثيفاً كما هو في طهران. الزمن في طهران ثقيل، متوتر، كل ثانية تحمل ثِقلاً خاصاً بها، وصوتاً خاصاً بها؛ كل ثانية ناقوس يُقرَع، ناقوس فاجعة قريبة.
في إيران، كل ثانية تمرّ، هناك شيء في داخلي يتحضّر لانهيار العالم فوق رأسي. هذا حالنا منذ سنوات.
أما في إسطنبول، فالزمن خفيف، يدور حولك كريشة مدللة، ثم يستقر على طرف حذائك، حريصاً ألا يعكّر صفوك.
كان من المفترض أن يكون الخميس هو اليوم الأخير لي في إسطنبول. في المساء، جلست مع بهار في إحدى حانات "بومونتي آدا"، واحتفلنا على أمل أن يأتي يوم نجلس فيه في بار داخل إيران، وتبادلنا الكؤوس على هذا الأمل.
ثم رأيت في المنام أن مطار إسطنبول ابتلعني، ولم أتمكن من العثور على بوابة طائرتي إلى طهران. كنت تائهة، باكية، أطلب المساعدة، لكن لا أحد يفهم لغتي.
كان من المفترض أن يكون الخميس هو اليوم الأخير لي في إسطنبول. في المساء، جلست مع بهار في إحدى حانات "بومونتي آدا"، واحتفلنا على أمل أن يأتي يوم نجلس فيه في بار داخل إيران، وتبادلنا الكؤوس على هذا الأمل.
فتحت عيني بسرعة. قلت لنفسي يجب أن أغادر المنزل باكراً، فقد بدأ القلق من تفويت الرحلة ينهشني. تناولت هاتفي، فوجدت رسالة من أمي: "أُلغيت الرحلات، لا تذهبي إلى المطار"، وكانت قد اتصلت عدة مرات في منتصف الليل.
قفزت من سريري. فهمت حينها لماذا لم أجد بوابة طائرتي في الحلم.
نعم، إسرائيل قد شنت هجوماً. اتصلت بأمي. أُغلق المطار، وأُلغيت كل الرحلات. نهضت بسرعة، ارتديت ملابسي، تأكدت أن معطفي وحجابي في مكانهما.
أيقظت بهار، وجهها كان مرتبكاً:
– هل تأخرنا؟ فاتتك الرحلة؟
– إسرائيل هاجمت.
– ماذا؟ ماذا قلتِ؟
– الرحلات أُلغيت. خذي لي تاكسي.
– لكن إن كانت الرحلات أُلغيت، لماذا…؟
– …
يا إلهي، كم أصبحت بعيدة فجأة عن شقتي الصغيرة في الطابق السابع من زقاق گودَرزي، شارع سهروردي، طهران. لا أعلم إن كانت شقتي ستصمد حتى أعود.
بعد أن اتصلنا بكلّ من نعرف، جلسنا على مائدة الفطور. وجه بهار شاحب، قلقة على والدتها التي بقيت وحدها في المنزل في لَفيزان، شمال شرقي طهران، أحد أهداف القصف منذ الليلة الماضية.
كانت تبكي، بينما أحاول أن أمنع دموعي من السقوط. رأسي ضبابي. لم يعد الزمن خفيفاً. الزمن أصبح جرساً نحاسياً ضخماً سقط على صدري.
نيلي، السيدة الأرمنية في الطابق العلوي من منزل بهار، طرقت الباب بشدة. فتحت لها، كانت تعلم بأخبار الحرب، صوتها متوتر، تتحدث التركية بصعوبة. لم أفهم ما تقول، لكن نبرتها كانت غاضبة، مستاءة مما يحدث. وبعدما فرّغت ما في صدرها، هدأت قليلاً وعادت إلى شقتها.
أنا وبهار عدنا إلى الداخل. جلسنا نشاهد قنوات الأخبار، عابستَين.
حلّ المساء. كان يجب أن أكون في بيتي بطهران في مثل هذا الوقت. لولا الحرب، كنت الآن أرتّب الهدايا وأراجع ذكريات الرحلة.
يا إلهي، كم أصبحت بعيدة فجأة عن شقتي الصغيرة في الطابق السابع من زقاق گودَرزي، شارع سهروردي، طهران.
لا أعلم إن كانت شقتي ستصمد حتى أعود.
كثيرون توجهوا نحو مدينة وان لعبور الحدود براً. فكرت أن أفعل مثلهم، لكن بهار منعتني.
قالت: "لن أدعك تغادرين مكاناً آمناً إلى مكان يعرض حياتك للخطر، حتى وإن لم تواجهك مشكلة عند الحدود. في بلد غارق بالحرب، امرأة وحيدة على الطريق ليست في أمان".
قلت: "حسناً، جسدي بأمان هنا، لكن ماذا عن قلبي المتشظي؟ ماذا عن نفسيتي التي على شفا الانهيار؟ ماذا عن أهلي؟ عن أحبابي؟".
قالت: "لن أدعك ترحلين. لا. فقط انتظري، ربما تهدأ الأمور كما في المرات السابقة، في يومين تعودين، تركبين الطائرة بسلام وتصلين طهران".
قالت: "لا تتخذي قرارات في هذا الوضع النفسي الهش. الإنسان يتخذ أسوأ قراراته عندما يشعر بأنه محاصر ويريد النجاة فقط".
لم أرد أن أبكي. لو تركت الدموع تنهمر، لن أستطيع توقيفها.
أنا قوية. لا أنهار بسهولة.
