لماذا

لماذا "يختفي" الناس في سوريا؟

حياة نحن والنساء نحن والحقوق الأساسية

الخميس 30 أكتوبر 202517 دقيقة للقراءة

"فُقد/ ت الشابّ/ ة بعد خروجه/ ا من منزله/ ا وانقطعت الأخبار عنه/ ا حتى تاريخه"، "اختفاء طفل/ طفلة في ظروف غامضة"، "وُجد جثمان رجل/ امرأة على قارعة الطريق بعد اختفائه/ ا منذ أيام"، "السيدة (س) تظهر في فيديو تقول إنها تركت منزل زوجها لأنه يُعنّفها"، و"تلقّت عائلة الشاب/ ة اتصالاً من خاطفيه/ ا يطلبون فيه فديةً ماليةً"، وغيرها؛ عبارات أصبحت تُقرأ بشكل شبه يومي على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي في سوريا خلال الشهور الأخيرة، مترافقةً مع سيل من التعليقات والاستفسارات حول "روايات" متعدّدة وأسباب مقترحة لـ"الااختفاء" و/ أو "الخطف"، ثم لا يلبث الأمر أن يتحوّل إلى "عراكٍ سياسي" بين المعلقين دون الوصول إلى نتيجة تُفيد الضحايا، أو ذويهم، أو البلد وحالته المتخبطة.

عندما قرّرنا العمل على هذا التقرير الصحافي، لم يكن الهدف إدانة أي طرف على حساب أي طرف آخر، بل هي محاولة جادة للإجابة عن سؤال: لماذا يختفي الناس في سوريا؟، بعد أن أصبح "اختفاء الناس" ظاهرةً متكررةً في هذه البلاد التي لم يأذن القدر لها أن تتخلّص من الألم حتى الآن، على أمل إنصاف الضحايا وكشف مصيرهم وتسليط الضوء على قضيتهم التي يجري بانتظام تمييعها عبر سجالات فيسبوكية دون إيجاد حلول جذرية وعملية لها.

عشرات الحالات الموثّقة، تركيز جغرافي واضح، انتماء طائفي ملحوظ، ومصير غامض غالباً… لماذا يتحوّل البحث عن مفقودين/ ات في سوريا إلى "عراك سياسي" وأحياناً كثيرة "طائفي"؟ 

حالات متكرّرة وملابسات متفاوتة

لا يوجد إحصاء دقيق لعدد حالات الخطف والاختفاء والهروب مجهولة المصير في سوريا منذ إسقاط نظام بشار الأسد، في كانون الأول/ ديسمبر 2024. غير أن المؤكد أنها بدأت في وقت مبكر جداً من عهد السلطة الحالية، وسط عدم قيام السلطات الأمنية بجهود واضحة لتفسير هذه الحوادث المتكررة أو اتخاذ خطوات جادة لمنع تكرارها وجلاء مصير ضحاياها المغيبين/ ات.

ففي كانون الأول/ يناير 2025، أثارت قضية اختطاف/ اختفاء الأكاديمية والناقدة السورية رشا العلي، أستاذة الأدب العربي في جامعة حمص وعضوة اتحاد الكتّاب العرب، اهتماماً كبيراً في الشارع السوري، خاصةً بعد تقارير عن مقتلها على أيدي مسلحين، ثم نفت عائلتها حدوث القتل فباتت مفقودةً، ولا يزال مصيرها مجهولاً حتى تاريخ إعداد التقرير. بدأت الواقعة بمعلومات عن اختطاف الدكتورة رشا على يد مجموعة مسلحة، في أثناء توجهها من منزلها إلى الجامعة في حمص (وسط سوريا).

لكن القصة الأشهر، ربما حتى الآن فقط، كانت قصة "ميرا وأحمد"، حيث انتشر خبر اختفاء الشابة ميرا ثابت من ريف حمص في أيار/ مايو 2025، وخرج والدها مؤكداً اختفاء ابنته وتعرّضها للخطف.

