"كولونيا"... لماذا كان الفيلم المصري الأهم في مهرجان الجونة هذا العام؟

ثقافة نحن والتنوّع

الأربعاء 29 أكتوبر 202511 دقيقة للقراءة

انتهت قبل أيام فعاليات مهرجان الجونة السينمائي في دورته الثامنة (13 إلى 23 تشرين الأول/أكتوبر الجاري). دورة حملت أكثر من 70 فيلماً من مختلف دول العالم، شملت أفلاماً روائية طويلة، وأخرى وثائقية, وقصيرة كان لها النصيب الكبير’ 12 فيلماً تسجيلياً طويلاً، 13 فيلماً في المسابقة الروائية الطويلة، و24 فيلماً طويلاً خارج المسابقات. عُرضت العديد من الأفلام غير العربية المهمة، كما عرض عدد غير قليل من الأعمال المصرية تحديداً. انتهت العروض بجوائز حصدتها أعمال للمرة الأولى، خصوصاً حصول الممثل أحمد مالك على جائزة أفضل ممثل عن دوره في فيلم "كولونيا" الذي نحاول تحليل خطابه السينمائي على اعتباره العمل المصري الأهم في تلك الدورة.

صاحبَ خروج تلك الدورة أزمات متعددة في الخفاء كان أقساها اعتذار الشريك الإعلامي mbc قبل أيام قليلة من افتتاح المهرجان. تماماً كما صاحبها حدث سينمائي استثنائي بمرور ذكرى مئة عام على ميلاد المخرج المصري يوسف شاهين الذي أفرد له المهرجان معرضاً ضخماً للتذكير بتلك الأعمال.

أوجد المهرجان عدداً من الأعمال العالمية التي لديها نصيب من الجوائز المعروفة؛ مثل فيلم جيم جارموش "أب أم أخ أخت"، وفيلم المخرج جليرمو ديل تورو "فرانكنشتاين" الذي أنتجته نتفلكس على غير عادتها في إنتاج مثل تلك الأعمال الضخمة، أو حتى الفيلم النرويجي المذهل "قيمة عاطفية"، وكذلك فيلم "sirat" الأكثر قسوة وعنفاً بين كل تلك الأفلام، وربما أكثر تأثيراً على مشاهديه كواحد من أفضل أفلام العام على الإطلاق.

الملفت أن كل تلك الأفلام غير العربية المذكورة تتوقف حبكتها على علاقة مأزومة بين الأب كمركز كل تلك الحكايات وابنه/ابنته. فإلى جانب كل هؤلاء تأتي أعمال عربية مثل فيلم "50 متر"، المصري التسجيلي الذي قدم قصة المخرجة مع والدها. وفيلم "المستعمرة"، الذي عمل كذلك على صناعة قصة ابن يحمل ماضي أبيه في العمل وخارجه، وفيلم المخرج محمد رشاد الروائي الأول بعد فيلمه التسجيلي قبل سنوات، "النسور الصغيرة"، والذي حكى فيه كذلك حكايته مع والده.

في كل علاقة بين الأب وابنه يكمن عالم من الصراعات غير المعلنة، لكن فيلم 'كولونيا' يجعل هذه الصراعات مرئية، محمّلة بجرأة الصمت والحقائق المخفية

أفلام قليلة هربت من العلاقة الأسرية أو بالتحديد سلطة الأبوّة الصريحة، مثل فيلم "وين ياخدنا الريح" التونسي الذي حصل على جائزة أفضل فيلم عربي في المهرجان. من خلال مراهقة وصديقها، يستخدم الفيلم خيالاً جامحاً يهرب به جيل جديد من واقع مضطرب سياسياً ومأزوم اجتماعياً. يخفف وطأة الواقع بسردية قصصية غنائية. الفيلم كان أشبه بفيديو كليب طويل فيه من الأغنيات ما فيه من الحديث.

كذلك عرض المهرجان عدداً لا بأس به من الأفلام التسجيلية الطويلة، من أفضلها فيلم "أورويل 2+2=5" الذي حاول أن يعيد تأويل رواية جورج أورويل "1984" بصياغة بصرية نادرة الصناعة يثبت فيها فكرته المتشائمة أننا لا نزال نعيش تحت ظل الديستوبيا التي لم تعد خيالاً بعد، مع سيطرة الحكومات المتطرفة على العالم بشكل هرمي وصولاً إلى ما يفعله دونالد ترامب.

