من مدة ليست بالقليلة يفتقر المجتمع الليبي لمفاهيم مدنية عديدة، لعل من أبرزها "التسامح"، ويظهر ذلك على نحو خطير لدى الأجيال الأصغر سنا، فمثلاً صرنا نعيش مؤخراً على وقع حروب مفتعلة، قد تطول أو تقصر وجميعها تتقاطع في محور النمطية والنظرة الصلبة للآخر.
غير أن مصطلح "التسامح" يخضع في جوهره إلى مقاييس غير متجذرة لدى أغلب مواطني هذا البلد، أو ربما لم نختبر ذلك جلياً قبل سنوات الحرب الأهلية، ولكن "هنا ألفظها بشكل ممدود لأنها ذات شجون" ولسبب ما يصعب عليّ شرحه بدقة.
كنا أكثر هدوءً أو تقبلاً لما هو مختلف، ولأن الله حسب معرفتي قد استأثر بالسرائر، قلّل ذلك بالضرورة من عدد المحاكمات بناءً على الشكل في الماضي.
بفضل بلاغة اللهجة الحية للشعب المصري أقتبس هنا الجملة التالية "الطبقات ساحت على بعضيها" هذا يحيلنا إلى حقيقة تحوّل كل إنسان إلى كائن يملك حصرياً الحق ويفتي باسم الرّب، دون أن يَعي المتحدث الاختلافات في الخَلق والخُلق.
يستطيع شاب يمتلك سيارة -ونظراً لكون البنزين شبه مجاني- في مساء رائق من مساءات طرابلس القيام بجولة عبثية وتقييم كل من يحاول التنفس على كورنيش حي الأندلس، "منطقة تعد راقية في العاصمة طرابلس".
نفس الشاب قد يعطي لنفسه حق التقاط صور لما هو غير "أخلاقي" والنشر، فالجميع بات يحارب الرذيلة، يدفعني ذلك إلى التعريج على فاجعة اعتزام هيئة الأوقاف إنشاء تنظيم يسمى "حراس الفضيلة" والتي هدفها الحصري الحفاظ على ما تبقى من قيم، اختفى المشروع من على أجندة الهيئة أو هكذا يبدو إذ أبدع الليبيين يوماً في وصفهم استراحة المحارب بـ "توخيرة الكبش".
هل يتذكر أحد أين اختفت الشمس؟
كتاب "شمس على نوافذ مغلقة" وهو مختارات أدبية لعدد من الكتاب والكاتبات الليبيين الشباب، قد يكون المثال الأفضل على آلية "سناب باك" التي أتقن المجتمع الليبي تنفيذها على كل ما هو مخالف لجملة المعايير غير المكتوبة، وبالتالي الحمّالة لعدد غير محدد من الأوجه.
للضجة التي رافقت الكتاب أبعاد مهمشة، بعضها قد يشرح على الأقل من وجهة نظر متشائمة التوجّه الشعبي العدائي نحو كل ما يعتقد أنه يروج لمعانِ تشوه الكينونة المحافظة للمجتمع.
"شمس على نوافذ مغلقة" هو عنوان كتاب لمختارات أدبية لعدد من الكتاب والكاتبات الليبيين الشباب... وقد رافقته ضجة كبيرة قد توضّح -من وجهة نظر متشائمة- ما هو التوجّه الشعبي العدائي نحو كل ما يعتقد أنه يروج لمعانِ تشوه الكينونة المحافظة للمجتمع
فالبعض من مجموعة الكتّاب الشباب كان قد خاض تجربته الأولى في الكتابة وربما والأخيرة، راحوا ضحية تكالب جماعي على تلك الشمس، بمنطق فوضوي يوحي باستماتة تلك الأصوات لاستمرار الغرق في الوعي الجمعي للعتمة. هنا يجب طرح الأسئلة الصحيحة كي نضمن حصولنا على الأجوبة الدقيقة والمنقذة، لماذا تحرك شعب بأكمله ضد كتاب؟ لماذا انهالت بعض الشتائم على الكاتبات المساهمات رغم كون الجزء المغضوب عليه من الكتاب كان بخط كاتب؟
"عائشة راجل أصبحت شامخة"... كل ما سلف يحلينا إلى تذكر أحد أكثر الألفاظ بشاعة، كنت سابقاً أعد لفظ "عائشة راجل" الذي اضطهد به المجتمع إلى نهاية التسعينات النساء اللائي خضنا غمار الحياة بروح لا تتسق مع المعايير السائدة آنذاك، هذه الوصمة لاحقت العديد من النساء وكانت تكبل أخريات من بنات ذلك الجيل، امتداداً لتلك الوصمة ولدت في السنوات الأخيرة مفردة "شامخات" والتبس علينا كتالوج استخدامها فالأولى كانت محددة بدقة أما الأخيرة يصعب تعريفها حيث تبناها الجميع بلا استثناء.