لاحقاً، ظهرت ميرا في زيّ أقرب إلى رداء الأفغانيات، تحت حكم حركة طالبان الأصولية، برفقة شاب يُدعى أحمد مع مجموعة من الأفراد المحسوبين على جهات في السلطة، لإخبار والدها بأنهما تزوّجا وأنّ ميرا ذهبت إلى أحمد طواعيةً لا خطفاً لعلمها برفض أهلها زواجهما لأسباب طائفية فهي علوية فيما أحمد سنّي. وانتشرت بعد الفيديو، تعليقات وفيديوهات تدعم سردية الهروب والتمرّد على العائلة، أو تدحضها وتشكك في الحادثة وتعدّها حالة خطف وسبي طائفي، شهدت إكراه ميرا وأهلها على ادعاء ما يخالف حقيقة الأمر.

وفي حزيران/ يونيو 2025، خلقت قضية السيدة مي سلوم، من اللاذقية (أم لثلاثة أطفال)، حالة جدل كبيرة بين السوريين، فبعد اختفائها ومُناشدات ذويها وأطفالها لمعرفة مصيرها، ظهرت في فيديو وهي مُحجبة في ريف حلب، لتؤكد أنها لم تُختطف، بل تعبت من ضغط عائلتها وعنف زوجها، وقررت العيش مع صديقة تعرّفت إليها عبر فيسبوك قبل 10 سنوات.

وفي وقت سابق من الشهر الجاري، تصدّر اسم الطفل محمد قيس حيدر، حسابات مواقع التواصل الاجتماعي السورية، بعد اختطافه قرب مدرسته في اللاذقية على أيدي ملثمين، وأمام أعين المارة. أثارت القضية مخاوف أهالي الطلاب والأطفال في المحافظة وفي عموم سوريا، خاصةً أن مصير الطفل لا يزال مجهولاً، وغالبية الروايات المتداولة عن أسباب اختطافه تشير إلى العامل المادي و/ أو الطائفي.

تقارير دولية وحقوقية

في 28 تموز/ يوليو 2025، أفادت منظمة العفو الدولية: "منذ شباط/ فبراير 2025، تلقت المنظمة تقارير موثوقةً تفيد باختطاف ما لا يقلّ عن 36 امرأةً وفتاةً علويات، تتراوح أعمارهن بين ثلاثة أعوام و40 عاماً، على أيدي مجهولين في مختلف أنحاء محافظات اللاذقية، وطرطوس، وحمص، وحماة. ومن بين هذه الحالات، وثقت منظمة العفو الدولية ثماني حالات اختطاف وقعت في وضح النهار لخمس نساء وثلاث فتيات دون 18 عاماً من الطائفة العلوية. وفي جميع الحالات الموثّقة، عدا واحدة، تقاعس عناصر الشرطة والأمن عن إجراء تحقيق فعال لمعرفة مصير المختطفات وأماكن احتجازهن".

في الشهر نفسه، عبّر خبراء الأمم المتحدة عن بالغ قلقهم إزاء ما وصلهم من تقارير مقلقة بشأن حالات اختطاف، وإخفاء قسري، وعنف قائم على النوع الاجتماعي، ضد النساء والفتيات، ولا سيّما من الطائفة العلوية في مناطق مختلفة من سوريا. أشار الخبراء إلى اختطاف 38 امرأةً وفتاةً علويةً في محافظات عدة، منها اللاذقية وطرطوس وحماة وحمص ودمشق وحلب، منذ آذار/ مارس 2025، مبرزين أنه "في عدة حالات، تلقّت العائلات تهديدات ونُصحوا بعدم متابعة التحقيقات أو التحدث علناً".

ولفت الخبراء إلى أنّ "نمط الانتهاكات الموصوفة -التي تتضمن العنف القائم على النوع الاجتماعي، والتهديدات، وتزويج القاصرات قسراً، والنقص الواضح في الاستجابة الفعالة للحكومة السورية المؤقتة- يشير إلى حملة استهداف ضد النساء والفتيات العلويات على أسس متقاطعة".

