أنا السورية المهجّرة… لا يكفيني رفع العقوبات كي أعود 

أنا السورية المهجّرة… لا يكفيني رفع العقوبات كي أعود 

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

قبل أيام، أعلنت الدول الغربية رفع العقوبات عن سوريا. كان هذا خبراً عظيماً احتفل به الكثيرون بين الداخل السوري والشتات. كان انتصاراً منتظراً لحقّ الشعب السوري في حياة كريمة تتوافر فيها سُبل الحياة الطبيعية والبديهية بالنسبة لكثيرين: خرائط غوغل، أوبر، خدمات بنكية بسيطة وبديهية، وإمكانية تحويل الأموال أخيراً دون الحاجة إلى ابتزاز الوسيطين.

أيضاً، سوريات كثيرات فرحن لاحتمال قابلية الطلب من علامات تجارية مثل "شي إن"، فرحةً تُشبه فرحة الأطفال لعودة الحياة إلى هذا البلد المنكوب. أخيراً سنُصبح بلداً يُشبه بقية البلاد، وشعباً يُشبه بقية الشعوب. وكأيّ شعب على هذه البسيطة، نحن نستحق الحياة والفرح.

ترافق رفع العقوبات باحتفالات في أنحاء سوريا كلها: ألعاب نارية، موسيقى، رقص في الشوارع، ومظاهرات في بلدان الشتات.

لكنّ هذه الاحتفالات ترافقت أيضاً مع سُعار إسلاموي، بعد أن رأى متشددون في البلد أنّ هذا الانتصار استكمال لانتصارهم على بقية شركائهم من الطوائف، منذ انتصار هيئة تحرير الشام وزعيمها في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024.

عشتُ في طرطوس لأكثر من 17 عاماً. هي مدينتي الأمّ ومسقط رأسي. وبرغم خلافي الشديد وغضبي وخصامي معها في سنوات الثورة السورية، إلا أنني ومنذ سقوط بشار الأسد أتابعها باهتمام وبأمل في أنها ستمحو ذُلّ الدعم المستميت للنظام السابق، وستنطلق مع باقي مدن البلاد في خطّ سير الأمل الجديد. وطبعاً، كغيري من بقية المنتمين إليها وإلى الساحل السوري، كدتُ أتمزّق رعباً وغضباً حين لم يرحمها السُعار المُنتشي بأدرينالين الانتصار من المجزرة.

كانت المجازر التي ارتُكبت في الساحل، وبعدها في السويداء وباقي الأحياء التي يقطنها الدروز، صوت إنذار عالياً بالنسبة لي، صوتاً يُخبرني بأنّ البلد الذي أحببتُ وانتظرت، أصبح خراباً، وأنّ آمالي في العودة إليه سقطت كلها في سيول الدم المُراق في البيوت والشوارع والأحراش وجُرود الجبال.

أصوات لا تفارقني

لطالما اعتقدتُ بسذاجة أنّ العقوبات المفروضة على سوريا هي ورقة ضغط لكبح جماح السُعار الإسلاموي الذي يكاد يفتك بنا جميعاً، وأنها لا بدّ ستمكّن الرئيس الانتقالي من السيطرة على فصائله المتشددة، إن كان حقاً لا يستطيع السيطرة عليها، وإن لم يكن أصلاً متواطئاً معها. لكن صوت الدم أعلى من صوت الأمل.

رافقتني صور المجازر وأصوات من ذُبحوا على أيدي شركائهم في الوطن، تماماً كما رافقتني أصوات من سبقوهم من ضحايا مجازر بشار الأسد وزبانيته، وعاد إليّ الشعور العارم بأنّ سوريا لم تعد بلداً، وأننا لسنا عائدين.

رُفعت العقوبات عن سوريا، واحتفل الشعب، متناسياً الدم للحظة أمام فرحة العودة إلى الحياة، ومتجاهلاً القلق من إصرار السلطة الجديدة على حرمانية كلمة ديموقراطية، ومن تناقص الحريات الاجتماعية أمام دعواتٍ للحجاب والنقاب، وعدم ارتداء ملابس البحر، ومنشورات "إنّ الدين عند الله الإسلام" على جدران الكنائس، والخطف والقتل على الهوية

في داخلي، لم تتوقف المجازر منذ الأيام الأولى للثورة وحتى الأشهر الأولى من الدولة الجديدة. سيول الدم السُّني والعلوي والدرزي تبتلعني في نومي ويقظتي. أصوات الأطفال والنساء والرجال المذبوحين على عتبات بيوتهم لا تزال تُوقظني من نومي كل يوم. كان أملي أنّ بقايا المجزرة القديمة ستمنع تكرار ما حصل، وأن هذا الشعب قد شبع من الموت، كما شبع الموت منه.

