سهام هي سِتّي، جدّتي، وحبيبتي.
كان فيلم "الحياة بعد سهام"، يحمل اسمها، وكان ذلك سبباً كافياً لرغبتي في مشاهدته ضمن مهرجان الجونة السينمائي في دورته الثامنة هذا العام.
"الحياة بعد سهام"، فيلم وثائقي للمخرج السينمائي المصري-الفرنسي نمير عبد المسيح. حاز في ختام المهرجان، على جائزتين: نجمة الجونة الفضية للفيلم الوثائقي، ونجمة الجونة لأفضل فيلم وثائقي عربي. يحكي عن الفقد، وعن الموت، أو ربّما عن أسوأ ما فيه: ما يليه.
والموت هنا هو موت الأمّ، سهام، أمّ نمير.
هذه كتابة شخصية، وليست مراجعةً للفيلم، بل تأملٌ فيه وفي ما يتجاوزه. كتابة عن مشاعر إنسان عادي يخاف من فكرة الفقد، ويخشى أن يُفجَع بأحبّته.
يُساير الإنسان نفسه، ويُسايره من حوله بأنّ "الفقيد في مكانٍ أحلى".
في مكانٍ أحلى، ربّما.
فالإيمان يدفعه إلى تصديق ذلك، لكن إن اقتنع العقل، يبقى للقلب رأيٌ آخر. وأنا أُصدّق قلبي كثيراً: لا مكان أحلى من الدنيا.
يبدأ الفيلم بموت سهام، وبسؤالٍ معلَّق: كيف تكون الحياة بعدها؟ ما شكلها؟ كيف تُعاش؟ وهل تُعاش أصلًا؟ تساؤلات كثيرة تتوالى بلا إجابات.
ومن ثم يأتي صوت من بعيد: "يا مسافر وحدك"، ليزيد الموقف تعقيداً.
استخدم المخرج هذه الأغنية التي لطالما رأيتها رومانسيةً، لكنها في الفيلم تحوّلت إلى نشيد حزن… نشيد موت: "يا مسافر وحدك وفايتني، ليه تبعد عنّي؟".
يُساير الإنسان نفسه، ويُسايره من حوله بأنّ "الفقيد في مكان أحلى"... ربّما. فالإيمان يدفعه إلى تصديق ذلك، لكن إن اقتنع العقل، يبقى للقلب رأيٌ آخر. وأنا أُصدّق قلبي كثيراً: لا مكان أحلى من الدنيا
تساؤلات كثيرة جاءت وأنا أشاهد الفيلم:
أولًا، كيف يمكن أن يُصنع فيلم عن أمّ؟ عن أمّ حيّة؟
ثم السؤال الأصعب: كيف يمكن أن يُصنع فيلم عن أمّ ميتة؟
وهل تموت الأمّهات حقّاً؟
كيف يعيش من غابَت أمّه؟
ألا تُسدل الدنيا ستائرها حداداً؟
ألا يجب أن يكون هناك حدادٌ عام على الأمهات؟ أن تحزن البلاد بأكملها حين تموت إحداهنّ؟
ألا تستطيع "حنّيتهنّ" أن تمنع الموت؟
لا أعرف إن كان في وسعي أن أحكي ما يحدث في نهاية الوثائقي، فأنا لست من أنصار حرق تجربة المشاهدة. لكن ما حصل كسر قلبي أضعافاً.
بكيت خلال مشاهدة "الحياة بعد سهام". بكيت من توظيف خيالي للحظة موت محتملة. فقلبي يُخبرني دائماً بأنه لا يحتمل حداد الموت، لأنه هشّ ويخاف أيّ شيء يندرج تحت الانفصال/ التباعد العاطفي (detachment).
أراد نمير تصوير جنازة والدته، فطلب الأمر من صديق مصوّر. اعتذر الصديق لكونه خارج البلاد، وقال إن التصوير في مثل هذا الموقف "لا يهمّ". لكنه عاد لاحقاً ليُخبره بأنه سيكون حاضراً، وبالفعل تم التصوير. وقد شاهدت جنازتها، بجانب كثر من الجمهور.
وبهذا، استطاع أن يُحيي والدته الميتة، وأن يأخذها معه في رحلة عبر بلدان كثيرة من خلال فيلمه.
في هذا السياق، ذكر نمير أنّ السينما "تساعده"، وهي حقاً كذلك، كما يفعل "التوثيق"، إذ يكمن الألم في الذاكرة، حين يتحوّل الشيء إلى ذكرى، أو إلى ذكرى منسية على وجه الخصوص، ذكرى لم تملأ الدنيا ولم تضجّ بها. لكن الذكرى الأغلى هي الأشخاص: حكاياتهم، ضحكاتهم، نكاتهم… وخسارة أن يرحل أصحابها دون أن يسمعها العالم، الآخر البعيد، لا الدوائر المقربة فحسب.
نشيد الحزن الثاني في الفيلم كان "أنا ليك على طول خلّيك ليّا". ونسيت أن أذكر أنّ والد نمير، "وجيه"، كان معنا في الفيلم منذ البداية. كان يحكي عن رفيقة دربه، ويقول إنه اعتقد أنّه سيرحل قبلها، ولكنّ ذلك لم يحدث…
تحدّث المخرج عن فكرة العدم، والرعب المحيط بها. في رحلة الفيلم، حيث محاولات للتعافي ربما، للبحث عن الذات، لنبش المشاعر، وللحكي عن أثر الشخص بعد رحيله، نصل إلى خلاصة تقول على لسان نمير: "ما بعد سهام، ما بعد وجيه، ما بعد نمير، بعدنا كلنا… هتفضل الحياة يا بابا، إحنا ابتدينا الحكاية وهم (من بعدنا) هيكملوها".
لا أعرف إن كان في وسعي أن أحكي ما يحدث في نهاية الوثائقي، فأنا لست من أنصار حرق تجربة المشاهدة. لكن ما حصل كسر قلبي أضعافاً. ثم انتهى الفيلم وجاءت العبارة:
"لآبائنا
لأمهاتنا
للحب".
ربما كانت السينما هنا وسيلةً لشكل ما من أشكال النجاة، من خلال تحنيط لحظات وذكريات وواقع أراد أن يكون أبدياً، يمكن العودة إليه دائماً
وقف الجميع ليُصفّق. ولم أكن أدري إن كنا نصفق لجمال الفيلم، وكيف قدّمه نمير لنا، أو كنا نصفق لشجاعته في خلق فيلم يحمل هذا الكم من الحزن، أو لأننا وقفنا لنواسيه. لا أدري بالتحديد. لكنني وقفت واقتربت منه لأرى وجهه. هو نفسه من في الفيلم، لكنه تغيّر قليلاً. رأيته مبتسماً، فابتسم قلبي قليلاً أيضاً.
عادةً، أُساير قلبي في نهاية الأفلام الحزينة بأن أقول: "مجرد فيلم". لكن هنا، لم أستطع مواساته. إنه موت، موت حقيقي، تم توثيقه… فقط. موت أراد نمير أن يُحييه. ربما كانت السينما هنا وسيلةً لشكل ما من أشكال النجاة، من خلال تحنيط لحظات وذكريات وواقع أراد أن يكون أبدياً، يمكن العودة إليه دائماً.
شكراً نمير.
قدّمت فيلماً عن الحبّ.
ويُفترض أنّ الحب لا يموت… لكنه مات، وحاولت أن تحييه.
ومع ذلك، قلبي الهشّ لا يزال يعتقد أنّ هذا الموت حقيقي، وأنّ إحياءه مجرد وهم.
على الهامش: لا تتلقّى الأفلام الوثائقية عادةً الزخم نفسه الذي تحظى به الأفلام الروائية الطويلة، برغم أنها نوع لا يقلّ أهميةً، لما تحمله من صدق وحكايات يؤمن صانعوها إيماناً عميقاً بأنها يجب أن تُحكى كما هي، بأبطالها الحقيقيين.
"فلعلّنا إذا استطعنا أن نرى
البطل إنساناً عادياً،
قد نستطيع أن نرى
أن الناس العاديين كلهم
يصلحون لأن يكونوا أبطالاً".
- ممدوح عدوان
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