أنظر إلى البيوت المهدمة، إلى الرجل الذي يحمل طفلاً رضيعاً بغطاء مدمّى.
أنظر إلى خصلات الشعر المتبقية على وسادة پَرنیا، معلمة اللغة التي قُتلت في الليلة الأولى.
طفلة ترى جثثاً عديدة وتسأل أباها: "هل هؤلاء ماتوا؟".
يجيبها: "لا يا صغيرتي، فقط أغمي عليهم من الخوف".
تقول له: "أنت تكذب. واضح أنهم ماتوا، سقطوا فوق بعضهم"، ثم تنفجر بالبكاء.
أسأل بهار: "من سيحمينا؟ حكومة لم تهتم يوماً بحماية مواطنيها؟..."
أسأل بهار: "من سيحمينا؟ حكومة لم تهتم يوماً بحماية مواطنيها؟
حكومة لم تُطلق حتى صفارات الإنذار لإيقاظ النائمين وحمايتهم؟
البيوت تهدمت، الناس ماتوا، الأطفال ماتوا.
في مبنى واحد فقط، قُتل عشرون طفلاً بريئاً.
من يحمينا من هذا المجرم المتهم بجرائم حرب في كل محكمة؟
لماذا كان نصيبنا من هذه الحياة دوماً ظلّ موتٍ مرعب وغير عادل؟
موت في الحرب مع العراق، موت في الاحتجاجات السلمية،
موت بسبب تلوث الهواء، موت بسبب نقص الدواء بفعل العقوبات،
والآن، حرب لا نرغب بأيّ من طرفيها".
حكومة تقتل وتعدم، أغلقت كل الحريات الاجتماعية منذ سنوات، وبخلت علينا حتى بهواءٍ نقي، وعدو وحشي يهدم كل ما بنيناه.
حتى صوت طيور النورس لم يعد جميلاً. بات يزعجني، وكأنه صياح بشر غاضبين يتشاجرون بلا توقف. نيلي تطرق الباب مراراً كلّ يوم، تنقل الأخبار بانفعال، كأنها تنتظر أن تجدنا نبكي، تبحث في وجوهنا عن آثار الدموع، تستمد جرعتها اليومية من الإثارة من الهجوم على إيران.
في اليوم الثاني من الحرب، خرجنا قليلاً.
تجولنا في أزقة جيهانغير. حي جميل، عريق، مألوف. بهار تعرف إسطنبول جيداً، تفاجئني دائماً بأماكنها الخاصة. ذهبنا إلى مطعم قديم لأكل "منتو بالسبانخ".كنت أبتلع غصّة مع كل لقمة. شيء ما خنقني. لم أشعر بطعم شيء.
قلت لبهار: "نحن الآن من ضحايا الحرب".
أدارت وجهها وحدّقت في الأفق.
أنا بلعت لقمة أخرى، تصارعت مع العُقدة في حلقي.
في تلك الليلة، وبين تجوالنا في هذه المدينة التي كانت دوماً مألوفة، أكلت أتعس آيس كريم في حياتي. أردت أن أقول لبهار إن طعمه يشبه آيس كريم إيطالي في شارع سهروردي… لكني لم أستطع. لم أستطع نطق اسم الشارع الذي يقع به بيتي. عقدة في حلقي اشتدت. بلعت بكائي. بدأت أسعل. فكرت في بيتي. قلت لنفسي: هل سأدير مفتاحي مجدداً في قفله؟ عليّ أن أبدأ بإعادة ترميمه. قصّرت بحقه. كنت دائماً أشتكي من صغره، أحلم بمنزل كبير.
أنا الآن في مقهى، أكتب عن هذه الحرب المفاجئة التي انهارت على رؤوسنا، وأبكي. الناس تنظر إليّ بفضول، لا أعرف ما يظنون. هل يخمّنون أنني إيرانية؟ هل يدركون أنني أبكي من أجل بلدي؟ من أجل بيتي؟
أنا الآن في مقهى، أكتب عن هذه الحرب المفاجئة التي انهارت على رؤوسنا، وأبكي. الناس تنظر إليّ بفضول، لا أعرف ما يظنون. هل يخمّنون أنني إيرانية؟ هل يدركون أنني أبكي من أجل بلدي؟ من أجل بيتي؟
مضت ستة أيام منذ بدء الحرب. سكان طهران شُرّدوا. كل شيء تغيّر. كثير مما نملك فُقد. لا أعلم متى سأعود؟ أسبوع؟ عشرة أيام؟ أكثر؟ لا أخبار لدي عن كثيرين: الخباز، البقال الذي كان يمزح بتفاهة، العطار الأفغاني الطيّب، وبائع الحلويات العصبي لكن المحترم.
إن عدت، هل سيُعاد افتتاح صف اليوغا المفضل لدي؟ من من زملائي لن يعود؟ من فقد منزله؟ من خسر أكثر؟ كأننا في حرب منذ شهور. كأنني بعيدة منذ زمن. عقلي مشوّش. نسيت التواريخ. أخلط الأيام. أي فرق بين قراءة أخبار يوم الجمعة أو السبت، وكل يوم فيه قصف إسرائيلي وحشي؟
أمس، سمحت لنفسي أن أبكي. لاجئة حرب بعيدة عن بيتها، من حقها أن تبكي.
نيلي تطرق الباب بقوة. قلت لبهار: دعيني أنا أفتح لها. دعيها تريح مشاعرها وفضولها. فتحت لها بوجه باهت، وعينين متورمتين.
***
واليوم أنا في طريقي البرّي إلى طهران. رحلة ستستغرق ما یتراوح بين 30 و40 ساعة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.