كيف قطعت رأس أبي من الأمر إلى النهي؟

كيف قطعت رأس أبي من الأمر إلى النهي؟

مدونة نحن والنساء نحن والحرية

الجمعة 31 أكتوبر 202513 دقيقة للقراءة

أتذكّر ذلك الحلم الذي راودني في التاسعة من عمري. يعود إلى ذاكرتي مرات عدة، دون سابق إنذار، ودون سبب واضح. رأيت نفسي على عتبة باب مدرستي الابتدائية، وهو مفتوح على مصراعيه، بينما أتطلّع إلى الساحة أمامي وهي مكتظة بالتلاميذ الذين يتسابقون ويتجمّعون ويثرثرون، ولا يلتفتون إليّ، ولا ينصتون إلي، بينما تتسارع حركتهم حتى لم أعد أرى ملامحهم وتختلط ظلالهم، وأنا كما أنا أقف وحيدةً على أعتاب مدرستي، بلا حركة، ولا ظل، ولا صوت. يمرون أمامي وكأنهم داخل التلفزيون، وأنا المتفرج المنتبه. حاولت الاندماج معهم، لكن حركتي كانت ثقيلةً جداً، وكأنني أحمل في قدميّ أطناناً من الحجارة…

الغريب أنّ المشهد الأخير في هذا الحلم تكرّر معي لسنوات طويلة.

كنت أعلم أنّ لهذا الحلم تفسيراً، فأحلامي عادةً ما أجد لها ترجمةً واقعية. لكن حلمي هذا، استغرق مني 31 عاماً حتى أجد له تفسيراً.

طريق الاغتراب الذاتي

لقد حكم عليّ والدي في تلك السن المبكّرة بالغربة والاغتراب عن نفسي وعن محيطي. أفقدني القدرة على التواصل مع أترابي، وبنى جداراً بيني وبين العالم من حولي، فانعزلت داخلياً. أخاف الرفض الذي أتوقعه من مجتمع أرى نفسي مختلفةً عنه اختلافاً بائناً.

هناك، اختفت الطفلة المنطلقة، تحت ركام من الخوف والتردّد وإحساس قوي بالنقص تجاه الآخر. فتربّعت على السطح تلك الشخصية التي ترغب دوماً في تقديم ضِعف ما يُطلب منها، لعلّها تضمن قبول الآخر. ومع كل عطاء مضاعف يُبنى جدار جديد من الضعف والتبرير، والتردّد. من تلك اللحظة المتسرّبة من ثقب في زمن ما، انطلقت أزمتي مع محيطي لسنوات طويلة.

في سن التاسعة، حاصرني أبي بالأوامر والنواهي، ودفنني في جسدي الذي لم يكن قد دخل عالم الأنوثة بعد. لقد ارتديت الجلباب قبل حمّالة الصدر، ووضعت الحجاب على شعري الخشن حتى قبل أن أتعلم استعمال الفوطة الصحية

كنت أمشي بجانب والدي وسط "سوق الظلام"، في مدينة بنغازي الليبية، حيث تصطف بنايات صفراء على حافتَي الشارع، تخطّ حكايات "ثورة الفاتح" التي أطاحت بليبيا إلى غياهب الاستبداد، وتتراكم على جانبيه بسطات البضائع من كل نوع وصوب، وكراتين يتوسّدها عمّال مصريون يتبادلون الحديث بعاميتهم المحبّبة. كان الشارع مسكنهم، ومقرّ عملهم.

كان الطريق طويلاً، وقاتماً قتامة الأيام في تلك المرحلة من تاريخ ليبيا. أمشيه، فتبتلعني الفوضى من واقع الشارع المزدحم إلى واقع البلد العبثي، الذي يرزح تحت وطأة الحصار الغربي، وعصا اللجان الثورية القذافية البغيضة.

أتذكّر جيداً ذلك اليوم القائظ، من شهر آب/ أغسطس من عام 1989. كان هناك شعور بخوف غريب يعتريني من مصير مجهول، لا أرغب في المسير إليه. كان أبي يسير بجواري، يتحدّث معي عن فضل الحجاب وحكمه في الإسلام، وأنه يريد ضمان دخول الجنة من خلال تربيته الصالحة لبناته، حتى وصلنا إلى دكان ضيق وخانق ومظلم، تتراكم فيه بقايا الأقمشة، حتى لا تجد موضعاً لخطوة ضيقة صغيرة داخله.