وكان تحقيق لوكالة "رويترز"، نُشر في نهاية حزيران/ يونيو 2025، قد وثّق حوادث نقل مخطوفات إلى خارج البلاد. 

قبل أيام، قالت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، لمنصة "تأكد" السورية المعنية بتدقيق المعلومات، إنها وثقت "ما لا يقلّ عن 212 شخصاً بينهم 8 أطفال و9 سيدات، تم اختطافهم في سوريا على أيدي عناصر مجهولة، منذ إسقاط النظام وحتى 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، وقد أُطلق سراح 43 منهم وعُثر على جثامين 76 قتلوا بعد ساعات من اختطافهم"، مبرزةً أنّ غالبية الحوادث وقعت لأسباب انتقامية أو لغرض الابتزاز المالي.

أسباب مختلفة ومتباينة

في ظل حالة الانقسام المجتمعي والسياسي التي تعصف بسوريا، أصبح خطف شخص ما أو اختفاؤه أمراً عادياً، ومن الوارد أن يُقرأ ويُنتقد وأحياناً يُستفاد منه سياسياً، وليس كحالة إنسانية مؤلمة تهدّد استقرار البلاد. فنجد من يرى أن حوادث الخطف والاختفاء الهدف منها ضرب صورة الدولة الوليدة، ومن يُحيلها حصراً مع التعميم إلى أهداف وأسباب طائفية، فيما يذهب فريق إلى نفيها من الأساس وتصنيفها كحوادث هروب طوعية لأسباب عائلية أو عاطفية.

تعقيباً على هذه الحوادث، توضح الصحافية والناشطة لمى غسان، لرصيف22، أن "الانفلات الأمني وعدم وجود بيئة آمنة أمنياً يؤديان إلى وقوع هذه الحوادث"، مستدركةً: "بلا شك، هناك جوانب انتقامية لبعضها، أو مردٌّ طائفي، أو ابتزاز مالي".

تتفق معها الناشطة لمياء يوسف، إلا أنها تشدّد على عمق البُعد الطائفي في مثل هذه الحوادث، حيث تقول لرصيف22: "البلاد تعاني حالياً من حالة انفلات أمني واضحة وفي محافظات محدّدة وهو ما يؤدي إلى وقوع حالات الاختطاف خصوصاً ضد النساء والأطفال. ولأنها تتركّز في طوائف بعينها، لا يمكن نفي البُعد الطائفي عنها، وإن كان الهدف من ورائها الانتقام، أو طلب الفدية".

أما الناشط الحقوقي سومر سقباني، فيشرح لرصيف22، أن السبب الطائفي هو العامل الفيصل لحوادث الخطف والاختفاء في سوريا، مبرزاً: "تركيز هذه الحالات على مكوِّنات معيَّنة دليل على الخلفية الطائفية لها، وتكرارها بشكل شبه يومي ينفي أن تكون النسبة الكبرى منها تحدث لغرض الثأر الشخصي أو الابتزاز المالي".

ويُردف سقباني: "التكرار مؤشِّر على تحوّل هذه الحوادث إلى نمط ومنهج تتعرّض لهما الأقليات تحديداً، التي أصبح من روتين يومها الشعور بالخطر والاستهداف والحصار، منذ أن باتت أسئلة مثل: ما اسمك؟ وأين وُلدت؟، حُبلى بغايات خطيرة. كما أن تكرار هذه الحالات فيما نقترب من الذكرى السنوية للتحرير، دليل على تقصير السلطة في تدارك ما يحدث، وتحجيم ما تصفه هي بـ'الأخطاء الفردية'. فالحديث عن بضع تفاحات فاسدة في الوعاء، إبعاد للتهمة عن الوعاء نفسه، وكأن الظروف هي التي تصنع البشر لا العكس".

