كعادة العائلات في الجلسات الجماعية، أو عند البحث عن مستمسكات لمعاملة حكومية، أو صور عدد 4، يخرج ألبوم الصور من خزانة قديمة أو من على رف منسي.
ألبومات بمختلف الأحجام والأشكال، شاهدة أزلية على زفاف أو طهور، مراهقة وبلوغ، وأحداث لم نلحق بها أو لحقت بنا ولم نكن واعين عندها. هذا الألبوم هو مرآة لحيوات مرت سريعة، كأن الزمن فيها يقفز بسرعة بين الذكريات، من دون أن يتيح لنا لحظة للاستعداد لفهم ما كان يحدث حينها. هل كانت تلك اللحظات ذات قيمة؟ أم أنها كانت مجرد تحركات عابرة في مسار حياة كاملة؟
دائماً ما يرافق الألبوم عند تصفحه مشاعر مختلطة؛ الضحك على تسريحة شعر أحدهم أو ملابس ارتديت بطريقة معينة، أو العري كما ولدتك أمك، وأنت تتجول في غرف البيت أو فنائه، وبمحض الصدفة، قرر عمّك أو والدك، حاملاً آلة تصويره أو كاميرا مستأجرة من أي استوديو تصوير، أن يخلد لحظتك تلك على صفحاته، ممزوجة بضحك عابر من الماضي للحاضر.
لكن، لعلّ تلك الصور التي تبدو لنا الآن مجرد لحظات عابرة، كانت في ذلك الزمن تحمل أبعاداً أكبر، إذ كانت جزءاً من سردية ثقافية تكاد تكون مختلفة تماماً عما نراه اليوم.
ألبوم الصور... وما يقوله عن زمن آخر
نرى دائماً شخصاً نجهله في طياته، نحاول أن نحزر من هو؟ ونشعر بالحسرة على فقدان آخر. يرافقه حزن غامر على ذكريات تلك الأيام، فإنها وإن حملت سوءاً، لكنها لن تعود. ببساطة، إنها النوستالجيا التي نلجأ إليها هروباً من عصر السرعة وأيامه الباهتة. لكن أليس ذلك الحنين أحياناً مجرد وهم يهرب بنا من واقع صعب؟ يختلط الحنين مع القسوة، فنتمنى عودة أيام كانت أسهل، رغم معرفتنا التامة بأنها لم تكن كذلك.
كان والدي عاشقاً لفريد الأطرش، ومحباً للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، لكن تتفوق عليهما أم كلثوم، بعدد الأغاني التي كان يدندنها أثناء الاستحمام، وتبديل الثياب، والنزهة
ألبوم صورنا تخرجه أمي من "الكنتور" أي خزانة الملابس، نجتمع حوله، وتبدأ سهرة لا تنتهي إلا بعد ساعات طويلة، تتخللها مشاعر عديدة. لكن هذه المشاعر انقلبت عندي إلى أسئلة فيما بعد: لماذا لم تكن أمي ترتدي الحجاب في شبابها؟ لماذا عمي بشعره الكيرلي في الصورة يلومني الآن على شعري ويمتعض منه؟ ولماذا مسجل أبي قد نفي لاحقاً هو وأشرطته، ولم يبق من فنه سوى لوحات موزعة عند أقاربنا؟ ولماذا أراد والدي يوماً ما أن يحرق رسائل حبه؟ كانت هذه الأسئلة تلمس جراحات عميقة في علاقتنا مع الماضي، وتفتح أبواباً من التفكير في التحولات التي خضناها كأفراد وكعائلة.
فوالدي، الذي كان عاشقاً لألحان فريد الأطرش وتقاسيم عوده المدهشة، ومحباً لأغاني العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ وإحساسه المرهف، كان يشارك المطربين مكانهما في عدد الأشرطة المرتبة في قلبه. لكن تتفوق عليهما أم كلثوم، بعدد الأغاني التي كان يدندنها أثناء الاستحمام، وتبديل الثياب، والنزهة.
كانت تلك الأغاني بمثابة جزء من هوية، وهوية متجددة في زمن متغير، إذ كان الصوت يتسلل إلى كل زاوية من حياتنا، رغم التغييرات المحيطة.
تقول والدتي إنه على الرغم من كون والدي لم يكمل تعليمه الثانوي والتحق بالعمل منذ نعومة أظفاره، إلا أن كفّه الخشنة وأصابعه المغطاة بجلد ميت بفعل الإسمنت (عامل بناء)، كان لها رأي آخر مع الفرشاة والخطوط العربية.
وهي بدورها لم تكمل تعليمها الثانوي، بل تركت المدرسة لتعتني بإخوتها، مبررة بأنها لم تتحمل شعور العودة من المدرسة لرؤيتهم جياعاً أو يلعبون في الشارع، وبدأت مسيرتها كربة بيت في وقت مبكر. كانت حياة بسيطة وصعبة في الوقت ذاته، مليئة بالتضحيات والمشاعر المعقدة.