وهنا أعني ما أقول حتى أن السيدات اللاتي تقلدنّ مناصب في الدولة قد ينطبق عليهنّ المصطلح وهذا يعد سابقة، تشترك الكلمة ومفردها "شامخة" مع القديمة في ذات العقلية التي تحارب بقداسة تفضي إلى الجنة كي تنسف التنوع الخجول، فالنساء يفرض عليهنّ التشابه بل يعد دليلاً على العفة والحياء، والتصوّر الواقعي يسحب هذا اللفظ على النساء اللاتي يقدن السيارات أو من تسمح لخصل شعرها بالظهور أو لا من ترتدي حجاباً أو من تضع المكياج، فالمفردة على ما يبدو جاءت على مقاس الجميع حتى الدولة.
الشامخات!
"درت حادث وخشت فيا شامخة"، مشهد متخيل يشعر معظم الليبيين أنهم قد عايشوه، ويكتمل المشهد بكون هذه "الشامخة" تملك نفوذاً مفترضاً يحصنها ضد الملاحقات القانونية، يمكن مجراة السياق الشعبي واعتماد المفردة رسمياً لكن من هنّ الشامخات بحق السماء!. وعلى ضوء "الهرجة" التي رافقت الكتاب،، اختفى كأنه لم يُوجد.
في بلد يختصر الذاكرة في فيلم ولا يعي ماهية التوثيق. يطالب الجميع بعودة قوانين الجنسية إلى عهود سابقة لطرد "من يعملون حالياً على تشويه الشكل المحافظ للشعب".
يمكن فهم هذا الكم الهائل من الاستقطاب ومعاداة الاختلاف، إذ تعد إثارة الجدل اجتماعياً حول قضية ما ظاهرة صحية تفرز رأياً جماعياً يدعم أو يصحح الخروج عن المألوف، فليبيا تكثف الجهود كي ترسخ سياسة اللون الواحد.
مثلاً، لا يمكن الحديث علانية عن سفر النساء لوحدهنّ إلا بخلق جملة من التبريرات، حتى قيادة السيارة والعمل باتت تحتاج إلى مبرر كعدم وجود من يعول هذه المرأة، بمعنى أدق كل ما يتعلق بالنساء يحتم التبرير وتحكيم فقه الضرورة.
لكن ماذا عن نظرة الجيل الحالي للاختلاف؟ في الماضي كانت الأمهات في الأحياء الشعبية في سن معينة يدخنّ "النفة" من باب التسلية وتأكيد الاستقلال بعد تجاوز متاعب الحياة، لكن كنّ ملتزمات ولم يكن ذلك دليلاً على أي نوع من الانحراف، أو لم نطلق عليه أي مسمى من الأساس، فأفق الحرية الاجتماعية كان واسعاً رغم حالة البساطة.
ربما جاء ذلك من عدم توصيف التصرفات ووضعها في إطار شخصي عفوي وتنتهي القصة عند هذا الحد، لكن كيف يمكن ربط ذلك بمستوى التسامح؟ في حال حصلت على لحظة تجلي صادقة مع شاب عاد فوراً من مسجد بعد الانتهاء من أداء شعائر صلاة الجمعة وأحاط بانتباه تلك الروحانية بلمسة وطنية بارتداء "الزبون" الزي التقليدي الليبي الذي يرتديه الرجال، ستحصل على الجواب الصادم التالي: "أنا أصلي يوم الجمعة فقط".