بدوره، يقرّ الناشط عقبة محمد، في حديثه إلى رصيف22، بصعوبة تحليل هذه الحوادث وفهم أسبابها، تحديداً بالإشارة إلى "النقص الكبير في المعلومات الذي يجعل من تحليل هذه الحوادث أمراً صعباً، وربطها بالعامل الطائفي بحاجة إلى تحقيق مستقل مُعمَّق للحصول على أجوبة واضحة. فحالات الاختطاف اليوم لا تقتصر على مكان مُعيّن في سوريا، برغم توجيه البوصلة نحو الساحل، وعمليات الخطف منذ وجود النظام السابق حتى اليوم موجودة على امتداد الخريطة".

بدايةً من الأكاديمية والناقدة السورية رشا العلي مطلع العام، والتي لا يزال مصيرها مجهولاً، مروراً بقصة "ميرا وأحمد"، وصولاً إلى الطفل محمد قيس حيدر… لماذا يجري تمييع حالات اختفاء و/ أو اختطاف سوريين/ ات عبر سجالات فيسبوكية سياسية أو طائفية دون إيجاد حلول جذرية وعملية لها؟

ويشرح محمد: "في جنوب سوريا تاريخياً، هناك ظاهرة مشهورة هي الخطف المتبادل بين البدو والدروز. وغالباً ما يكون هدفها الفدية والمال، أو الانتقام والتهديد. ولا شك أن الفلتان الأمني يلعب دوراً كبيراً في وقوع هذه الحوادث وغيرها، من حوادث القتل والسرقة، مع التأكيد على أن الجهات الأمنية تحاول جاهدةً الحدّ منها، ولكن يجب تفعيل طرق أكثر جودة، بما في ذلك تركيب كاميرات مراقبة".

علي حاتم، وهو اسم مستعار لصحافي من طرطوس طلب عدم ذكر اسمه لاعتبارات السلامة الشخصية، خلال حديثه إلى رصيف22، يربط بين البُعد الطائفي لحوادث الخطف وعوامل أُخرى، فيقول: "هذه الحوادث تشكّل خطراً حقيقياً على سوريا، وهي تزداد بسبب انتشار الفقر والبطالة وغيرها من الأسباب التي تغذّي السبب المباشر لهذه الحوادث؛ السبب الطائفي".

خطف وتغييب أو تمرّد؟

لا تنفي لمى أن حوادث عدة ظهرت على شكل هروب من مشكلات أو قيود عائلية. لكنها تستدرك بأن "هذه الحالات محصورة في فئة عمرية محدّدة ولا سيّما فئة المراهقين/ ات". أما يوسف، فتستسخف تحويل حالات الخطف إلى حالات تمرّد عائلي، وتتابع: "فكرة الهروب من العائلة اليوم فكرة مُضحكة. فجأةً أصبح كل مُختفٍ أو مختفية -على الأرجح- هارباً/ ةً من عائلته/ ا بحثاً عن الحب أو الهدوء بعيداً عن سطوة العائلة؟ حتى مع العلم بأن المجتمع الساحلي مشهور بدعمه للمرأة، وعدم رفضه قصص الحب، لكن فجأةً تحوّل كل اختفاء إلى هروب مزعوم من ضغط الأب أو الزوج". وهي تتمسّك بأنه "يجب التأكيد على أن حماية النساء في سوريا ضرورة مُلحة، فهنّ الحلقة الأضعف".

غير بعيد عن وجهة النظر هذه، يقول سقباني إنّ "الحرب فعل ذكوري، وأكثر من يدفع ثمن لحظات 'المجد' الذكورية هنّ النسوة من كل الأطراف. فالمرأة تصبح خلال الحرب رمزاً يجسّد القبيلة، وانتهاكها ضربة مؤلمة لكل ذكر، فهي في أشد الثقافات ذكوريةً تمثّل نواةً لإعادة إنتاج الجماعة، ولهذا يمثّل تدنيسها بالشتم أو الخطف أو الاغتصاب تلطيخاً للقداسة الجمعيّة، ويخلق شعوراً مريراً بالعار. أقصد مما سبق أن أشكال الاعتداء على النساء هي نمط سائد ومتكرّر في الحروب الأهلية كافة".

