عن المواعدة كامرأة عربية في أوروبا

عن المواعدة كامرأة عربية في أوروبا

مدونة نحن والنساء

الخميس 13 نوفمبر 20259 دقائق للقراءة

عن المواعدة كامرأة عربية في أوروبا

استمع/ي إلى المقال هنا

تم إنتاج المحتوى الصوتي من خلال أدوات الذكاء الاصطناعي، لمزيد من المعلومات اضغط/ي هنا

في المساء الذي شاهدتُ فيه فيلم "الغريب"، المأخوذ عن رواية ألبير كامو، كنت أجلس في قاعة مظلمة في "نانت" الفرنسية إلى جوار رجل عربي تعرفتُ إليه عبر تطبيق مواعدة.

كان الفيلم بالأبيض والأسود، ومع كل مشهد كنت أشعر أننا نعبر بوابة زمنية إلى عالم أكثر صفاء وهدوءاً مما يسمح به الواقع.

بعد ساعة تقريباً وضعت رأسي على كتفه. لم أفكر في الأمر كثيراً، كانت لحظة راحة صافية، مثل استراحة صغيرة في منتصف صخب المدينة. أمسك يدي برفق، ولم يتركها حتى نهاية الفيلم.

وبعد أن انتهى العرض وغادر جميع الناس، نظر خلفه ليتأكد أن القاعة خلت تماماً، ثم قبّلني.

في تلك اللحظة، شعرت أن الرجل العربي ما زال يختلس القبلة كما يختلس لحظة حريةٍ عابرة، لا بدافع الخجل بل بدافع الخوف من أن تُسلب منه، وكأن الحب عنده يجب أن يحدث في الظل كي يظل ممكناً.

من هذه التفصيلة الصغيرة فهمت أشياء كثيرة عن الهوية وعن المسافة الطويلة بين المسموح والمرغوب.

بعدها خرجنا إلى بار قريب وطلب "موخيتو" بلا كحول، فطلبت بدوري "موخيتو" إنما مع كحول. ابتسم وأبدل طلبه ليكون مثلي، وقال إنه لا يشرب كثيراً. قلت له بابتسامة: "وأنا كذلك".

بدت تلك الجملة العابرة كأنها اعترافان متوازيان: كلٌّ منا يفاوض نفسه بين ما تربّى عليه وما يريد أن يعيشه. كنّا في ذلك المساء نمارس شكلاً بسيطاً من المصالحة بين الشرق والغرب، بين الحذر والرغبة، بين تربية تعلّمنا أن نكبت وبين مدينة تطالبنا أن نعبّر.

حميمية اللغة العربية

في البداية تحدثنا بالفرنسية على تطبيق المواعدة، ثم في الموعد الأول تبادلنا الأحاديث بها لبضع دقائق قبل أن نتحول إلى الإنجليزية لأنها الأسهل بالنسبة إلي.

كانت الفرنسية بيننا لغة حذرة، مهذّبة، باردة قليلاً، بينما الإنجليزية بدت كأرض محايدة بين عالمينا.

الرجل العربي ما زال يختلس القبلة كما يختلس لحظة حريةٍ عابرة، لا بدافع الخجل بل بدافع الخوف من أن تُسلب منه، وكأن الحب عنده يجب أن يحدث في الظل كي يظل ممكناً

لم نتحدث بالعربية إلا بعد شهر من تعارفنا في الموعد الثاني. أنا من بدأت بها، بتردد خفيف، كما لو أني أختبر مدى تقبّله للحميمية التي تحملها هذه اللغة. بدا متفاجئاً، متردداً في البداية، ثم جارى لغتي شيئاً فشيئاً. وعندما فعل، تغيّر كل شيء: صار الحديث أدفأ، وصار الضحك أصدق، وكأن العربية فتحت بيننا نافذة إلى نسختين كانتا تنتظران الاعتراف، حتى شخصياتنا تغيّرت: هو صار أكثر رقة، وأنا أقل حذراً.

أدركت يومها أن اللغة ليست وسيلة تواصل فقط، بل طريقة وجود. كل لغة تستدعي قلباً مختلفاً. في الفرنسية كنّا عقلين يتحاوران، في الإنجليزية كنّا صديقين يتبادلان الأفكار، وفي العربية كنا روحين تعرفان طريقهما إلى الألفة دون شرح.

المواعدة… مواجهة داخلية

في الأيام التالية، حين لم يتواصل معي، بدأ ذهني العربي القديم بالعمل. هل كنت مندفعة أكثر من اللازم؟ هل قرأ عفويتي على أنها خفة؟ هل خاف من المرأة التي تعرف ماذا تريد؟ كانت تلك الأسئلة تدور في رأسي.