اكتشفت حينها أن أبي كان قد سبق واختار قماشاً أسود لخياطة "جلباب" لي، يكون منذ ذلك الحين عنوان دخولي إلى "عالم الفضيلة"، ويرسم لنفسه من خلالي صورة "الأب الصالح".

أخذ ذلك العجوز صاحب الوجه الوسيم والباسم قياساتي. برغم محاولاته فتح حديث معي، وملاطفاته الطريفة، لكن ابتساماته لم تجد طريقاً إلى روحي الضائعة التي لم أعثر عليها منذ تلك اللحظة، ولسنوات طويلة.

لم يسألني أبي عن رأيي في الحجاب. كنت أتمنى أن يسأل تلك الفتاة التي تبلغ من العمر تسع سنوات وتعشق ألوان الورد، عن رأيها في لون الثوب الذي قرّر فرضه عليها.

لطالما كان أبي قريباً مني، ساهم في تكوين شخصيتي تكويناً أقرب إلى الذكور في سنّ مبكرة، درّبني على أن أكون مستقلةً، ومكتفيةً بذاتي، وأعبّر عن نفسي بصوتٍ عالٍ. كان مدرستي الأولى في علاقتي بالدين، وكان الحكواتي الخاص بي، يسرد لي قصص الأنبياء، والفاتحين العظماء، وكان مكتبتي الأولى التي عرفت من خلالها فرسان الأدب، وأقلام الصحافة وجهابذة السياسة.

الحجاب لواء المعركة

لم يمنعني أبي أبداً من معرفة كل ما كنت متعطّشةً إلى معرفته في تلك المرحلة، ولم يبخل عليّ أبداً بأيّ إجابة مهما كانت صعبةً أو محرجةً في عمري ذاك، ملبّياً نداء الفضول المتطرّف الذي تفتّح على يديه، بلا حدود، أو حواجز.

لكنه أنكر على طفلة في التاسعة من عمرها، اختيار لون سعيد يناسب روحها المقبلة على الحياة، فعُدت عقب تلك العطلة الكئيبة، من ليبيا إلى تونس، حزينةً منكسرةً، وخائفةً، أرتدي السواد.

منذ ذلك الحين، صار الحجاب لواء المعركة الذي يسقط كلما قرّرت المواجهة، وأراقصه كلما قررت الاستسلام.

بدأت معاركي في تلك السنّ. المعركة الرئيسية كانت مع والدي، الذي خرق الدستور الذي كتبه هو نفسه، حين قرّر أن يحاصرني بالأوامر والنواهي، ودفنني في جسدي الذي لم يكن قد دخل عالم الأنوثة بعد. لقد ارتديت الجلباب قبل حمّالة الصدر، ووضعت الحجاب على شعري الخشن الذي لم يكن يوماً جذاباً حتى قبل أن أتعلم استعمال الفوطة الصحية. جسدي الضئيل وجب "ستره" وحمايته من المغريات، ونظرات الغرباء.

كرهت جسدي، وكرهت أنوثتي، وتراكمت في داخلي أحجار بيني وبين ذلك الرجل الذي كان يوماً صديقاً مقرّباً، وكتاباً أنهل منه، ومدرسةً أتعلم منها، ومثلاً أعلى يُحتذى.

صارت مساءاتنا الهادئة المليئة بالحكايات، مشحونةً بالنقاشات، وتعلّمت خلالها التمرّد، والتفكير بعيداً عن "برنوس" أبي الأبيض الذي كان يدثّرني به، قبل أن يصبح ستاراً قاتماً بيني وبين الحياة.

لم أثُر على الله. لم أثُر على تعاليم الإسلام. لقد ثرت على شياطيني، وعلى تناقضات أبي التي مارسها عليّ حتى ألغى وجودي وفتح في داخلي -ربما من حيث لا يدري- ثغرةً للآخرين يقتحمون من خلالها أسواري ويستولون عليّ.

كنت في قلب معركة، لم أكتشف سوى اليوم فقط وأنا أكتب هذه السطور، الهدف منها. كنت أخوض معاركي بشراسة وعن جهل بنفسي.

غادرت تونس بسروالٍ واسع رمادي مرصّع بالورود، وتي-شيرت زرقاء، وعدت إليها بجلباب أسود أتخفّى به من نظرات الفضوليين، وأحلم بذلك الفستان الأصفر بلون البردية، المنقوش برسومات وكتابات فرعونية حول ياقته؛ كم حلمت بارتدائه خلال العودة المدرسية لأتباهى به أمام صديقاتي.