ويُرجح حاتم أنّ إلباس حوادث الخطف ثوب "الهروب بسبب خلافات عائلية"، "سياسة من السلطة للتغطية على فكرة الخطف الطائفي"، عادّاً أنها "فكرة غير منطقية خصوصاً بهذه الكثرة. كنا سابقاً نسمع عن حوادث هروب من العائلة لكن ليس بهذا الكم، ولا بهذا التركيز من ناحية الحيّز الجغرافي أو النطاق الطائفي لها، ولا يمكن قراءتها سوى على أنها سياسة من السلطة لدحض فكرة الخطف الطائفي".

في الأثناء، يعتقد عقبة أنّ تمييز حالات الخطف عن حالات التمرد العائلي أمر معقّد ويحتاج إلى الكثير من العمل لا إلى مجرّد ادعاءات رائجة عبر الإنترنت. ويبيّن أنّ "فكرة الهروب من العائلة قضية حاصلة منذ زمن، ولإيضاح ما إذا كانت حالات الاختفاء المتداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي هي حالات هروب أو اختطاف، نحتاج إلى الكثير من العمل والتقصّي لمعرفة ذلك، لأنها حتى إن كانت صحيحةً في حالة معيّنة، فلا يعني هذا أنها صحيحة في كل الحالات".

هذه الحوادث مسؤولية من؟

يتّفق من تحدّثنا إليهم خلال العمل على هذا التقرير على أن الدولة السورية، ممثّلةً في حكومة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، هي المسؤولة عن انتشار ظاهرة الخطف أو الاختفاء، وإن صاغها كل منهم/ نّ في كلمات مختلفة.

من ذلك، تقول لمى إنّ "الدولة هي المسؤول المباشر عن وقوع هذه الحوادث، وذلك بسبب غياب المحاسبة الصريحة والعلنية، فلم نلحظ حتى نية للمحاسبة وفق ما نراه حتى الآن. ولذلك تتكرر هذه الحوادث، ما يؤدّي إلى تهديد السلم الأهلي، وازدياد الانقسام المجتمعي، وتعويم الانتقام، والتأثير على مسار العدالة الانتقالية. كما أنّ انتشار خطاب الكراهية والغوغائية عبر السوشال ميديا يخلق صراعاً بين مؤيدي الخطف ورافضيه، ويسعى كل طرف إلى تقديم إثبات لوجهة نظره متناسياً أنّ هذه السجالات تؤثِّر في الضحايا وذويهم، وربما تخلق ردّات فعل وتراكمات، ما يعني أن عدم ضبط مواقع التواصل الاجتماعي في جانب ما، يزيد من انقسام المجتمع وعدد حوادث الاختفاء".

"هذه الحوادث تهدّد السلم الأهلي، حتى لو لم تكن طائفيةً، أي خارج إطار سنّي-علوي، ويجب على الدولة تحمّل مسؤولياتها".

من جهتها، تعتقد يوسف أنّ "من يتحمّل المسؤولية عن تكرار هذه الجرائم هي الدولة، ممثّلةً في الحكومة الانتقالية، التي تفرض سيطرتها على الأراضي السورية، فلا يمكن أن تكون السلطة وتطالب الجميع بالتعامل معك على أنك السلطة، وأنت لا تُشعر الناس بالأمان. هذه الحوادث تضرب السلم الأهلي في مقتل، فلا يمكن تعزيز السلم في ظل تهديدات طائفية، فهو يحتاج إلى بناء دولة قانون وتطبيق مفهوم العدالة الانتقالية".

