الرواية أحد أهم ينابيع السينما، وعلى طول تاريخ السينما العالمية والمصرية وجدت أعمال كبار الروائيين طريقها من الكُتب إلى الشاشات بعد معالجتها عبر السيناريو لتغدو صالحة للوسيط الجديد.
وعلى الرغم من اعتمادها الواسع على الأدب المكتوب، خاصة خلال ما يسمى بعصرها الذهبي (1942 -1967)، تركت السينما المصرية للرقابة الرسمية والرقابة الذاتية التي مارسها المنتجون والمخرجون والكتاب حرية تغيير بناء الشخصيات وتغيير الأحداث والنهايات التي سجلتها الأعمال الأدبية، وكانت تلك التعديلات تأتي إما خوفاً أو طمعاً، ووصل العسف حد إدخال تغييرات تقلب المعنى والهدف الذي أراده الكاتب أصلاً، كما يستعرض رصيف22 في هذا التقرير.
إحسان عبد القدوس عدوّ الرقابة
يعدّ إحسان عبد القدوس واحداً من أكثر الروائيين المصريين الذين نقلت أعمالهم الادبية إلى الشاشة، وخاصة من بعد حركة الضباط (يوليو 1952) خلال فترة ربيع الود بينه وبينهم، إلا أن ذلك الود - الذي سرعان ما عصفت به رياح الولاءات والسياسة- لم يمنعه من أن يكون واحداً من أكثر من تعرضت أعمالهم الادبية للتغييرات المجحفة أحياناً عند انتقالها لشاشة السينما، خاصة أنه من أكثر الأدباء الذين اصطدموا بتابوهات المجتمع الثلاثة المقدسة: السياسة والدين والجنس.
على الرغم من اعتمادها الواسع على الأدب المكتوب، خاصة خلال ما يسمى بعصرها الذهبي (1942 -1967)، تركت السينما المصرية للرقابة الرسمية والرقابة الذاتية التي مارسها المنتجون والمخرجون والكتاب حرية تغيير بناء الشخصيات وتغيير الأحداث والنهايات التي سجلتها الأعمال الأدبية
لا يهود في هذه المدينة
في الفيلم المأخوذ عن روايته "أنا حرة" تبحث البطلة أمينة عن حرية مطلقة بلا ضغوط مجتمعية أو دينية، وفي بحثها يصور إحسان هروبها لحي الضاهر حيث تعايش اليهود في ظل تعددية كان المجتمع يسمح بها ويتسامح معها، وهناك تتعلم الرقص واللغة الفرنسية، ولكنها ترفض فوضى العلاقات المفتوحة والتي قوامها الجنس من دون حب مسبق. الفيلم يعرض فقط رفض الفتاة أمينة لهذا اللون من التحرر الجنسي الفوضوي، ويعرض تعلمها الرقص واللغة الفرنسية ولكن بدون ذكر أي كلمة عن اليهود وحارة اليهود، لماذا؟
الفيلم يعرض فقط رفض الفتاة أمينة لهذا اللون من التحرر الجنسي الفوضوي، ويعرض تعلمها الرقص واللغة الفرنسية ولكن بدون ذكر أي كلمة عن اليهود وحارة اليهود، لماذا؟
الإجابة تكمن في كون الرواية كتبت عام 1954 وأنتجت سينمائياً في 1959 في وقت بات اليهود المصريون والأجانب المقيمين في مصر يتعرضون لتضييق ونظرات تخوين دفعت كثيرين منهم لهجرة البلاد.
في الرواية أيضاً تتخلى البطلة عن حريتها مقابل حبها لعباس الصحافي المناضل ضد فساد الملك، فتعيش معه من دون زواج في بيته، وهي تؤكد أن الحب أذاب الحرية وأذاب أمانيها حتى في الإنجاب، ويلاحقها المجتمع متسائلاً متى تتزوجه؟ إلا أنها لا تتزوجه وتستمر في الإقامة معه في بيته. لكن هذه النهاية مخيفة بالنسبة للمجتمع المصري المحافظ ولم يكن ليقبلها بسهولة على شاشة السينما فتغيرت لأسباب سياسية واجتماعية وتجارية، وأضاف صناع الفيلم نهاية لم تكن موجودة في النص الأدبي، وهي أن يُسجن عباس وأمينة، ثم تصر هي أن يعقدا قرانهما في السجن في 22 يوليو/تموز 1952، في إشارة واضحة من صناع العمل إلى أن الحرية الحقيقية لأمينة وعباس ولمصر لن تتحقق من دون أن يتحرر المجتمع كله من الإستعمار ومن الملكية في اليوم التالي لزواجهم بقيام ثورة 23 يوليو 1952.
اللذان كتبا السيناريو وقاما بتلك التعديلات هما السيناريست العملاق السيد بدير والأديب الغني عن التعريف نجيب محفوظ، اللذان صنعا الفيلم كهدية ترحيب ودعم للنظام القائم وقتها.