قصة حب أمي وأبي
أحببت دائماً فكرة أنهما تزوجا عن حب.
ففي ظل الحرب المهددة بالقدوم، والسماء الملبدة بالخوف من التجنيد الإلزامي في الثمانينيات، التقى أبي بلحنه الخاص وإطلاق سراحه المشروط في أزقة مدينته في قطاع 78 في مدينة الثورة في بغداد، عن طريق صديقه/ أخيها أحمد، بعد أن رسم له عدة لوحات.
بدأت قصة حب أمي وأبي بالرسائل، التي لم تتوقف مع زواجهما والتحاقه بالتجنيد الإلزامي في البصرة أثناء الحرب الإيرانية... الرسائل التي بصعوبة منعناه من حرقها.
تقول أمي إنها صدقت أن الحب يحدث من أول نظرة، وهي ابنة الـ 15 عاماً، عندما كان يتردد إلى منزلهم، وحين فتحت له الباب، أدركت عينيه. أبدى إعجابه بها لاحقاً، وتبادلا الرسائل كعشاق جياع، وكان النصيب الأكبر من التعبير عن هذا الحب الكبير من أبي، الذي كان يجسد مشاعر قلبه مباشرة على أوراقه البيضاء المعنونة إليها، أو يستنجد أحياناً بالشعراء مثل نزار قباني، أو يستلهم من برنامج إذاعي اسمه "بعد منتصف الليل". استمرا بتبادل الرسائل بعد زواجهما، مع التحاقه بالتجنيد الإلزامي في البصرة أثناء الحرب الإيرانية، لكن بطبيعة الحال، توقفت رسائلهما لاحقاً عند استقراره في المنزل.
رافقت فترة حبه المتقدة لوحات رسمها بشغف، وحين ضاق به الحال، اضطر لاحقًا إلى بيعها في سوق الباب الشرقي، أو المشي لساعات بدل الصعود في "الوازات"، وهي سيارة جيب قديمة ومكشوفة من الخلف، ليقتصد في مصروفه لنا. تلك الأيام، التي كانت مليئة بالضغط المادي والمجتمعي، لا زالت في الذاكرة، حافلة بالأسئلة حول الحرية والحلم، والمثابرة في وجه الواقع المظلم.
لحسن الحظ أو لسوئه، بدأت الصحوة الإسلامية في العراق بالظهور في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، متأثرة بالعوامل الإقليمية والدولية، بما في ذلك الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، التي ألهمت العديد من الحركات الإسلامية في المنطقة.
فازداد الخناق على الحجاب والأغاني، عبر التوعية الدينية، والخطب، والمحاضرات، والندوات، إلى جانب حملات توزيع الحجاب بأسعار رمزية أو مجاناً، والدعوة إلى تحريم الأغاني. أصبح التغيير الحتمي جزءاً من الحياة اليومية، وقادني ذلك للتفكير في كيف يمكن للتقاليد والدين أن يغيرا وجه الحياة الشخصية والعامة في الوقت ذاته.
حين ارتدت أمي الحجاب
في مدينة الثورة تحديداً (مدينة الصدر حالياً)، كان لصلاة الجمعة وخطبها أثرها على المجتمع، واكتفى أبي بالحلال والحرام لإقناع أمي بارتداء الحجاب، فاقتنعت به إلى يومنا هذا، كما هو حال نساء بيتنا الأخريات، لكوننا عائلة محافظة. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنها لم تعتد تغطية شعرها، ولم تسمع بالأسباب الدينية قبل ذلك اليوم. كان هذا التغيير عميقاً، لكنه في الوقت ذاته كان محفوفاً بالتحديات الشخصية، كما لو أن قراراً فردياً أصبح جزءاً من تحولات أكبر لتشكيل الحياة الاجتماعية.
أما أبي، فقد كان يحمل مسجله من نوع "أكاي" أو "سوني" مع صديقه، وربما مع خالي المتوفى أحمد، ويذهبان في نزهات يستمعان خلالها إلى ياس خضر وعبادي العماري، ويصف تلك الأيام لي وكأنها لا تزال شاخصة أمام عينيه: "كل مشغول بنفسه، والناس تسمع ما تريد، إن كنت جالساً على الباب أو في الحدائق".
بدأت الصحوة الإسلامية في العراق بالظهور في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وتم توزيع الحجاب بأسعار رمزية أو مجاناً، والدعوة إلى تحريم الأغاني. أصبح التغيير الحتمي جزءاً من الحياة اليومية
لاحقاً، في التسعينيات، باع مسجله الأخير وأشرطته، واشترى "توبة نصوحة لا تقدر بثمن" كما يقول، وقل نشاطه الفني أيضاً بعد أن سقط النفط على عينيه، وتفرقت لوحاته، وأخفي بعضها عند انتقالنا من بيت جدي.