إلى جانب كل تلك الأعمال العربية وغير العربية ثمة فيلم مصري ربما كان يمكن أن يكون لديه نصيب الأسد من الحديث، أو أن يُمرّر في المهرجان على اعتباره الاستثناء الوحيد عربيّاً على مستوى خطابه، نحاول في هذا المقال تحليل خطابه لمعرفة مدى استثنائية فكرته، وكيف أخفق المخرج في صناعة عمل ملحمي استثنائي ربما هو الأجرأ خلال هذا العام.

فيلم كولونيا… هل كان فرصة ذهبية مهدره؟

فيلم "كولونيا" أو "My father's scent" الذي كان عرضه العالمي الأول في مهرجان وارسو السينمائي، قبل قليل من عرضه العربي الأول في مهرجان الجونة السينمائي، ربما كان لديه استثناءات متعددة للحديث المنفرد عنه. وربما كان هو الفيلم الوحيد الذي يمكن أن يصبح مفتاحاً لمناقشة نبيهة عن دورة الجونة هذا العام دون غيره؛ وذلك لأسباب تتجاوز الفيلم ومشاهدته وجودة صناعته، للحديث عن اللحظة السياسية والسينمائية والمجتمع الواسع. وهو ما نحاول تحليله.

الفيلم كان العمل الروائي الأول لصانعه المؤلف والمخرج محمد صيام (شاركه الكتابة المؤلف والمنتج أحمد عامر). حمل الفيلم أزمات أغلب المخرجين في عملهم الأول، تحديداً التشتت والرغبة المفرطة في الحديث عن كل شيء في وقتٍ واحد.

أخذ الفيلم حبكته الأساسية من الاعتماد على علاقة حميمية بين أب وابنه. هي للدقة علاقة مضطربة وحميمية في آن. كل واحد منهما على غير وفاق مع الآخر، ثم مع العالم حوله بالتبعية. وسرعان ما يضيّق مخرج العمل الصورة عليهما في محاولة للتصالح مع هذا الماضي واقتحام أسراره. لم يكن شيئاً جديداً تماماً قصة الأب وابنه تلك كما أسلفنا، خصوصاً في دورة كان ربما أغلب أفلامها الجيدة تقف حبكتها المؤسسة بين الأب والابن/ة. لكن عالم "كولونيا" لديه منحى أكثر جرأة في تناوله، أو ربما في تأويلنا الشخصي لخطابه الخفي وسبب صناعته الحقيقي نوعاً ما.

مشهد من فيلم "كولونيا"

حملت ترجمة الفيلم أو تسميته علاقة حميمية لحكاية مصرية أصيلة عن أب وابنه؛ إذ كانت "My father's scent "أو "رائحة أبي" التي تحولت ترجمتها العربية إلى "كولونيا" ترجمة مثالية؛ تسمية كانت، وربما لا تزال، توصيفاً محصوراً لدى ألسنة آبائنا تحديداً، وربما تذكيراً مثالياً بوجودهم فقط. لكن بالرغم من ذلك لم يكن "كولونيا" مجرد فيلم عن معاناة ابن مع والده أو عن علاقتهم المضطربة عموماً.

جوهر قصة "كولونيا" هو حكاية رجل مثلي الجنس تزوج في لحظةِ عاطفة زائدة بخطأ غير مقصود ظل يدفع ضريبته لاحقاً، وفشل متعمّد في التواصل مع ابنه ولمحات متفرقة عن أنه لم يكن صالحاً للزواج أساساً. يقول لابنه بأسى مفرط في أحد المشاهد: "عملت حاجات زمان كتير، أمك استحملتها، علشان كدا استحملتها لما خانتني مع واحد صاحبي". هذه الإشارات العابرة القليلة شكّلت مساراً مختلفاً تماماً لفيلم كان يبدو بسيطاً خطابياً.