اللقاء في عمقه، لم يكن مجرد لقاء بين رجل وامرأة، بل بين ثقافتين تتصارعان داخل كل واحد منا. أدركت أن المواعدة بالنسبة إلى امرأة عربية في أوروبا ليست فعلاً بسيطاً، إنها مواجهة داخلية مع ذاكرة طويلة من الحذر، مع تاريخ يربّي النساء على الخوف من أن يُساء فهمهن، حتى وهن في أمان.

الرجل العربي في أوروبا يعيش ازدواجاً متعباً لا يراه الآخرون. يحمل في داخله شرقاً صارماً لا يغيب عنه أبداً، وواقعاً أوروبياً يطالبه بأن يكون منفتحاً ومرناً ومساوياً في الوقت نفسه. يعيش انقساماً بين ذاكرة جماعية تربّت على الهيمنة الذكورية، وبين واقع جديد يطلب منه أن يكون شفافاً، متساوياً في تعامله مع النساء. لذلك، حين يلتقي امرأة عربية حرة مثلي، يشعر بالارتباك. يعجبه صدقي لكنه يتوجس منه. ينجذب إلى أنوثتي لأنها مألوفة، ثم يبتعد منها لأنها لا تشبه الأنثى التي رآها في طفولته. هذا الصراع لا يُقال لكنه يُحس، مثل ارتباكه أمام القبلة الأولى، مثل تلك النظرة السريعة إلى الخلف قبل أن يقترب.

الحلال والحرام

أفكر كثيراً في العلاقات بين المشرق والغرب داخل أوروبا. لا أحد يخرج منها سليماً تماماً. فالعربي يرى في الأوروبي نموذجاً للحب المريح لكنه يشتاق إلى دفء الشرق والأوروبي يرى في العربي غموضاً وسحراً لكنه لا يعرف كيف يتعامل مع تاريخه المليء بالممنوعات.

المرأة العربية مثلي تجد نفسها في الوسط: تحمل في داخلها أثر التربية التي تربّت عليها، ظلال الممنوعات القديمة التي تواصل تأثيرها حتى حين نحاول التحرر منها. لا أزن الأشياء بمعيار الحلال والحرام، لكني أعرف أن هذا المعيار ما زال يهمس في الأعماق، يشكّل ردود فعلنا الخفية، يربكنا أحياناً ويذكّرنا بأن الحرية ليست قراراً واحداً نأخذه بل عملية مستمرة من التعرّف إلى القيود التي تسكننا.

المواعدة بالنسبة إلى امرأة عربية في أوروبا ليست فعلاً بسيطاً، إنها مواجهة داخلية مع ذاكرة طويلة من الحذر، مع تاريخ يربّي النساء على الخوف من أن يُساء فهمهن

أعيش هذه المفاوضة الصامتة كل يوم، بين ما كان وما أختار أن أكونه الآن. وأنا، ابنة العالمين، أعيش بين جملتين متناقضتين: "اتركي نفسك للقدر" و"تحكّمي في مصيرك".

أحياناً أظن أن الحل في رجل عربي متحرر، وأحياناً أظن أن الخلاص في رجل أوروبي يفهم الحرية بالفطرة، أدرك في النهاية أن التوازن لا يأتي من جنسية الرجل، بل من نضجه، من قدرته على ألا يخاف من امرأة تعكسه بصدق، لا تتبعه كظلّ.

مع الرجل العربي هناك دفء اللغة ونكهة البيت وإحساس الانتماء. هناك ضحكة يعرف سرها دون ترجمة، لكنه يحمل أحياناً خوفاً دفيناً من الحرية التي تمشي على قدمين. ومع الرجل الفرنسي أو الأوروبي هناك وضوح واحترام للمسافة، هناك مساواة فعلية، لكنه قد يظل غريباً عن ذلك العمق الذي نحمله في دمنا، عمق المشاعر التي لا تخففها الكلمات بل تضاعفها. بين الاثنين أقف أنا لا كمن يحتار بل كمن يرى المشهدين بعين واحدة.

"ثقافة عالقة بين عالمين"

الاختلاف في أوروبا بين المشرق والغرب لا يظهر فقط في اللغة أو العادات، بل في شكل العاطفة نفسها. الغربي يتعلم الحب كعقد مفتوح بين طرفين مستقلين، بينما الشرقي يراه قدراً يحمل في طيّاته الملكية والخوف.