لا يختلف سقباني مع ما سبق من حيث تحميل السلطة الانتقالية المسؤولية عما يجري. يشرح: "بغض النظر عن خلفية ما يحدث، يظل الفعل تطاولاً على سيادة الدولة، وتهديداً للسلم الأهلي، لذا لا يهمّ ما تعتقده السلطة، المهم ما يعتقده مكوِّن يشعر بالاستهداف، في حين تتركه السلطة لمواجهة مصيره في ظل الاستهداف المتكرّر. لذا، على السلطة التعامل بحساسية ومسؤولية أكبر قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة وتعمّ الفوضى، لأن هذا السيناريو تكرّر في سوريا حتى باتَ مملاً، وعلى الجميع أن يفهم أن كل مظلوم يستطيع أن يصبح ظالماً".

ويشكّك حاتم في "أنّ هناك دولةً لتحميلها المسؤولية" بالأساس، ويُحيل ذلك إلى غياب الثقة، قائلاً: "من يتحمّل مسؤولية هذا الواقع هي الدولة -إن وُجدت- فلا يمكن تحميل مسؤولية هذه الحوادث للضحية".

ويضع عقبة القسم الأكبر من المسؤولية على السلطة بعيداً عن تصنيف هذه الحوادث -كخطف طائفي أو جرمي- وينبّه: "من يتحمّل مسؤولية وقوع حوادث الاختفاء أو الاختطاف هي الجهات الحاكمة والأجهزة الأمنية، هذه الحوادث تهدّد السلم الأهلي، حتى لو لم تكن طائفيةً، أي خارج إطار سنّي-علوي، ويجب على الدولة تحمّل مسؤولياتها".

هل من حلول عملية وجذرية؟

الخطوة الأساس لوقف هذه الحوادث هي بسط سلطة القانون، وفق ما يقول محدّثونا. من ذلك، تشرح لمى: "تفعيل سلطة القانون على الجميع قبل أي خطوة أُخرى هو أمر من شأنه أن يساعد على إنهاء هذه الظاهرة، مع وجود سلطة فاعلة جادة تُحاسب الجناة بشكل علني وصارم، وتتابع التحقيقات بما يشكّل رادعاً يمنع هذه الحوادث بمختلف أسبابها، ويطمئن المجتمع، ومن ثم يأتي دور المصالحة المجتمعية ودور المجتمع المدني في ضبط خطاب الكراهية، والتخفيف من حدة التحريض، وتوجيه المجتمع نحو التعاضد".

أما يوسف، فتنبّه إلى أنّ "السلطة قادرة على خلق الحلول في حال أرادت محاسبة المجرمين". وتؤكد: "علاج هذه الحالات يتطلّب تفعيل دور القانون والمحاسبة، وشاهدنا مؤخراً ضحيةً عادت إلى أهلها بعد الاختطاف من دون أن ندري من خطفها، وهل تمت محاسبته أو لا، خاصةً أنّ الدولة إن أرادت المحاسبة فإن بإمكانها ذلك، وليس من الصعب عليها بسط سلطتها القانونية قبل العسكرية، ولا ننكر أهمية منظمات المجتمع المدني. كما يجب دحض تلفيقات الذباب الإلكتروني التي تصم الفتيات المغيّبات قسراً أو المختطفات على الدوام بالهروب من الأسرة، حيث إنّ تعويم هذا الكلام يسيء إلى الضحايا وينسف مظلوميتهنّ".

ولأنه "لا حلّ سحرياً وحيداً لما تشهده سوريا"، وبرغم أهمية بسط سلطة القانون، يرى سقباني أن إنهاء هذا الوضع يتطلّب "خطةً متكاملةً" تشمل "خطوات ضرورية عدة، بما في ذلك العمل على إجراء مصالحة وطنية شاملة ولا سيّما بين المناطق التي شهدت أعمال عنف، وبناء المؤسسات، وفرض هيبة الدولة".

