بصفتي فتاةً إيرانية وُلدت في عائلة متشددة جداً ومتدينة، كنت أريد أشياء محرّمة كثيرة في الحياة. كانت عائلتي مغلقة ومتدينة في بلدة صغيرة في جنوب إيران، ولم يكن أحد يفهم كيف يمكنني، رغم نشأتي في هذا الجو، أن أطمع بكل تلك المحظورات. كانوا يحدّقون بي بغضب وتعجب: أنت تلعبين كرة القدم! تشاركين في موكب عزاء الرجال! ترقصين رقصاً هندياً في الشارع أمام الجيران! وعندما يسألونك ماذا تريدين أن تصبحي تقولين "ممثلة"! الممثلة تعني فاسدة! امرأة تجرؤ على الجلوس بجانب رجل وتتظاهر بأنها زوجته رغم أنها ليست كذلك، امرأة دنيئة. الممثلة وجه آخر للعاهرة.
ولكن ما كنت أراه في التلفزيون الإيراني كان بعيداً جداً عن الفساد! نساء يرتدين ملابس واسعة وطويلة تغطي كل تفاصيل أجسادهن، وشالاً مغلقاً بإحكام يغطي شعورهن؛ يجلسن بعيداً عن الرجال ويتحدثن بخجل وحياء، لا يضحكن بصوت عالٍ أبداً، وأقصى فرحهن ابتسامة خفيفة ونظرة تتجول على الأرض مليئة بالخجل.
في السينما، نادراً ما كان يمكن أن تظهر بعض خصلات الشَّعر من تحت الحجاب، وأحياناً تُسمع ضحكات نساء بصوت عالٍ أو تُلمح نظرة ماكرة سرّاً إلى رجل ما. ربما كان ذلك يأتي ليدلّ على الفسق! لم أكن أعرف حينها.
رغم شعوري بالذنب، كنت أريد كل هذه المحظورات. كنت أرقص على أشرطة فيديو ممنوعة كان عمي يخرجها بحذر من الجريدة ويدخلها في جهاز الفيديو، وأتخيل نفسي أرقص في صالة الجمهور فيها نساء فقط. هكذا كنت أرقص أمام جمهور وأتخلص من الذنب.
في إيران بعد الثورة الإسلامية لم يكن لدينا راقصات، لكن كان لدينا ممثلات. وهذا بالضبط ما أردته، أن أكون ممثلة. هذا لم يكن ممنوعاً في البلاد، لكنه كان ممنوعاً في العائلة، وكنت أستطيع أن أتغلب على العائلة.
قاتلت في عائلتي لسنوات، في عائلة يُسخر فيها من الفن. درست كثيراً وكافحت حتى دخلت جامعة الفنون وسط دهشة الجميع. كانت معجزة حدثت؛ دخلت جامعة الفنون؛ أفضل جامعة للفن في البلد. كنت أسعد إنسانة في العالم؛ أجري حول المنزل لساعات من الفرح ولم أستطع التوقف. كنت أركض وأصرخ من أعماق قلبي. لقد وضعت قدمي أخيراً على الطريق الصحيح. ماذا يمكن أن يمنعني الآن؟
دخلت الجامعة، ولكن لم أكن وصلت بعد إلى القصة الحقيقية. سنوات من القتال في العائلة كانت من أجل الوصول إلى نقطة البداية.
كنت أشارك في مسرحيات طلابية، وفي نفس الوقت قُبلت في أفضل صفوف التمثيل في ذلك الوقت. كان علينا إجراء اختبار قبول. كان الناس يقفون في الصف من السابعة أو الثامنة صباحاً حتى المساء.
درّسونا أن نراقب تعابير الجسد للناس في الشارع، لكن في الواقع؟ لا يمكننا استخدام هذا الجسد! ممنوع للنساء!
كنت قد تمرّنت على مونولوغ من "كورديليا" في مسرحية "ملك لير"، وقدّمته بينما كانت أنفاسي بالكاد تخرج من شدة التوتر. استغرق الأمر أسبوعاً حتى اتصلوا بي وأخبروني أنني قُبلت. لم أعد أعبد الله فقط؛ لقد قطعت خطوة مهمة أخرى. ذلك المعهد كان أهم معهد للتمثيل في طهران. كان أساتذته جميعاً يديرون صناعة السينما في إيران، خصوصاً في اختيار الممثلين، وهذا يعني أنني اقتربت جداً. كان عليّ فقط أن أعمل بجدّ وألا أكلّ.