أموال تفتح مسارات للجرأة

مع بدايات عرض تتر الفيلم حتى نهايته، ربما كان من الصعب تقبّل أن كل تلك التمويلات التي حصل عليها الفيلم كانت لمجرد قصة بسيطة بين الأب والابن؛ إذ كان الفيلم ربما أكثر الأفلام التي ظهر على تترها تمويلات مالية لصناعتها، مقارنة بالأفلام العربية المشاركة في هذه الدورة. تمرير مشاعر رجل لا يقبل عجزه أو حاضره ثم "نوعه"، بينما يقبل ماضيه المثلي المرعوب من كشفه حتى، هي حبكة أكثر نباهة وجرأة واختلافاً تستحق كل تلك التمويلات. حتى مع إدانة طريقة تنفيذها، إذ بدت الفكرة واسعة نسبياً على مخرجها، لدرجة جعلت الإشارات الأساسية لفهمها مربكة، كما أن التفاصيل حملت تكراراً غير مهم.

الإنتاج السخي في مثل هذه الأفلام تعزز، بشكل أو بآخر، رغبات المنتجين في صناعة أعمال أكثر جرأة في تناول القضايا الاجتماعية. تعيد تلك الأعمال طرح أسئلة أصيلة عن هويتنا وماضينا ومحاولة فك تلك الطلاسم المجهولة دون التزام بمعايير مجتمعية كبيرة وبشكل أكثر جرأة.

الأب والابن في فيلم "كولونيا"

كان "كولونيا" يسرح أبعد عن سؤال يبدو جريئاً على المجتمع كله، فإنه يتخذ من حكاية أب وابنه بطانة جيدة للحميمية التي يحتاج أن ينقلها مع بطل العمل. وبالطبع حمل الفيلم عنترية جعلته يتجرأ لفظياً بشكل حاد ويطلق شتائم وأصواتاً خارجة عن اللياقة المعروفة، لكن ذلك لم ينقص من قيمته لتقديم فكرة جريئة ومهمة بشكل واضح وذي تماس مع المشاهد.

على ما يبدو قد طرحت أغلب الأفلام أسئلة أقوى فنياً وربما كلاسيكية بطرق مبدعة غير مملة عن الآباء والأبناء، لكن "كولونيا" كان يحمل سؤالاً كبيراً عن البلد الواسع الذي بات من الضروري مناقشة تلك الأمور فيه؛ أمور تمرّ في الخفاء خوفاً من مناقشتها.

كولونيا... رشة جريئة في الفراغ

الملاحظة الكبيرة حول الاختيارات التمثيلية للعمل كانت في اختيار بطل الفيلم/الأب، الممثل المظلوم في هذا الدور، كامل الباشا؛ الفلسطيني القادم لتجسيد حياة رجل إسكندراني، وهو كعادة أغلب السكندريين صاخب، ويبدر منه في كثير من الأوقات إيحاءات لفظية وصوتية.

هذا السيناريو تحديداً، المتواري خلف أشياء كثيرة، لا يمكن الحديث المباشر عنها، لكن يمكن إيصالها عن طريق إحساس بطلها، كان مجحفاً لدى إمكانات الرجل غير الجاهزة لتقديم ذلك، لتحميله أسى رجل لا يقبل نوعه.

كانت فكرة مناقشة الجندر تحديداً هي الأكثر نباهة. فقط لأنها لم تكن أسئلة زمنه أساساً. هذه المفارقة بين جيل الأب الذي يأت هنا متمرداً على نوعه بخلاف الأعمال التي كانت تقدّم الأبناء من الجيل الآخر كمتمردين هي ما تجعل العمل أكثر نباهة وإلهاماً. تطرح المفارقة سؤالاً أكثر عمقاً: هل هذه هي أسئلة جيلنا أيضاً؟ هل الجندر فعلاً هو موضوع جيلي المركزي أم أن دفع البعض للحديث عنه جعله مركزياً؟ هل هو حكاية الإنسان مع نوعه أو شكل حياته الذي يحاول عمله بأثر رجعي وسط تغير المجتمع بجرأة جيل أجدد؟

الأمر الآخر الذي يجعله العمل الأهم مصرياً، أنه إلى جانب جرأة موضوعه الخفي في ذاته، فهو يقدّم بطله ابناً لطبقة لا يُسمح لها بالتحرر المطلوب أساساً؛ رجل في طبقة متوسطة دنيا. لذلك تأتي المناقشات مكتومة وصامتة أكثر من كونها محرّمة، فهنا ثمة أزمة اجتماعية طبقية تُزيد الأزمة الجندرية أسى.