وفيما يصف ما سبق بأنها "خطوات ضرورية"، يستبعد سقباني أن تكون "كافيةً لإنهاء حالة الاحتقان الأهلي"، ذلك أنّ "الطوائف لا تخرج من الحرب كما دخلتها، بل تعيد الحرب إنتاج بنيتها وفق سردية عداء للآخر، فتصنع كل جماعةٍ عدوّها وتُجرّده من آدميته، وتضع أفرادها بين أمرين: أن يكونوا ضحايا، أو جلّادين، وتُخيّر الأم بين أن تكون أمّاً لقاتل، أو لقتيل، فيسيطر التوحش والكره والعنف الغريزي على اللاوعي الجمعي، وتُخرج كل جماعة مختلف أنماط الإقصاء الكامنة في تكوينها تجاه الآخر، ويصبح من كان مسالماً وحشاً يتهم غيره بما لم يختره ولم يفعله".

وعليه، يدعو الناشط السوري إلى "جهد ثقافي، لا سياسي واجتماعي فحسب، لتفكيك السرديات وأنماط الخطاب، وكشف كوامن الإقصاء فيها، فهذه الهويات كما يتم وصفها قاتلة لنفسها قبل الآخرين، فقبل أن تلتهم أعداءها تأكل أبناءها".

"لا حل سحرياً وحيداً لما تشهده سوريا"، لذا، يدعو ناشطون/ ات إلى خطة عمل متكاملة لإصلاح الأوضاع تبدأ باعتراف السلطة بالمسؤولية عن حماية المواطنين، وبسط سلطة القانون، وبدء مسار المحاسبة والعدالة بعد رصد وتوثيق الحوادث، بالتزامن مع المصالحة المجتمعية وجهد ثقافي يعمل على تفكيك خطاب الكراهية والتحريض

ولا يرى حاتم، أيّ دور للمجتمع الأهلي أو المدني في علاج ظاهرة الخطف أو الاختفاء، معلّلاً ذلك بأنّ "علاج هذه الظواهر يستوجب أولاً وجود رغبة حقيقية لدى السلطة في علاجها، فدور الجهات المجتمعية والمدنية قد يكون أكثر نجاعةً في قضايا أقل ضرراً وأبسط. أما في قضايا الخطف، فالأمر يحتاج إلى أدوار أكثر حسماً من السلطة والقانون وتفعيل المحاسبة".

في غضون ذلك، يحثّ عقبة على ضرورة توثيق ورصد حالات الخطف وكل الجرائم رسمياً لتكون هذه الملفات والتوثيقات بمثابة المرجع الذي يمكن الرجوع إليه لفهمها وتصنيفها والعمل على وضع حدّ لها. ويختم: "إنهاء هذه الظاهرة يتعلّق بتحقيق مصالحة مجتمعية، وتطبيق حقيقي للعدالة الانتقالية، ولا أعلم إن كانت الدولة تمتلك سجلات خاصة بتوثيق حالات الخطف أو الاختفاء أو الجرائم بشكل عام، لكن هذه النقطة تساعد على فهم الظواهر ومعالجتها"، داعياً السلطات إلى المصارحة بشأن ما لديها من معلومات موثوقة حول هذه الحالات كي يفهم المجتمع سياقاتها ويتصرّف بطريقة ملائمة.

إلى ذلك، يبقى الخلاص من تبعات الحرب الحرب الأهلية التي استمرت 14 عاماً في سوريا، غير ممكن في ظلّ تعاظم مثل هذه الحوادث، فالخطف لا يُنتج سوى الخطف، والقتل لا يؤدّي إلا إلى مزيد من القتل، ما يترك البلاد في دائرة غير منتهية من العنف والانهيار والمصير المجهول.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

باب رصيف22 مفتوح لكُل من يروي عمّا يحصل في سوريا، وينقل الواقع، بعيداً عن السردية التي يُراد بها تعميةً ما، أو إنكاراً شبيهاً بما كان يحصل أيّام البعث.

كي يبقى صوتكم عالياً

Website by WhiteBeard
Popup Image