كنت مولعة جداً لدرجة أن الفارق الطبقي بيني وبين بقية الطلاب لم يزعجني. لم يكن لدي ملابس من ماركات غالية، ولم أستطع شراء الكتب التي يطلبها الأساتذة، كما لم أستطيع الجلوس مع الآخرين في مقهى بعد الدروس. كانوا يقولون إن التعامل والعلاقات أهم بكثير من الدرس نفسه. يقولون إن كل شيء في السينما هو لعبة علاقات. حتى لو كنت الأفضل، بدون علاقات لا تستطيع فعل شيء. أما أنا، كان عليّ أن أعود فوراً للنوم في السكن الجامعي. الساعة 9 مساءً تُغلق أبواب السكن ولا تُفتح إلا صباحاً.
كنت في الجامعة منذ الصباح حتى بعد الظهر، وبعدها في صف التمثيل حتى المساء. في السكن، عندما ينام الجميع، كنت أتدرب على الجسد والتعبير أمام التلفزيون في غرفتي. كنت محظوظة جداً.
بعد عام، أحد الأساتذة قدّم لي دوراً صغيراً في مسلسل تلفزيوني، وقُبلت. شرحوا لي الدور. كانت المرأة مجرمة؛ بعد سرقة مسلحة من بنك، في أثناء المطاردة، تأخذ المال من أمام الجميع وتهرب، ولا يعرف أحد أن هي التي فعلت ذلك. بقية العصابة يُحكم عليهم بأحكام قاسية ولا يعرفون مكان المال لسنوات.
على الورق، كان الدور جذاباً؛ أكشن وحركة كثيرة، لكنه لم يكن كذلك في الواقع.
مديرة الأزياء أعطتني معطفاً طويلاً واسعاً وشالاً أسود أغلقت به رأسي وثبتته بدبابيس. كان عليّ الركض وصعود تلّ، ثم دفع كيس المال إلى الأسفل والتدحرج خلفه. أعدنا اللقطة عدة مرات لأن حركتي كانت كثيرة والمعطف كان يتحرك. رغم أنني كنت أرتدي بنطالاً سميكاً أسفل المعطف، إلا أن ظهوره كان ممنوعاً.
هل هذا أمر طبيعي؟ بعد انتهاء التصوير، مع الفرح الذي كان يغمرني، شعرت بشيء متناقض. هل كان جسدي، الذي علمونا أنه أهم أداة لنا كممثلين، مهماً؟ درّسونا أن نراقب تعابير الجسد للناس في الشارع، لكن في الواقع؟ لا يمكننا استخدام هذا الجسد! ممنوع للنساء!
الدور كان "أكشن" على الورق، لكن في الواقع أزيلت كل الحركات. كل ضربات الرجال، القفزات، الركض، التصادمات، السقوط، كانت مصورة، لكن عندما وصل دوري، كل الحركات أزيلت؛ عليك أن تلقي كيس المال وتسرعي في النزول من التل بطريقة لا تتحرك فيها ثيابك، وتحجبي يدك عن الكاميرا. هل كنت أحلم؟
قلت لنفسي هذا هو الواقع. هذا هو الحال منذ الثورة الإسلامية. كل النساء يمثّلن هكذا. باستثناء سوسن تسليمي التي هربت إلى السويد لأنها لم تعد تحتمل هذا القيد.
لكنني لم أكن أريد أن أتخلى عن التمثيل. منذ الطفولة كنت عاشقة له، وسأقبل كل القيود لأتقدم.
في صفوف التمثيل كان المدرس قد أعدّ كرّاساً دوّن فيه أفضل عروض الممثلات في العالم. كان كتابي المقدس. بعد دخولي الجامعة، أصبح الوصول للأفلام العالمية سهلاً، لم أكن أعرف من هي ميريل ستريب أو كاثرين دينوف قبل ذلك.
كان أول اسم في القائمة هو كاثرين دينوف في فيلم "بيل دو جور". حجزت غرفة عرض في السكن، وجلست أشاهد أداءها وأنا مندهشة، أقول لنفسي "هل يمكنني أن أستلهم شيئاً منها؟" لا شيء. لا يمكن لممثلة إيرانية أن تستخدم جسدها في التمثيل. علينا أن نتخيل أننا بلا جسد. أداتنا الوحيدة هي الوجه. كاثرين دينوف كانت تستخدم جسدها بكل تفاصيله لتحكي القصة، وحركاتها الدقيقة كانت تحرك القصة وتوصّل مشاعر الشخصية.