بسبب طبيعة عمله المختلفة، وآخرها التحاقه بالجيش بعد سقوط النظام، لم يكن كثير التواجد في المنزل. لذا، كانت طفولتي خالية تقريباً من وجوده، ووصايتي موزعة بين أعمامي وإخوتي. لم ير شعري النور بسبب الحلاقة المتكررة، وعندما أطلتُه في مراهقتي، اكتشفت لاحقاً في العشرينيات أنه "كيرلي"، ومهما حاولت تسريحه أو ضبطه، كنت أقابل بالاستهجان، حتى عندما استخدمت المنتجات المناسبة له.
لكن مع انتقالنا إلى بيت جديد، حصلت على مساحة من الحرية، ورأيت عمي المصاب بالصلع الوراثي، والذي كان شعره في شبابه كيرلي مثلي، يبتسم لي وهو يطالع صورة قديمة له على قارب في شط العرب. ومع ذلك، لم يفته أن يرافق سلامه بتعليق عن شعري، وكأنني ارتكبت خطيئة.
تلك التحولات كانت أكثر من مجرد تغيير مادي في حياة أبي، كانت أيضاً انعكاساً للتغيرات الثقافية والاجتماعية التي كانت تعصف بالمجتمع في ذلك الوقت. قد تكون التوبة عن الأغاني والموسيقى جزءًا من محاولة التكيف مع محيط ديني أكثر صرامة، لكن هل كانت تلك التغيرات تعبيراً عن رغبة حقيقية في التغيير؟ أم كانت مجرد محاولة للبقاء في إطار المقبول اجتماعياً في ظل ضغوط البيئة؟
ورسائل الحب
على الأرجح، شعر أبي بالخجل لاحقاً عند رؤية رسائله هو وأمي عندما عرضتها عليه أختي متفاخرة بعلاقتهما ورومنسيتهما الحالمة، حتى أنه أراد حرقها! لكننا ثنيناه عن ذلك وخبأناها منه. لا أدري إن كان فعلاً ساذجاً، أم أنها كانت مجرد خطايا يجب أن تنسى مع الزمن، وتذهب مع تلك الأيام، بحلوها ومرها، بحلالها وحرامها. هل كانت تلك الرسائل مجرد صفحة من الماضي يجب أن تطوى؟ أم هي تجسيد لجيل عاش حالة من الانفتاح والحب قبل أن يصدم بتغييرات اجتماعية ودينية طارئة؟
وأخيراً، حتى في زمن الفن الموحل، كان صوت العندليب والسيدة أم كلثوم أقوى من تأنيب ضمير أبي وبوصلته الأخلاقية، فأمسكته قبل سنوات متلبساً يسمع الأغاني خلسة، بصوت خافت، عبر اليوتيوب، وكأن فيروز بصوتها الآسر تكاد تتغلب على دعاء الصباح والآيات الجالبة للرزق. هذه اللحظة كانت صادمة بالنسبة لي، لأنها جعلتني أفكر في كيفية تغيير الإنسان لطباعه وعاداته بسبب مؤثرات الخارج، وأيضاً في كيفية تغير نظرتنا لما هو "صواب" و"خطأ"، بناءً على سياقات اجتماعية ودينية تتغير باستمرار.
مازحته مرة قائلاً: "حب الأغاني ورثته جينياً مع عيوني الملونة، لكنني على عكسك يا أبي، لا أملك شيئاً أتوب عنه مستقبلاً". لكنني أدركت، مع مرور الوقت، أنني كنت أختصر الحياة في كلمات غير واقعية. في النهاية، يمكن أن يكون لكل منا قصته، ودوافعه، ورغباته التي قد تتغير أو تتبدل، لكن في دواخلنا جميعاً شيء ما من الماضي، جزء من نشأتنا، شكل وعياً معيناً، حتى لو حاولنا تجاهله أو إنكاره.
وأدرك في كل مرة يا أبي، أن أغنياتهم الصادقة، التي لا تزال تبث سحرها في آذان مستمعيها لعقود، تتحدى كل العنجهيات والخطابات والقيود المجتمعية والدينية، بخلودها، وبترديدنا لها.
أغنياتهم كانت قبل كل شيء، تعبيراً عن الذات، عن الحرية، عن الأمل الذي يستمر رغم قسوة الظروف. أما اليوم، فلا زال صوت عبد الحليم حافظ يملأ الأجواء، وصوت أم كلثوم يمس قلوبنا، كأن الزمن لم يمر، وكأننا جميعاً ما زلنا نستمع إليهم بحب، رغم كل شيء. ربما لأنهم علمونا أن التغيير لا يعني هدم الماضي، بل فهمه والعيش معه بروح جديدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.