في باريس أو نانت أو برلين، يمكن لرجل وامرأة أن يتحدثا لساعات عن الفلسفة والسياسة والسينما، لكن حين تتقاطع العواطف، تظهر الشروخ الصغيرة: هو لا يفهم غيرة الشرق التي تسكنها، وهي لا تفهم برودة الغرب التي تسكنه. في المساحات الرمادية بينهما تولد العلاقات الغريبة: شديدة الجمال وشديدة التعقيد، فيها صدق اللحظة، وخوف التاريخ، وفضول التجربة، ووحدة لا يعترف بها أحد.

ككاتبة، أرى هذه التفاصيل كلها تحت الجلد. حين يختفي الرجل بعد موعد جميل، لا أفسر الأمر كرفض لي، بل كجزء من ثقافة عالقة بين عالمين. هو أيضاً أسير تربيته، مثلي تماماً، لكن الفرق أني أكتب لأحرر نفسي منها، وهو يصمت ليحافظ عليها. وربما لهذا تفشل كثير من العلاقات بيننا، لأننا لا نملك الشجاعة لنقول ما نشعر به فعلاً.

الرجال يخافون أحياناً من النساء اللواتي يعرفن أنفسهنّ. النجاح يربكهم أكثر من الجمال، والوعي يخيفهم أكثر من الرغبة. ليس لأنهم سيئون، بل لأنهم لم يُربّوا على التعامل مع امرأة حرة دون أن يظنوا أن حريتها إدانة لهم. ومع ذلك، أنا لا أريد أن أكون أقلّ لأريح أحداً. أنا فقط أحاول أن أكون حقيقية، وهذا لا يناسب الجميع.

أتعلم مع الوقت أن المواعيد الأولى ليست امتحاناً بل مرآة. أراقب التفاصيل البسيطة: هل يحدد موعداً أم يترك الأمور للصدفة؟ هل يذكر ما قلت له أم كان ينتظر دوره في الحديث؟ هل يعبّر عن نفسه بصدق أم يختبئ خلف النكتة؟ الجدية لا تُعلن، تُرى.

الجنس ليس علامة التزام ولا اختباراً بل لحظة صدق لا تحدث إلا حين يكون القلب مستعداً لتحمل نتائجها. أفعله فقط حين أكون قادرة أن أستمر في اليوم التالي من دون ندم

أكتشف أيضاً أن الجنس ليس علامة التزام ولا اختباراً بل لحظة صدق لا تحدث إلا حين يكون القلب مستعداً لتحمل نتائجها. أفعله فقط حين أكون قادرة أن أستمر في اليوم التالي من دون ندم، لأنني اخترت لا لأنني خضعت.

الحب في المنفى

أجلس أحياناً أمام نهر اللوار وأفكر أن الحب في المنفى يشبه الجسر الممتد بين ضفتين لا تلتقيان تماماً. لا هو هنا ولا هناك، بل يعيش في المنتصف، في تلك المسافة المعلّقة بين الجذر والاحتمال. جسرٌ بُني من حجارةٍ شرقيةٍ تحفظ الدف، ومن ضوءٍ غربيٍّ يفتح الطريق، وأنا أعبره كل يوم بحذرٍ وفضول. لا أبحث عن رجل بعينه بل عن توازن يجعلني أكون نفسي. أريد حباً يسمح لي بأن أكون امرأةً وشاعرةً وإنسانةً في آن، حب لا يطلب مني أن أعتذر عن حريتي، ولا أن أُخفي نفسي كي يطمئن غروره.

ربما لا أملك بعد جواباً نهائياً عن من يناسبني أكثر، العربي الذي يشبه جذوري أم الأوروبي الذي يشبه حاضري، لكني أعرف أنني لم أعد أبحث عمّن يفهمني بل عمّن لا يخافني. كل تجربة، حتى تلك التي تنتهي بالصمت، تضيف طبقة من الفهم لا من الندم.

وحين أتذكر تلك الليلة في السينما، لا أراها خطأً ولا درساً. أراها لحظة كاشفة: القبلة التي اختلسها علّمتني أن الحرية ليست في الفعل بل في الوعي به. علّمتني أنني أعيش بين ثقافتين تحاولان دوماً أن تضعا الحب في قوالب، واحدة تخاف الجسد، وأخرى تخاف العاطفة، بينما أنا لا أريد سوى أن أعيش العلاقة كما هي: حقيقية، مترددة، جميلة، ومفتوحة على الاحتمالات.

في النهاية، لا أحتاج إلى كثير من الإجابات. يكفيني أنني أعرف الآن أن الحب، مثل الفن، لا يُعاش بنصف قلب وأنني مهما تنقلت بين المشرق والغرب، بين اللغة القديمة والمدينة الحديثة، أملك بوصلة صغيرة لا تخطئ: تشير دائماً إلى حيث أكون حرّة، صادقة، ومحبوبة كما أنا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image