بعد مشاهدة "اختيار صوفي"، أدركت أن التمثيل الحقيقي هو كل الجسد، والصوت، والروح؛ أن يكون الممثل متمكناً من كل أجزائه، وأن يسيطر على العواطف وينقلها بدقة إلى المشاهد.
التمثيل مهنة رائعة، لكننا نحصل على نسخة مشوهة ومحدودة منها، مختلفة عن كل العالم.
هل كنت أحلم؟ هل هذا كابوس؟ في الجامعة والمدرسة، كنا نتعلم المعايير العالمية، لكن ما نستطيع تنفيذه هو نسخة مشوهة فقط.
كان علينا أن نُجنّب أداء الارتجال أيَّ حركة تؤدي إلى ضرب أو لمسات أو مشاهد حب. أي ارتجال كان "موجهاً" فارغ من "الارتجال". كنا نتساءل، إذا كان الجسد أهم أداة، فلماذا لا نستخدمه؟ إذا كان جسدنا مخفياً داخل حجم واسع، فكيف نلعب؟ كل ما نفعله هو التعبير بالوجه فقط، وبقواعد صارمة كأن: لا تحركي حاجبك، لا تديري عينك كثيراً، لا تحركي شفتيك بمبالغة. كل شيء يجب أن يكون طبيعياً! ما هذا الطبيعي؟ طبيعي أن يحتضن زوجان أحدهما الآخر ويبكيان حين يكونان قد فقدا طفلهما. طبيعي أن يمسك شاب وفتاة بأيديهما برقّة. طبيعي أن ينام الزوجان في نفس السرير. كيف نكون طبيعيين حين تكون كل الأشياء الطبيعية ممنوعة؟
نحن نعيش حلماً جماعياً أم كابوساً غريباً.
يقولون: هذا ما قبله العالم من السينما الإيرانية! الجمهور الإيراني يحب هذا! هذه كلها اتفاقيات. نعم، هي اتفاقيات، لكن جسد المرأة لا وجود له في هذه الاتفاقيات. وجه مدور ويدان بدون زينة فقط.
علمت منذ زمن أن التمثيل الحقيقي للنساء ممنوع.
كنت أطلب التمثيل بكل ما فيه، ولم أقبل هذه النسخة المشوهة.
كنت أحلم بأن أصبح جيدة جداً حتى تصلني عروض من العالم الحقيقي. لكن في قلبي كنت أعرف أن هذا لن يحدث. صوت خافت يهمس في أذني بأن ممثلات إيران في المنفى أسماك خارجات عن الأكواريوم.
الممثلة إيرانية لا يمكنها أن تخلع حجابها في أي مكان في العالم حتى إن كانت خارج إيران. وحتى بالحجاب هناك خطر بعد أن تجرب التمثيل في مكان خارج إيران. هذا ما أظهرته تجربة كُلشيفته فَراهاني، والتي بعد تمثيلها في فيلم أمريكي مع دي كابريو، على الرغم من حجابها، مُنعت عن العمل في إيران واضطرت للهجرة.
الممثلون الرجال مثل همایون إرشادی وبیمان مَعادی وبابَك كريمي ظهروا في هوليوود، ومنحوا الرجال بعض الأمل، لكن النساء لا أمل لهن.
كل يوم أسأل نفسي: كيف رضينا بهذا الظاهرة الغريبة؟ وكيف اعتاد العالم على رؤية هذه الظاهرة الغريبة؟ كيف يمكن أنه في كل مرة يرى أحدهم امرأة في بيتها مرتدية الحجاب الكامل، لا يضحك ساخرًا، لا يغلق التلفاز، ولا يخرج من السينما؟
إذا برز صوت من أعماق نفسك ينكر هذا، تخنقينه سريعاً. خنق الصوت الذي ينبع من أعماق نفسك شيء تتقنينه أكثر من أي شيء آخر
في الظروف الصعبة والمخيفة، كل شخص يجد طريقة ليهدئ نفسه؛ مثلاً، هناك ممثلات يعتقدن أن رقابة النساء وتطبيق كل هذه القيود على السينما أفادت السينما الإيرانية، وأنها وجهتها نحو الاهتمام بالمعنى!