تجريد الرواية السياسية من سياستها
أما رواية حتى "لا يطير الدخان" التي كتبها إحسان عام 1977، فتكاد تكون نقيضاً لرواية "أنا حرة"، فالخلفية السياسية لم تكن هي الأساس، واهتم الكاتب بمناقشة فلسفة الحرية وكيف يمكن للحب أن يغتال الحرية، فمن يحب يضحي بحريته كما يقول إحسان في روايته، في "أنا حرة" كان البطل هو عباس الصحافي الباحث عن حرية الوطن والنضال ضد الاستعمار وفساد الملكية إلا أن هذا مجرد خلفية لسعي البطلة لحريتها؛ لكن في "حتي لا يطير الدخان" تتصدر السياسة الواجهة وتشكل سلوك الأبطال وتحدد مصائرهم، ففهمي عبد الهادي الطالب الفقير يتحذ التناقضات السياسية سلما يصعد عليها للوصول لأعلى درجة من الرفاهية يمارس كل أشكال الفساد ليصل إلى ما يبتغيه من مال ونساء ونفوذ، وتصحبه في رحلته هذه الخادمة سنية، مساعدته وعشيقته ولكنه لا يحبها ولا يتزوجها.
في الرواية نرى البطل يثري وينتقم لأيام الفقر التي عاشها، فهو الخادم المخلص للباشا يساعده على إنقاذ أمواله وأراضيه من لجان مصادرة الثورة. ثم يخدم رجال الثورة أنفسهم ويفتح شقة خاصة لخدمة نزواتهم الجنسية. هو خادم للمال في جميع الأحوال والعصور، لا يعرف الحب أبداً، فعندما يطلب أحد الرواد الأثرياء سنية عشيقته لا يمانع أبدا في منحها له، فالمال هو العشق الحقيقي
الرواية تستعرض عدة مراحل بداية من الملكية فالتغيير السياسي الذي صاحب يوليو 52 وتبشر في النهاية ببدايات عصر الانفتاح، ومن خلال تشريح عميق يصور لنا إحسان الانتهازية السياسية لشخصية عبد الهادي ومثالب كل فترة سياسية.
في الرواية نرى البطل يحقق ثروات ينتقم بها لأيام الفقر التي عاشها طالباً في الجامعة، فهو الخادم المخلص للباشا ينصحه وينقذ أملاكه من وضع الثورة على فدادينه الكثيرة، فيحذره في الوقت المناسب وينصحه بكتابة مئات الفدادين بأسماء أولاده وزوجته، ويكافئه الباشا بمنحه مائة فدان. ثم يخدم رجال الثورة ويفتح شقة خاصة لخدمة نزوات عضو مجلس قيادة الثورة مع خيرية بنت الباشا. هو خادم للمال في جميع الأحوال وكل العصور، لا يعرف الحب أبداً، فعندما يطلب أحد الرواد الأثرياء سنية عشيقته لا يمانع أبدا في منحها له، فالمال هو العشق الحقيقي.
هذه هي الرواية، لكن في الفيلم يتم إسقاط الجانب السياسي تماماً، وتقدم قصة فهمي عبد الهادي على كونها قصة صعود إنسان فقير ذكي يدير شقة للحشيش ويستغل علاقاته في الثراء ويحذف كل ما يتعلق بالسياسة والدعارة، بل يعاقب الفيلم فهمي الذي يموت في نهاية الفيلم في حكم أخلاقي على سلوكه، وهذا ما لم يرد في الرواية حيث ينهيها الكاتب الرواية وفهمي يقوم بعدّ الدولارات، في إشارة ذكية لاستمرار هذا النموذج وسيادته في تباشير عصر الانفتاح، وهي نهاية تبدو أكثر اتساقاً مع المتغيرات السياسية التي حدثت في مصر.
والحقيقة أن أحمد يحيى مخرج الفيلم ومنتجه واجه رقابة متعسفة إذ استمر الفيلم موقوفاً 4 سنوات حتى سُمح بعرضه عام 1984، وطلبت الرقابة العديد من التغييرات التي اضطر إليها حتى يسترد الأموال التي صرفها كمنتج، بل كتب على تترات الفيلم شكراً للنظام إشادة به وأكد أن "النظام حقق الكثير من الأشياء العظيمة رغم وجود هنات بسيطة" واستجاب لجميع طلبات الرقابة فخرج العمل خالياً من أي سياسة أو انتقاد لأي نظام سواء الملكي أو نظام ثورة يوليو أو نظام (السادات مبارك).
نظارة سوداء لا ترى الصليب
في "النظارة السوداء" المكتوبة عام 1952، والتي أنتجت سينمائياً في 1963، نتابع "سوزيت"، الفتاة اللاهية التي تنتمي لطبقة راقية وتحمل جنسية فرنسية وتعيش حياة من الفوضى الحسية المادية، يلتقي بها المهندس إسماعيل الفقير صاحب المبادىء والروحانيات ولكنه ينجذب لها انجذاب النقيض لنقيضه.
ترتدي سوزيت دائماً نظارة سوداء وصليباً من الذهب. الصليب رمز الهداية والنظارة السوداء رمز ظلام الضلال. في الرواية يتحول إسماعيل المثالي لانتهازي سياسي، وسوزيت المرأة الفوضوية الشهوانية السكيرة المازوخية تحولت بشراً سوياً، ولكن ظل التناقض بينهما قائماً.