لم أحب يوماً حجابي، ولم أرَ نفسي يوماً جميلةً فيه. لم أتمكن يوماً من العثور على أنوثتي فيه، ولم أتصالح خلال كل تلك السنوات مع مرآتي

كانت تونس، في تلك الحقبة، تعيش مرحلةً من الانتعاش، الأمر الذي خلق شريحةً واسعةً من الطبقة المتوسطة التي تمكّن النظام السابق من تغريبها عن هويتها بعد موجة الإسلاموفوبيا التي ضربت المجتمع التونسي إثر سردية الإرهاب الصادمة، بعد العمليات الإرهابية التي استهدفت عدداً من الفنادق السياحية في مناطق عدة من البلاد التونسية، بالإضافة إلى عملية "باب سويقة" الشهيرة في أحد الأحياء العتيقة في العاصمة. سردية لا تزال إلى اليوم أرضيةً خصبةً لتبادل الاتهامات بين حركة النهضة الإسلامية التي اتُّهمت وقتها بالوقوف خلف هذه العمليات، وبين الأطراف التي كانت في الحكم آنذاك، والتي يتهمها الإسلاميون بفبركة تلك العمليات لتصفيتهم سياسياً.

في المقابل، كان أبي يعيش معنا في انعزالٍ تام عن محيطنا الخارجي، وفي تناقض بائن مع ما يشهده بلدنا من انفتاح ونزعة جماعية نحو التغرّب.

ثم جاءت اللحظة الشخصية القاصمة لظهر أبي، عندما خسر تجارته في ليبيا إثر الحريق الشهير في "سوق التوانسة" في بنغازي، لتزيد عمق الهوّة بيني وبينه، حيث اختار أن يعيش أزمته منفرداً، وأحياناً أن يكون عنيفاً. خسارة لم يتمكن من تعويضها، فقد اضطر إلى ترك كل شيء فجأةً، والهرب سريعاً من ليبيا، عندما نقل أحد جواسيس القذافي المنتشرين تفاصيل ما تشاركه أبي مع عدد من المعارف من نقاش سياسي تناول الوضع في ليبيا.

كان حظّ أبي أفضل بكثير من حظ أولئك الذين شاركوه تلك الجلسة، فلقد غُيِّبَ أحد معارفنا ثماني سنوات في سجن بوسليم، ليُصدم بعد خروجه ونجاته مما عُرفت بـ"مجزرة بوسليم"، بإصابة ابنه بـ"الإيدز" بجانب 393 طفلاً آخرين.

معارك يومية وتساؤلات ملحة

عودة أبي للاستقرار في تونس زادت تراكم الحواجز اليومية بالتفاصيل الصغيرة داخل بيتنا، والتي كانت اللبنة الثانية للهرم الذي حملته على ظهري سنوات. التفاصيل موجودة وكأنها مخبَّأة بعناية داخل ذاكرتي، لكنني لا أذكرها، بل هي من تتذكرني فجأةً، وتختار زياراتها لي دون سابق إنذار.

العنوان الأبرز الذي بقي يطفو فوق السطح، يتمثل في الرحلة اليومية بين المدرسة في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، ثم الثانوية. سنوات طويلة قضيتها صباحاً ومساءً أصارع واقع ذلك الثوب المفروض عليّ؛ أتمرّد عليه علناً وأرتديه غصباً، وأخرج إلى حياتي الدراسية حتى أهرب من هذا الهمّ اليومي.

كنت قد تجرّأت في مرحلة ما، على إخبار أبي بأني لم أعد أرغب في ارتداء هذا اللباس وبأني لست مقتنعةً به، فكانت إجابته: "ليس مهماً أن تقتنعي، بل أن تنفّذي ما أمرك به الله". القشّة التي أغرقتنا لسنوات طويلة في عداء ظاهري، وشوق نخفيه بكل ما أوتينا من قوة وصلابة ورثتهما عنه.

لكنني منذ ذلك الحين، تعلّمت أن أسأل، وأن أبحث عن أجوبة لأسئلتي بعيداً عنه. تعلّمت أن أمارس الشك في طريقي إلى اليقين، قبل الاطلاع على فلسفة ديكارت، ورحلة الدكتور مصطفى محمود.