الجميع قبِلَ أن حياتنا بكل أبعادها هي مجرد عقد مبني على فهم شخصي متشدد للإسلام، وقرر الجميع أن يقبلوا الأمور كما هي.
قدموا لنا نسخة مشوهة وغريبة من كل شيء. قبل سنوات، كنت أرغب في تجربة رياضة التجديف، فسجلت بحماس في نادٍ رياضي كبير يُدعى "آزادي".
في نهاية البحيرة، حيث قلما يمر أحد، كانت تقام دروس تجديف للنساء. كان المدرب يطلب منا أن نقفز في الماء لنعرض أننا نعرف السباحة، وأننا لن نغرق إذا سقطنا من القارب. كانت لحظة غريبة. ربطنا أوشحتنا بإحكام حتى لا تسقط في الماء، وقفزنا بـ"المانتو" والسروال والشال، بالحجاب الكامل، في الماء! كان الماء يثقل ملابسنا ويسحبنا للأسفل. كلما حاولنا التحرك أكثر، أصبح من الصعب أن نبقى طافيات. كانت الملابس مليئة بالماء فلا نستطيع السباحة بسهولة. سبحنا بصعوبة عبر المسار المطلوب وعُدنا إلى مكاننا. لم أكن نائمة، لست نائمة. هذه هي يقظتنا، مثل أفظع كابوس.
تخلينا عن كل شيء حقيقي نريده، وقبلنا كل النسخ المشوهة منه، رغم أن قلوبنا تعلم جيداً أنه ليس حتى قريباً من الحقيقة، بل هو سخرية منها.
كنا نُعجب بالواقع من خلال الصور والفيديوهات والكتب، وعندما نواجه الواقع، نجد نسخة مشوهة ومختلفة تماماً تُفرض علينا.
أنا كنت أحب التمثيل كثيراً، ولم أستطع أن أجعل نفسي أوافق على هذا القالب المشوه. قالوا لي: أنت ممثلة سيئة، لا تعرفين كيف تصدقين هذا القالب، ولا تملكين مهارة التظاهر. لكن لديّ صديقات كثر حاولن بجهد مستمر أن يدخلن في هذا القالب الضيق والقبيح، وهن الآن يتألمن من ضيقه، ويتوخين الحذر بألا يقفزن منه فجأة.
لا ينقصنا شيء من العالم. لدينا كل شيء. لكل شيء لدينا نسختنا الخاصة. "السجاد الأحمر"؟! مهرجانات السينما في كل أنحاء العالم فيها سجاد أحمر، ونحن لدينا أيضاً. قبل دخول قاعة المهرجان، وهي قاعة السينما الموجودة فوق المول، يمرّ الجميع على السجاد الأحمر، لكن لا يوجد بريق، لا توجد فساتين سهرة مزخرفة ولا تسريحات شعر مصقولة. لا توجد مشية يداً بيد أو ذراعاً بذراع، لا فرح أو مشروبات. لكن المهم هو السجاد الأحمر فقط. وكل شيء آخر من الأفضل أن يكون بسيطاً قدر الإمكان.
نصدق أننا مشينا على السجاد الأحمر وشاهدنا أفلاماً في قاعة المهرجان. وعندما نجتمع، نتحدث عنها بحماس، ولا يضحكنا الحديث عنها. نحاول ألا نفكر في الفروقات، لا نقارن، لأن التفكير في الاختلافات يحزننا، والمقارنة تدمر نفوسنا.
نحن مثل أطفال يركبون سيارة بلاستيكية ويقودونها بجدية إلى الأمام. مضطرون أن نصدق أن ما نفعله يشبه الأصل!
وهكذا، بينما تجدفين بحجابك الكامل في البحيرة الصغيرة والموحلة في "آزادي"، تتظاهرين بأنك ترتدين زي تجديف محترف أحمر وفضياً، وأنك تجدفين في بحيرة كبيرة هادئة وسط غابة، وملابسك وابتسامتك تتلألأ تحت الشمس وتبرز مجدك. وإذا برز صوت من أعماق نفسك ينكر هذا، تخنقينه سريعاً. خنق الصوت الذي ينبع من أعماق نفسك شيء تتقنينه أكثر من أي شيء آخر.
ربما تحلمين، وربما في يوم ما ستفيقين من حلمك، تشربين كوب ماء وتقولين: كلّ هذا كان مجرد حلم!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.