الطعام الشهي في كفّ وفي الأخرى أساطير… حدث في قبرص

الطعام الشهي في كفّ وفي الأخرى أساطير… حدث في قبرص

رود تريب نحن والتنوّع

الأربعاء 19 نوفمبر 20256 دقائق للقراءة

الجزرُ شَموخُ الطبيعة وعُزلتها المختارة؛ هكذا خُيّل إليّ. وقبرص، المستلقيةُ وحدها في قلب المتوسّط الأزرق، امتصّت عبر القرون طبقاتٍ من الإرث الثقافي، من اليونان القديمة إلى الشرق الأوسط، وصولاً إلى الظلال البريطانية الحديثة.

ذلك التنوع المدهش، الذي لمسته في بافوس ولارناكا، جعل من هذه الجزيرة الصغيرة فضاءً لالتقاء الحضارات، حيث تتشابك التقاليد وتتمازج الثقافات في تناغم رفيع.

وأنت تذرع شوارعها المرصوفة بالحجر في بافوس (Paphos)، تتعالى في أذنيك موسيقى من جميع لغات العالم، فتسمع الإيقاعات اليونانية التقليدية تختلط مع الأنغام التركية واللبنانية الشرقية، بينما تتداخل اللهجات المحلية مع اللكنة البريطانية في حوارات الشارع. هذا التنوع الصوتي يعكس ثراء الهوية القبرصية المتشعبة والجميلة.

أتحسس لوائح الطعام في المدن القبرصية فأجد نفسي أسافر عبر أكثر من قارة دون أن أغادر مكاني. المطاعم هنا تحكي قصة التاريخ القبرصي من خلال أطباقها، حيث تتنوع النكهات بين المتوسطية والشرق أوسطية والأوروبية.

أساطير الآلهة وحمامات الشباب الأبدي

في قبرص، تحكي الأساطير القديمة أن من يستحم في مياه حمامات أفروديت المقدسة يظل شاباً للأبد. هذه الأسطورة الخالدة لا تزال تجذب آلاف الزوار سنوياً إلى هذا المكان السحري.

المياه القرمزية اللون في ضواحي مدينة بافوس الساحرة تجذب السياح كالمغناطيس، حيث يقصدها المسافرون من جميع أنحاء العالم بحثاً عن الاستجمام قرب قطرة من سرّ الخلود الأسطوري.

قبرص جزيرة صغيرة بمساحتها، لكنها واسعة بتاريخها، فكل موجة تضرب شواطئها تحمل صدى حضارةٍ مرّت من هنا

في مدينة لارناكا الساحلية، تبرز اللكنات البريطانية بوضوح في أحاديث السياح، مما يعكس الزخم السياحي الكبير للبلد والإرث الاستعماري البريطاني الذي ترك بصماته الواضحة على الثقافة المحلية. وبإطلالة سريعة على لوائح الطعام في مطاعم المدينة، نجد انعكاساً واضحاً لغنى المطبخ المحلي المتنوع بين أجبان الحلوم الشهيرة واللحوم المشوية بالطرق التقليدية، والميزي (Meze) الشعبي، والموساكا (Moussaka) اللذيذة، مما يعكس الثراء الثقافي العميق لهذه الجزيرة الساحرة.

تأثرتْ قبرص بشكل واضح وجلي بفترة الاحتلال البريطاني الطويلة، ويظهر هذا التأثير في تفاصيل الحياة اليومية، بداية من موقع السائق على الجانب الأيمن من السيارة، مروراً بأسلوب العمارة والتخطيط الحضري، وصولاً إلى نظام التعليم والإدارة الحكومية.

قبرص... قلاع الملوك وحكايات التاريخ

قلعة بافوس التاريخية تقف مشرئبة بكبرياء، تطل على كل ربوع المدينة الخلابة بقممها الشامخة وجدرانها العتيقة. اكتشفتُ أن هذه القلعة العريقة بناها البيزنطيون في العصور الوسطى، ثم جاء العثمانيون فرمموها وأضافوا إليها لمسات معمارية إسلامية مميزة. عبر التاريخ، استُخدمت هذه القلعة لأغراض متعددة: كانت مستودعاً ضخماً للملح الثمين، وسجناً للمجرمين والأسرى السياسيين، وحصناً دفاعياً لمراقبة تحركات الغزاة والأعداء المحتملين.

غير بعيد عن القلعة، في أجواء الميناء الساحرة حيث تتلاطم أمواج البحر المتوسط، وجدت متعة كبيرة في تذوق اللحم المشوي، بينما كانت النسمات البحرية تداعب وجهي. كليفيتكو (Kléfitko) هي وجبة شعبية تقليدية تعكس أصالة المطبخ القبرصي وتراثه العريق.