وكان سؤالي الأول: الله الذي أمرني في أول أمر إسلامي في رسالة كونية بالقراءة، هل يسمح بأن أمارس أحد أوامره، دون ممارسة فعل التفكير؟

أكثر من 25 عاماً قضيتها في معركتي السطحية ظاهرياً، الفكرية بيني وبين نفسي، أبحث عن مفردات وجودي والأجوبة عن أسئلتي الكبيرة عليّ. لم يترك لي والدي المجال لأعبُر إلى عالم المراهقة والشباب دون زراعة العقبات في طريقي، وتحميل نعليّ بمزيد من الحجارة والحصى.

خيار النفاق والكذب

في مرحلة ما، قرّرت اللجوء إلى "الحل الأسهل" في المواجهة والمصارحة؛ قرّرت ممارسة النفاق وعن سابق إصرار وترصّد. 

كان المعهد المكان الوحيد الذي يحميني من معتقل أبي، فكانت أسواره حدود الحرية المؤقّتة التي أعيشها حتى أثارت الكثير من الأسئلة بين أصدقائي، وأترابي من الجيران، وجعلتني محل إحراج.

ليس مهما إن اتهموني بالنفاق، والكذب.

هم لا يشتاقون مثلي إلى طريق سعيد نحو المدرسة، أو العودة منها.

هم لا يعرفون معنى المرور بكل تلك الواجهات لمحال تعرض آخر صيحات الموضة التي تتمنين ارتداءها، وتتحقّق أحلامك في أجساد زميلاتكِ.

هم لا يعرفون كيف عشتُ مراهقةً، ثمّ شابةً محبوسةً داخل أحلامي، أُخاصم جسدي. لم ألتقِ يوماً به. هم لا يعرفون كل ذلك.

لكني أعرف أن كل هذه الجبهات المفتوحة في رأسي وحولي، وكيف أرهقتني حتى قرّرت ذات صائفة أن أستسلم.

خضعت لرقابة الوالد سنوات طويلةً، ومارست بعض الحرية خِفيةً عنه، حتى ذلك اليوم الصيفي أيضاً الذي ضبطني فيه مرتديةً بنطال جينز وتي-شيرت بكمين قصيرين. كان لباساً عادياً جداً و"محتشماً" لكثيرين، لكنه كان فاضحاً جداً في نظر والدي ليبرّر لنفسه ما فعله بي.

كنت غاضبةً جداً، ثائرةً جداً، وصامتةً جداً من أجل عائلتي التي لا تريد تحمّل المزيد من غضب أبي.

فقرّرت ارتداء الحجاب، هرباً من هذه المواجهة اليومية التي لا تنتهي منذ سنوات حتى استُنزِفت طاقتي وهُدرت أجمل أيام عمري. كانت الظروف آنذاك مواتيةً لأتصالح مع محيطي -أو هكذا ظننت أنني أتصالح معه- بعد موجة فتاوى شيوخ التلفزيون وتزاحم أقراني على أبواب التحجّب والتديّن الظاهري، وسياسة غض البصر التي مارستها السلطات التونسية آنذاك عن انتشار المظاهر الدينية في الشارع بعد سنوات من التضييق والتتبّعات. صار سهلاً عليّ على الأقل أن أرتدي الحجاب من دون الإحساس بالغربة والوحدة، فارتديته 15 عاماً بلا رغبة، بلا حب، وبلا قناعة عميقة، لكنني كذبت وادّعيت علناً أنني، وأخيراً، ارتديت حجابي عن قناعة، ولن أنزعه بتاتاً.

كم كنت كاذِبةً ومدّعيةً؟ وكم كنت جبانةً وغريبةً عن ذاتي، وعن كل ما علّمته لنفسي في تلك السنوات؟

لم أحب يوماً حجابي، ولم أرَ نفسي يوماً جميلةً فيه. لم أتمكن يوماً من العثور على أنوثتي فيه، ولم أتصالح خلال كل تلك السنوات مع مرآتي.

لكنني أعلنها الآن: لقد كرهت حجابي دوماً، لقد تورطت فيه، واغتصبني لسنوات طويلة، تحت عنوان إرضاء والدي وطاعة الله. عنوان أسوّقه للمجتمع الذي لم يعد يراني غريبةً بعد تصالحه مع الحجاب، وهو اليوم أيضاً تصالح مع معايير أبي لـ"الفضيلة والصلاح والتقوى". الغريب أنني لا أزال غريبةً، ولا أشعر بعد بالرضا حتّى بعد أن تخلّصت منه.