فهو يحرص على توثيق هذه الشعيرة بصورة يصدرها للجمهور مرفقة بدعاء، وقد يشارك نفس الشاب منشوراً يحرض على رعايا أفارقة يخرجون من مسجد ويؤدون نفس الصلاة متوجهين لذات القبلة، محذرًا من غزو أسود محتمل وكأن بيوت الله تعترف بالأوراق الثبوتية بدلاً من نقاء القلب.
لعنة الاستقطاب
للحصول على مقاربة واقعية يجب مقارنة زمنين، سابقاً كنا نجلس بجانب طلبة أجانب في ذات المقعد حتى أن التلاميذ من الديانة المسيحية يتركون الفصل عندما يحين وقت حصة التربية الإسلامية، لا نعلم مدى الاختلافات لكن هذا لا يهم فالمدرسة تجمع الجميع والمعرفة المقننة كانت مجدية قبل الاختراقات التي حققتها الكتب الصفراء والكراهية التي أنجزتها بجدارة سنوات الحرب الأهلية.
كانت تتوحد أجيال كاملة على تكرّيس سيادة العرق الليبي، وهذه فيها قولان فالعرق نفسه مقسم وله درجات عليا وسفلى "ذات مرة قسّم أحدهم البلاد إلى مدن منتصرة وأخرى مهزومة".
اليوم، يُشيح أغلب الليبيين أبصارهم عن الأزمات الحقيقة التي تقوض سبل عيشهم، يمكن ملاحظة تغلغل اضطراب حاد يعيق تحديد الأولويات وما يجب التركيز عليه، لصالح مزيد من الاستقطاب، بينما الأفكار المشوهة تتأرجح بين سلوك عدواني فردي وبين أعراف شاذة في طريقها إلى التشكّل
يمكن الذهاب أبعد من ذلك عندما يتعلق الأمر بتتبع منبع الاستقطاب الموّلد للأزمات المتعلقة بالكراهية، فعند حدوث أي أزمة تتطلب التحرك يقدم أحدهم قرباناً يحضر منه العشاء الأخير الذي يقدم مصحوبا ًبفتاوى مسكرة لينسى الشعب أعداؤه الحقيقين.
في بلد يختصر الذاكرة في فيلم ولا يعي ماهية التوثيق. يطالب الجميع بعودة قوانين الجنسية إلى عهود سابقة لطرد "من يعملون حالياً على تشويه الشكل المحافظ للشعب".
ومنذ مدة ليست بالبعيدة كان ينعت من هربوا من ويلات سنوات الاستعمار الإيطالي "بالعائدين"، وبالفعل تكتب بشكل غير مباشر في الوثائق الرسمية، وبهذا يتأكد بأن حلم الجنسية لأبناء الليبيات ما هو إلا أضغاث أحلام كالقول بفرضية قراءة اسم ليبيا من الجهتين.
وعطفاً على الذاكرة وشجون الحديث عن أبناء العائدون فالعقلية الليبية الأبوية تعاقب المخالفين ومن يتمردون على الأعراف بسحب جنسيتهم الليبية رمزياً ومنحهم جنسيات دول أخرى.
واليوم، يُشيح أغلب الليبيين أبصارهم عن الأزمات الحقيقة التي تقوض سبل عيشهم، يمكن ملاحظة تغلغل اضطراب حاد يعيق تحديد الأولويات وما يجب التركيز عليه، لصالح مزيد من الاستقطاب، بينما الأفكار المشوهة تتأرجح بين سلوك عدواني فردي وبين أعراف شاذة في طريقها إلى التشكّل، ليكون مصير من يتخلف عنها النبذ المعنوي، ولا ننسى أننا نتحدث عن بلد يملك الكثير من السلاح السائب بالتالي من السهل توقع القادم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