في منطقة "قبور الملوك"، وقف الزائرون أمامي في أحد أهم المواقع الأثرية في قبرص، حيث تحكي الحجارة القديمة قصص الحضارات التي تعاقبت على هذه الأرض. هذا الموقع الأركيولوجي الفريد يضم مقابر منحوتة في الصخر تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وقد استُخدمت لدفن النبلاء والأثرياء في العصر الهلنستي والروماني.

قبرص... مهد ميلاد أفروديت الأسطورية

الأساطير والحكايات القديمة لا تستأثر باهتمام الباحثين والمؤرخين فقط، بل تأسر قلوب السياح المعاصرين وتثير خيالهم. البحث الإنساني الأبدي عن معنى الوجود ومغزى الحياة لم ينقطع منذ فجر التاريخ، وقبرص جاهزة دائماً لتروي هذا العطش الروحي والفكري من خلال احتضانها لمكان ولادة أفروديت الأسطورية، آلهة الحب والجمال في الأساطير اليونانية القديمة.

تحكي الحكايات الأسطورية عن علاقة زوس ملك الآلهة بأدونيس الشاب الجميل، وكيف أن هذه الأرض المقدسة شهدت أحداثاً عظيمة في عالم الآلهة. في نواحي هذه المنطقة الأسطورية أيضاً، تنتشر كروم العنب التي تنتج أقدم أنواع الخمور في العالم، حيث تعود تقاليد صناعة النبيذ هنا إلى آلاف السنين.

في بافوس ولارناكا لا يمرّ المسافر عابراً، بل يتحوّل إلى شاهدٍ على حكاية تختلط فيها الأساطير بالواقع

الأسطورة مرتبطة بقوة بالمكان الجغرافي، فصخرة أفروديت (بيترا تو روميو) على الساحل الجنوبي الغربي لقبرص هي النقطة التي يُعتقد أن آلهة الحب خرجت منها من رغوة البحر. هذا المكان الأسطوري منحَ قبرص شهرةً سياحية عالمية، حيث يقصده العشاق والعرسان الجدد من جميع أنحاء العالم.

قبرص... مملكة الطعام الشهي والنكهات الأصيلة

فريدو (Freddo)، هذا المشروب القبرصي الفريد، لا يشبه أي قهوة أخرى في العالم. إنه عزاء حرارة الصيف اللاهبة، حيث تمتزج برودة القهوة المثلجة مع نعومة الكريمة والثلج المجروش، لتخلق مشروباً منعشاً يناسب الأجواء المتوسطية الحارة.

الموساكا (Moussaka) القبرصية هي قصيدة طعام حقيقية، وجبة طبقية، حيث تتماسك طبقات لذيذة من اللحم المفروم المتبل والباذنجان المشوي والبطاطس الذهبية والجبن الكريمي، لتخلق تجربة طهي متعددة الأبعاد تُسعد جميع الحواس.

أما الحلومي أو الحلوم الشهير هو الجبن الذي تشتهر به قبرص حتى في الدول المجاورة والبعيدة. هذا الجبن الأبيض له ملمس مطاطي مميز ونكهة مالحة خفيفة، ويمكن شواؤه أو قليه دون أن يذوب، مما يجعله مكوناً مثالياً للسلطات والأطباق الساخنة.

أما اللحوم فلها مكان بارز في لائحة الطعام؛ كليفيتكو (Klefitko) هو طبق لحم الغنم المحضر على الطريقة المحلية القديمة، حيث يُشوى اللحم على نار هادئة مع الأعشاب والتوابل المحلية، ليصبح طرياً وعطراً بشكل لا يقاوم.

أما الشفتاليا (Sheftalia)، فهي النقانق القبرصية التقليدية المصنوعة من لحم العجل المفروم مع البقدونس والبصل، ملفوفة بغشاء رقيق ومشوية على الفحم، لتقدم تجربة طعام أصيلة تعكس تراث الجزيرة الطهي العريق.

هذا كله جزء من الحكاية فقط!

قبرص جزيرة استثنائية تجمع بين عبق التاريخ وسحر الأساطير وثراء الثقافات المتنوعة؛ من حمامات أفروديت الأسطورية إلى قلعة بافوس التاريخية، ومن كروم العنب العريقة إلى أطباق الحلومي والموساكا الشهية، تقدم هذه الجزيرة الساحرة تجربة سياحية متكاملة تمزج بين الروحانية والتاريخ والطبيعة والطعام. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

من 12 سنة لهلّق، ما سايرنا ولا سلطة، ولا سوق، ولا تراند.

نحنا منحازين… للناس، للحقيقة، وللتغيير.

وبظلّ كل الحاصل من حولنا، ما فينا نكمّل بلا شراكة واعية.


Website by WhiteBeard
Popup Image