في ظل هذا كله، كانت لديّ بقية شعور من أملٍ أخير في أنّ العقوبات الغربية ستقف لا محالة في وجه هذا كله: لا رفع للعقوبات إلا بالسيطرة على التشدّد والعنف. لا رفع للعقوبات إلا بضمانة ألا تتكرّر المجزرة.

أدرك الآن كم كنتُ ساذجةً حين انتظرتُ الدعم من مهرّج برتقالي يريد أن يشتري الكوكب، ومن سياسيين فاقدين للسيطرة على بلادهم وشعوبهم التي تكاد تغرق في مستنقعات عفنة من العنصرية والاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية.

رُفعت العقوبات عن سوريا، واحتفل الشعب، الشعب كله، متناسياً الدم للحظة أمام فرحة العودة إلى الحياة، ومتجاهلاً القلق من إصرار السلطة الجديدة على حرمانية كلمة ديموقراطية، ومن تناقص الحريات الاجتماعية أمام دعواتٍ للحجاب والنقاب، وعدم ارتداء ملابس البحر، ودعوات ومنشورات "إنّ الدين عند الله الإسلام" على جدران الكنائس، والخطف والقتل على الهوية. فرح رفع العقوبات كان أكبر من ذلك كله. أكبر من مراقبة بلاد تبني مستقبلها على أجساد نسائها وحريات طوائفها.

ميرا وأحمد

تراند رفع العقوبات كان أهم من تراند ابن محافظ اللاذقية المرعوب من ملابس البحر على شواطئ اللاذقية، وأهم من التفكير في استحالة الدعوة إلى دعم الحب والعشاق في حال كانت "ميرا" سنّيةً و"أحمد" علوياً أو مسيحياً. وبالتأكيد كان أهم من ملاحظة أن إجراءات العدالة الانتقالية المتشكلة حديثاً غفلت عن ذكر ضحايا ومُغيّبي داعش والفصائل الإسلامية الأخرى.

رُفعت العقوبات عن سوريا، واحتفلنا، بينما لا يزال المستقبل ضبابياً. ماذا الآن؟

أفكر في بيتي الذي لم أزُره منذ 14 عاماً، والذي أراه يومياً في منامي وأصحو مرعوبةً من أنني قد حُبستُ في سوريا ولم أعد أستطيع الخروج منها، ثم أرتاح حين أدرك أن ذلك كان مجرّد حلم. أنا السورية المُهجّرة منذ 14 عاماً، لا يكفيني رفع العقوبات كي أعود

ماذا عن بلاد حلمنا بخلاصها من الاستبداد بأشكاله كلها؟ ماذا عن حرياتنا؟ ماذا عن مستقبلنا السياسي؟ ماذا عن الديمقراطية وممارسة حقّنا في انتخاب رئيسٍ وبرلمانٍ يُمثّلاننا بأطيافنا كلها؟ ماذا عن حرية عيشنا بملابسنا التي نختارها ومعتقداتنا التي تُريحنا؟ ماذا عن أطفالنا الذين كبروا في الحرب؟ ماذا عن مستقبلهم؟

أفكر: ماذا عنّي؟ هل سأتمكن من تربية طفلي في سوريا؟ هل سأتمكن من التخلّي عن منفايَ الاختياري بامتيازاته كلها التي لا أريدها، والعودة مجدداً إلى بلدٍ أختار فيه بحريةٍ ملابسي ومدارس أطفالي وديانة زوجي؟ هل تستحق سوريا أن أتنازل عن بلادٍ أخرى لا أحبها ولا أرغب في العيش فيها، لكنني اخترتها لمجرّد أنني استطعتُ أن أكون فيها كما أنا وكما أريد؟

أفكر في بيتي الذي لم أزُره منذ 14 عاماً، والذي أراه يومياً في منامي وأصحو مرعوبةً من أنني قد حُبستُ في سوريا ولم أعد أستطيع الخروج منها، ثم أرتاح حين أدرك أن ذلك كان مجرّد حلم.

أنا السورية المُهجّرة منذ 14 عاماً، لا يكفيني رفع العقوبات كي أعود. وبرغم إدراكي أنّني أُقيّم الوضع برفاهية من غربتي، إلا أنني أعتقد أنّني أتكلم باسم الكثيرين مثلي، من الخائفين من المستقبل، الخائفين على حرياتهم وخياراتهم.

رُفعت العقوبات عن سوريا، وفرحنا جميعاً، والآن ننتظر معجزةً تستكمل أفراحنا وتقودنا إلى بلدٍ نحبّه ويُحبّنا، دون تنازلات صعبة واختيارات معقّدة.

فهل تتحقّق هذه المعجزة؟



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image