كان الحجاب، تلك الساعة المتوقفة المعلقة على جدار غرفتي، تلفظ مسامير تدميني وأكتب عنها في محاولاتي الشعرية البسيطة، لكنني لم أدرك ذلك إلا اليوم.

لقد دفعني أبي دفعاً لخوض معارك أكبر من سنّي، ولم يكن موجوداً لمؤازرتي خلالها. لم يحاول يوماً أن يخبرني بأني جميلة بحجابي. اكتفى بتصوّر جمال الجنة التي سيدخلها بفضل حجابي أنا. ولم يعلم أنه بينما ظنّ أنه يحميني بتغطية شعري، وإخفاء تفاصيل جسدي، كان يعرّي روحي

لقد دفعني أبي دفعاً لخوض معارك أكبر من سنّي، ولم يكن موجوداً لمؤازرتي خلالها. لم يكمل معي الطريق، وتوقف عند تلك الدكانة الضيقة التي خاطت لي جلبابي الأسود، في سوق الظلام.

لم يمشِ معي إلى المدرسة، ولم يدخل معي قسم "الثالثة -أ-"، حين بادرتني تلك المعلمة أمام أترابي، خاصةً صديقاتي الأنيقات المتزينات في بداية العام الدراسي، بالسؤال: "لماذا هذا الأسود الذي يعتريك من رأسك إلى أخمص قدميك؟ أخبري والدتك أن تغيّر لك اللون واللباس".

لم يسمع أبي استهزاء أستاذ الفرنسية وزوجته، اللذين طرقت بابهما ذات يوم لأسجّل في درس خصوصي، وكيف أقفلا الباب في وجهي، دون أن يجيباني بشأن ما أتيت لطلبه منهما.

لم يدافع أبي عني، يوم اعترضتني تلك الفتاة التي كانت تكرهني دون سبب واضح، مع بنات خالاتها، وقالت لهنّ بصوت عالٍ حتى أسمعها: "يصلّوا الفرض، وينقبوا الأرض". كنت فاشلةً آنذاك في فهم الأمثال الشعبية، لكني أدركت المعنى من خلال نظراتهنّ اللئيمة وضحكاتهنّ الساخرة.

لم يكن أبي معي يوماً بعد ذلك اليوم القائظ، ولم يحاول يوماً أن يخبرني بأنني جميلة بحجابي، بل اكتفى فقط بصورته هو الجميلة في نظر المجتمع، ومحاولة تصوّر جمال الجنة التي سيدخلها بفضل حجابي أنا.

لقد حملت طويلاً أحلام والدي في ثنايا حجابي، حتى ملّت أنفاسي المرهقة وتلاشت من ثقل ركامه والهواء الفاسد الذي دخل من الثغرات التي فتحها فيّ.

أبي لم يكن يعلم أنه طوال تلك السنوات التي ظنّ فيها أنه يحميني بتغطية شعري، وإخفاء تفاصيل جسدي، كان يعرّي روحي.

حتى جاء ذلك اليوم الذي أخبرني فيه الطبيب بأن أولئك الغازين لروحي المهدّمة أسوارها، قد تمكنوا من طباعة جراحهم على جسدي إلى الأبد، وهي جراح لن أشفى منها.

أدركت يومها أن لا سبيل إلى صدّ العدوان، وسدّ الثغرات، إلا بقطع رأس أبي من الأمر إلى النهي. فأفرجت ذلك الصباح عن جسدي المغطى بالبهاق وبألوانه الجديدة، وارتديت الأصفر بلون الشمس متصالحةً مع فَجري.

في الثامن من شباط/ فبراير 2021، بعد 31 عاماً، وفيما يُفترض أنني طبَّعت مع حجابي، وجدتني أطير سيراً نحو وجهتي، بلا ذرة خجل مما كنت أشعر به سابقاً. 

سارعت إلى حسابي على إنستغرام، ونشرت صورتي بلا حجاب بكل سعادة دون تردّد، وكتبت: "اليوم أنا متصالحة مع نفسي، لا أكثر ولا أقلّ". 

منذ ذلك اليوم لم أعد أرى ذلك الحلم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

وراء كل تحقيق، قصة بحث طويلة، وفريق يراهن على الدقة، لا السرعة.

نحن لا نبيع محتوى... نحن نحكي الواقع بمسؤولية.

ولأنّ الجودة والاستقلال مكلفان، فإنّ الشراكة تعني البقاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image