الفيلم أسقط تماماً تفصيلة الصليب المعلق في رقبتها، وتجاهل مشهداص دالا في الرواية تتغزل فيه سوزيت في قس وسيم داخل الكنيسة، وتتحسر على ضياع شبابه وتشتهيه.
في الفيلم أيضاً نرى المهندس إسماعيل بأنه نصير للعمال ومدافع عن حقوقهم، ولكن في الرواية يكون دفاعه عن الفقراء عندما كان فقيراً فقط وبشكل شفوي، وعندما يصبح عضواً في البرلمان، يتخلى تدريجياً عن كل شيء إلا عن مصلحته الخاصة حتى أنه يقول لسوزيت إن المبادىء عصا يتكئ عليها الضعيف والفقير فقط. أما الغني والقوي فلا يحتاجان للمبادئ!
في الرواية ترتدي سوزيت دائماً نظارة سوداء وصليباً من الذهب. الصليب رمز الهداية والنظارة السوداء رمز ظلام الضلال. لكن الفيلم يسقط تفصيلة الصليب تماماً ومشاهد أخرى لسوزيت في الكنيسة تكشف عن طباعها وشخصيتها المغرقة في الحسية
وتقديم شخصية إسماعيل كثائر يدافع عن حقوق العمال ثم يتخلى عنهم مؤقتا ليعود إليهم ثانية هو تحريف في الفيلم أرتبط بقيام ثورة يوليو التي أنتج فيها العمل، وحتى نهاية الرواية يفترق كل منهما بعد أن بدلا موقعيهما ولكن ظل التناقض قائما.
لا يتزوجان في الرواية، أما في الفيلم فيكسران النظارة السوداء، وتبدو نهاية البطل أكثر منطقية واتساقاً مع هذا الثوري المزيف الشفاهي الذي يثور حتى تتحسن أوضاعه الخاصة لا أوضاع مجتمعه.
عبد الناصر رقيباً
فيلم آخر لإحسان عبد القدوس كان عرضة للرقابة السياسية والأخلاقية، لكنها رقابة من نوع خاص، ففي سنة 1959، أبدى الرئيس جمال عبد الناصر شخصياً عدم رضاه عن "الفوضى الأخلاقية والجنسية في قصص "البنات والصيف"، المجموعة التي نشرت عام 1959 وتحولت إلى فيلم سينمائي في عام 1960، فتم تغيير الفيلم لينتهي بانتحار البطلة التي قامت بدورها مريم فخر الدين، عقاباً لها على خيانة زوجها في الفيلم، وهو ما لم يحدث في القصة الأصلية.
على أثر ذلك أرسل إحسان عبد القدوس رسالة طويلة للرئيس جمال عبد الناصر يشرح له فيها أسباب كتابته للقصص، وأنه ليس هدفاً تجارياً، بل هدفه "كشف وتعرية الانحلال الأخلاقي حتى يسخط الناس ويحفظوا هذه السلوكيات، ويؤكد أن الواقع أكثر انحلالا مما نقله هو في قصصه".
أرسل إحسان عبد القدوس رسالة طويلة للرئيس جمال عبد الناصر يشرح له فيها أسباب كتابته للقصص، وأنه ليس هدفاً تجارياً، بل هدفه "كشف وتعرية الانحلال الأخلاقي حتى يسخط الناس ويحفظوا هذه السلوكيات، ويؤكد أن الواقع أكثر انحلالا مما نقله هو في قصصه"
وهذا مقطع من خطاب إحسان للرئيس عبد الناصر: "وقد أبلغني صديقي [محمد حسنين] هيكل أن سيادتكم قد فوجئت عندما قرأت في إحدى قصص البنات والصيف، بما يمكن أن يحدث داخل الكبائن على شواطئ الإسكندرية. والذي سجلته في قصصي يا سيدي الرئيس يحدث فعلًا.. ويحدث أكثر منه.. وبوليس الاداب لن يستطيع أن يمنع وقوعه، والقانون لن يحول دون وقوعه، إنها ليست حالات فردية –كما قلت– إنه مجتمع… مجتمع منحل. ولن يصلح هذا المجتمع إلا دعوة.. إلا انبثاق فكرة، تنبثق من سخط الناس، كما انبثقت ثورة 23 يوليو. لهذا أكتب قصصي".
أما أغرب وأطرف ما توقفت عنده الرقابة هو ما حدث مع رواية "يا عزيزي كلنا لصوص" التي كتبها عبد القدوس في 1982 وأنتج الفيلم المأخوذ عنها عام 1989. فقد اعترضت الرقابة على عنوان الفيلم، وهو ما ينطبق عليه المثل الشعبي "اللي علي راسه بطحة"، واعتبرت الرقابة أن اسمه فيه حكم على البلد كلها بأن تعيش فيها (وتحكمها؟) مجموعة من اللصوص، وأوقف وزير الثقافة الفيلم عامين ثم عادت الرقابة لتجيزه بنفس الاسم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع