"صوت هند رجب" من غزة إلى فينيسيا... حين تصبح السينما شهادة على الإبادة

ثقافة نحن والفئات المهمشة نحن والحقوق الأساسية

الاثنين 8 سبتمبر 20259 دقائق للقراءة

"صوت هند رجب" هو صوت غزة نفسها، صرخة استغاثة سمعها العالم أجمع، ولكن لم يُجبها أحد". في ختام الدورة الـ82 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، مساء السبت الماضي 6 أيلول/سبتمبر 2025، استقبلت المخرجة التونسية كوثر بن هنية بهذه الكلمات أسدَ فينيسيا الفضي لجائزة لجنة التحكيم الكبرى عن فيلمها المؤثر "صوت هند رجب"، وسط احتفاء وتعاطف كبير من صناع السينما بأنحاء العالم، الذين وقفوا خلال الحفل احتراماً لأرواح ضحايا الإبادة الوحشية التي تتعرض لها غزة على مدار عامين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي وكانت هند من بينهم.

في 29 كانون الثاني/يناير 2024، وقف متطوعو الهلال الأحمر الفلسطيني عاجزين عن إنقاذ طفلة لا يتعدى عمرها ست سنوات؛ هند ابنة عائلة حمادة من حي تل الهوى ظلت محتجزة لساعات من الرعب داخل سيارة عمها وسط جثث ستة من أفراد عائلتها من بينهم أربعة أطفال، فقدوا حياتهم جميعاً تحت وابل طلقات قوات الاحتلال، بينما استنجدت هند بمن يغيثها قبل أن تطالها قذائف الدبابات المحيطة بها، ووصل صوتها المرتعد لمتطوعي الهلال الأحمر إلا أنهم لم يتمكنوا من إنقاذها، وبالرغم من كل المحاولات والوقت المهدر في التنسيق لتأمين طريق سيارة الإسعاف المرسلة إليها، قُتل فريق إسعاف الهلال الأحمر بقذيفة استهدفت السيارة على بعد خطوات من موقع هند.

سمع العالم أجمع صوت هند رجب وهي تتوسل لإنقاذها الذي لم يأت قط من خلال تسجيلات الهلال الأحمر التي تم نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي بعد استشهادها، وفى تصوير درامي مؤلم استخدمت المخرجة التونسية كوثر بن هنية التسجيلاتِ الحقيقية لصوت هند ومحادثاتها الهاتفية في فيلم على غرار فيلمها السابق "بنات ألفة"، يمزج بين الدراما والواقع، الروائي والوثائقي، مع الفارق بين طبيعة الفيلمين والقدر المستخدم من الدراما في مقابل الواقع المعاد تجسيده.

الفيلم الذي تم صناعته بدعم من والدة هند تدور أحداثه بالكامل داخل موقع واحد، وهو مكتب الهلال الأحمر الفلسطيني في رام الله ومن وجهة نظر متطوعي الهلال الأحمر الفلسطيني الذين لبّوا نداء هند واستقبلوا محادثتها في إطار مستوحى من فيلم "المذنب" للمخرج الدنماركي غوستاف مولر في 2018. ويمثل استخدام التسجيلات الصوتية الفعلية لهند نقطة قوة في الفيلم كان لها تأثير كبير في كسب تعاطف المتلقين، لكنها في الوقت نفسه تفتح باباً للتساؤلات الأخلاقية النابعة من الخط الرفيع بين التوثيق والتمثيل.

يتجاوز الفيلم مجرد إعادة تمثيل الحكاية إلى استدعاء مباشر لأصوات الموتى والضحايا: هند وابنة عمها ليان (14 عاماً). هذا الخيار يمنح الفيلم قوة استثنائية من حيث التأثير والمصداقية، لكنه في الوقت ذاته يثير إشكالية حول حدود الفن والسينما: هل من المشروع استخدام مادة إنسانية مؤلمة وموثقة كهذه في عمل فني يعرض في مهرجانات ويُصفق له الجمهور؟ وهل الاحتفاء هنا بصانع الفيلم نفسه أم اعتراف متأخر ببراءة طفلة تركها العالم تموت وحيدة؟

يُحسب لبن هنية توظيفها المسؤول للصوت في الفيلم كعنصر سردي أساسي متوازن مع الصورة والصمت مما عزّز صدق الأداء والتأثير البصري

بينما، من جهة أخرى، يوثّق هذا الصوت لحظة مأساوية لا يمكن اختلاقها أو محاكاتها، وهو ما يمنحه قوة الحفاظ على الذاكرة الجماعية، ويكسر حاجز الصمت العالمي المفروض منذ سنوات طويلة على قصص الفلسطينيين لنزع صفتهم الإنسانية، ويحوّل الفيلم ذاته إلى وثيقة لا يمكن إنكار أهميتها في هذه اللحظة الفارقة.

ويحسب لبن هنية تعاملها مع هذه المعضلة بقدر من المسؤولية، إذ لم توظف الصوت في سياق استعراضي أو عاطفي مباشر، بقدر ما كان محوراً رئيسياً بنَتْ حوله السّرد البصري والدرامي للفيلم وتركت مساحة للصمت وللصورة كي تتجاوب مع الصوت، وإن لم تكن بنفس قوة تأثير الصوت في بعض الأحيان. وبرغم وقوعها أحياناً في ميلودرامية زائدة لموقف جلل ربما لا يحتاج إلى تعزيز لكسب التعاطف، إلا أن صدق الأداءات التمثيلية التي حاولت محاكاة الواقع واللغة البصرية المباشرة كان لهما تأثير ملموس.

يتداخل الواقع مع التمثيل في مشهد ظهور الشخصيات الحقيقية من فريق الهلال الأحمر على شاشة الهاتف المحمول في فيديو مسجل للحظات الحزينة التي أدرك فيها الفريق قتلَ زملائهم من فرقة الإسعاف قبل وصولهم إلى هند، وهو ما يعنى فقدان الأمل الأخير في إنقاذها، ويبدو فى هذا المشهد واضحاً إلى أي مدى حاول الممثلون في الفيلم تقمص الشخصيات الحقيقية واستخدام نبرات الصوت نفسها في الأداء.

واختارت بن هنية أن تحصر أحداث الفيلم في هذا الموقع، ليظل محوره الأساسي صوتُ هند على الهاتف. ونتيجة لذلك لا نعرف الكثير عن الحياة الشخصية لهؤلاء الذين كرّسوا أنفسهم لمهمة نبيلة، لكنهم في الوقت ذاته تحولوا إلى شهود على أصوات الموت، يعانون يومياً من العجز أمام رسائل واتصالات الاستغاثة القادمة من قلب حرب تحصد أرواح شعبهم بلا رحمة. هذا الخيار مفهوم ضمن رؤية المخرجة، لكنه أوقع الشخصيات أحياناً في فخ التسطيح، فجاءت بعض انفعالاتهم غير مبرّرة أو مفتقدة للعمق الدرامي.

بينما استخدمت لقطات الكاميرا القريبة والحركة في مساحات ضيقة بين أروقة مكاتب الهلال الأحمر، لتلتقط تفاصيل الخوف والارتباك وتضع المشاهد في قلب الحدث ويكون جزءاً من حالة التوتر، وكأنه شريك في محاولة الإنقاذ البائسة رغم علمه المسبق بنهايتها المحتومة، وحرصت على حفظ كرامة الموتى في المشاهد الحقيقية التي استخدمتها في نهاية الفيلم وتوثق اللحظات المؤلمة لانتشال الجثث من داخل السيارة بعد 12 يوماً من الواقعة، فلا نرى منها سوى أجساد مغطاة بالأكفان البيضاء أو البطاطين الملونة.

بين برلين وفينيسيا: صورتان متناقضتان

لم يكن العرض العالمي الأول لفيلم "صوت هند رجب" للمخرجة التونسية كوثر بن هنية في الدورة الـ82 لمهرجان فينيسيا السينمائي حدثاً عادياً، بل لحظة سينمائية كثيفة بالمعاني السياسية والإنسانية، وقوبل الفيلم باحتفاء جماهيري ونقدي لافت، تُرجم في وقوف طويل للتصفيق ورشحته الصحف العالمية للفوز بالأسد الذهبي، وحصد سلسلة من الجوائز على هامش المهرجان تمنحها منظمات دولية ومؤسسات مجتمع مدني.

حاز الفيلم على جائزة النقاد الإيطاليين الشباب لأفضل فيلم في المهرجان (Arca CinemaGiovani Award)، وجائزة اليونسكو للأعمال ذات البعد الثقافي والإنساني العالمي (Prix CICT-UNESCO Enrico Fulchignoni) المعروفة بميدالية فيلليني، وجائزة الصليب الأحمر الإيطالي للأعمال التي تُجسد قيم المساعدة الإنسانية والتضامن مع ضحايا الحروب أو الكوارث، وجائزة Edipo Re Award التى تُمنح للأفلام التي تطرح قضايا أخلاقية، أو سياسية، وجائزة Leoncino d'Oro Award التي يمنحها طلاب المدارس من جميع أنحاء إيطاليا، وجائزة Cinema for UNICEF وهي تكريم من اليونيسف للأفلام التي تحمل رسالة إنسانية قوية، خاصة في ما يتعلق بحقوق الأطفال وحمايتهم.

كما حاز على جائزة Sorriso Diverso Venezia Award لأفضل فيلم غير إيطالي، وجائزة اتحاد الجامعات المتوسطية للأفلام التي تحمل بعداً ثقافياً وتربوياً (UNIMED Award).


ما حدث لفيلم "صوت هند رجب" يظهر تحوّلاً مهماً في طريقة تلقي المهرجانات والجمهور الغربي لأفلام القضية الفلسطينية

ما حدث لفيلم "صوت هند رجب" يكشف عن تحوّل مهم في طريقة تلقي المهرجانات والجمهور الغربي لأفلام تتناول القضية الفلسطينية، لا سيما بعد موجة الغضب والجدل التي صاحبت عرض فيلم "No Other Land" أو "لا أرض أخرى" للرباعي الفلسطيني الإسرائيلي باسل عدرا ويوفال إبراهام وراشيل سزور وحمدان بلال، وفوزه بجائزتين في الدورة 74 لمهرجان برلين السينمائي الدولي قبل نحو عامين، حيث وُوجه آنذاك بهجوم إعلامي وسياسي حاد، واتهامات بالانحياز الأيديولوجي، وبتسيس المنصة السينمائية.

في برلين، كان مجرد وجود فيلم يوثّق حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي كفيلاً بإشعال أزمة، لتتحول السجالات من نقاش سينمائي إلى محاكمة سياسية للفيلم وصنّاعه وللمهرجان نفسه، بينما في فينيسيا، بدا المشهد مختلفاً: فيلم بن هنية لم يُستقبل فقط كعمل فني مؤثر، بل كوثيقة إنسانية تستحق التعاطف والتقدير، بما يحمله من لغة بصرية حساسة ومباشرة، تضع المشاهد في مواجهة الطفولة المذبوحة تحت القصف، ويحمّل العالمَ وزرَ عدم انقاذها.

هذا التناقض يعكس إلى حد كبير تحوّلاً في المزاج العالمي تجاه ما يحدث في غزة خلال العامين الماضيين، على الأقل بالنسبة لبعض الدول والمؤسسات، حيث صارت لغة تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية والإعلام الغربي أكثر صراحة في توصيف ما يجري على أنه "جرائم حرب" و"إبادة جماعية"، كما خرجت أصوات من داخل الغرب نفسه تنتقد ازدواجية المعايير وتطالب بمحاسبة المعتدين، هذه التحولات أعادت تشكيل المجال العام الذي تتحرك فيه الأفلام.

ساهمت في هذا التحول عدة عوامل منها استمرار حرب الإبادة الوحشية في غزة لأكثر من عامين وتصاعد وتيرتها بشكل مستمر على الرغم من ارتفاع عدد الضحايا لأكثر من 60 ألف قتيل منذ بداية الحرب، من بينهم 18 ألفاً و592 طفلاً فلسطينياً، وتراكم الشهادات والصور الميدانية والانتشار غير المسبوق لمقاطع الفيديو والصور من غزة جعل من الصعب تجاهل الواقع، ومنح الأفلام الوثائقية والروائية المستوحاة منه قوة إضافية ومساحة أكبر على الساحة الدولية، بالإضافة إلى أن الإدانات المتكررة من الأمم المتحدة، والمحكمة العدل الدولية، والمنظمات الحقوقية لجيش الاحتلال الاسرائيلي، ساعدت على إضفاء شرعية أكبر على السردية الفلسطينية في الخطاب الغربي.

عرفت بن هنية منذ أعمالها الأولى، مثل "على كف عفريت" (2017) بقدرتها على المزج بين الحكاية الفردية والسياق الجماعي، وبإعادة طرح الأسئلة الصعبة حول الهوية، الذاكرة، والعدالة الاجتماعية، و"صوت هند رجب" لا يختلف كثيراً، لأن قصة هند هي قصة غزة كلها وما يحدث لأطفال فلسطين، فهي لم تعد مجرد شخصية وإنما رمز، وصوتها وثيقة حية على التاريخ السياسي والاجتماعي للمنطقة، والفيلم دعوة للعالم لتغيير هذا الواقع المؤلم ومنع الدبابات من نهش أجساد الأطفال.

ومن المتوقع أن يعزز دعم عدد من الأسماء البارزة في عالم السينما للفيلم، كمنتجين تنفيذيين، فرصَه في الوصول للأوسكار وتوزيعه بشكل جيد في أنحاء العالم، ومن بينهم براد بيت، وواكين فينيكس، وروني مارا، وجوناثان غليزر، وألفونسو كوارون.

يشارك في بطولة الفيلم مجموعة من الفنانين فلسطينيي الأصل، هم: معتز ملحيس في دور عمر وسجى كيلاني في دور رنا، وعامر حليحل في دور مهدي، وكلارا خوري في دور نسرين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image