التمويل الكبير للفيلم لم يأتِ لمجرد صناعة قصة عائلية، بل ليتيح للمخرج الفرصة لإبراز كيف أن الصمت عن الأسرار الشخصية يمكن أن يكون أعمق تعبير عن المجتمع نفسه

في مشهد عابر يصرخ الابن/أحمد مالك، طالب الطب الذي تحوّل بشكل درامي إلى بائع مخدرات/ديلر ربما لصدمات متكررة صعب استيعابها، وكأنه كان يعرف نوعاً ما أن والده مثلي الجنس. يقول أحمد بصوت فيه شكوى مكتومة إلى صديقته: "عايزاني أقولك إيه؟ إن أبويا راجل وسخ؟". "القبح/الوساخة" تحديداً دون أي صفة أخرى خلقت الفاصل الذي قد يستحيل تجاوزه بينهما دون كلام جريء يدرك فيه المرء معنى وجوده الحقيقي.

"كولونيا" كان رائحة خفيفة لن تزول أبداً، عن التصاقنا بآبائنا دون رغبة أبداً. رائحة لن يذهب أثرها مهما خفت أو ظنّ صاحبها أنها تلاشت. رشّها المخرج في الفراغ ولم تمر أمام أنف مشاهده ليشمّها جيداً، رغم أثرها الواضح عليه بعد المشاهدة.

أورويل... إدانة سياسية وأحياناً مجتمعية

في أفضل الأفلام الوثائقية في هذه الدورة من مهرجان الجونة كان فيلم "٢+٢=5". يستخدم المخرج السياسي المعروف راؤل بيك، في هذا الفيلم، ألفاظاً مثل "الأب/الأخ الأكبر" على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. يقدّم المخرج معنى السلطة هنا على اعتبارها قادمة من الإباحة/الوقاحة غير المسبوقة. الكلام/التحرر التام حتى في التعبير عن الأخطاء صنع جماعات متضامنة. هذا الفيلم خلق تساؤلات موازية في أن كثيراً من الإدانات السياسية العالمية والداخلية مؤخراً كانت عن طريق إدانات جندرية عائلية أولاً، يتكشّف معها أشياء أخرى لاحقاً؛ تُستبعد بسببها أناس وتعيد تشكيلات الواقع.

ولأن الحديث السياسي بشكل منفصل بات شبه مسدود، فربما أمسى من المنطقي أن يصبح الحديث عن الاجتماعي والذاتي الذي قد يصل إلى السياسي والعام. لذلك، وحتى لو لم يقصد هذا الفيلم هذا الهدف، أو حتى إن لم ينفّذه بشكل محترف تماماً إخراجيّاً، فإن مناقشته ملهمة ومهمة. ربما لو تحدّث الناس دون خوف عن الذاتي، فسيتجرأون في الحديث عمومًا، ولذلك يمكن أن نعتبر أن الذاتي يفتح المسار للعام.

كرة الثلج تتدحرج إذا جرى الكلام على مساره، وإن كان ممنوعاً. ربما باتت الإتاحة/البوح/الوفرة هي التي تعيد تشكيل الأفكار، وليس الامتناع/التجاهل/الصمت الذي كان اختيار جيل مختلف. وربما للمفارقة الملهمة أن جيل الأب الذي يقدّمه الرجل في "كولونيا" على اعتباره استثناءً، هو من هذا القبيل. ربما كان "كولونيا" فيلماً متلعثماً، لكن لأن الجميع صامت عن مثل تلك الأمور منذ زمن، فإنه صوته بدا مبحوحاً. لكنه يظل فيلماً مفتاحاً عن الجرأة وما يمكن أن تصنعه. إنه مسار لتواصل جيلين مشتتين مكلومين. منطقة لا يدخلها أحد سوى عن طريق الحديث. وربما لذلك يُعتبر فيلم "كولونيا" العملَ الأهم في الدورة الأخيرة من مهرجان الجونة السينمائي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

من 12 سنة لهلّق، ما سايرنا ولا سلطة، ولا سوق، ولا تراند.

نحنا منحازين… للناس، للحقيقة، وللتغيير.

وبظلّ كل الحاصل من حولنا، ما فينا نكمّل بلا شراكة واعية.


Website by WhiteBeard
Popup Image