مثل غيرها من دول الخليج، لا تنعزل السعودية عن تحولات الواقع الإقليمي، لكن جرأة انفتاحها على تعدد التحالفات الأمنية، فاق قريناتها في مجلس التعاون. قبل جفاف حبر اتفاقاتها العسكرية مع باكستان والصين، عادت بوصلة الرياض لتتجه إلى الغرب، وشرعت في إحياء تحالف لا يجفّ أبداً مع الولايات المتحدة، برغم انتكاسات تعويل المملكة عليه إبّان حرب اليمن، وفشله حتى في تحصين مؤسساتها النفطية أمام هجمات جماعة الحوثي المدعومة من إيران خلال ماضٍ غير بعيد.
برغم ذلك، تتفاوض الرياض على إبرام اتفاقية دفاعية مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تُلزم واشنطن بتعزيز حمايتها للمملكة على نسق الاتفاقية الأخيرة بين الولايات المتحدة وقطر. ويعتزم ولي العهد محمد بن سلمان، وضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق خلال زيارته المتوقعة للبيت الأبيض الشهر المقبل.
في ظاهِرِه، يعكس إنعاش التحالف الأمني بين الرياض وواشنطن، إفراطاً في محاولات المملكة الاحتماء بأكثر من مظلّة دفاعية، خاصةً في أعقاب منح القطريين ضمانات دفاعيةً أمريكيةً غير مسبوقة، وتنامي دواعي الاتفاق الأمني بعد هجوم إسرائيل على الدوحة، وانفراط عقد جبهات إقليمية أمام تكرار اختراقات إسرائيل العسكرية، بما في ذلك لبنان وسوريا واليمن، زيادةً على حرب الـ12 يوماً مع إيران، وحرب الإبادة على مدار سنتين في قطاع غزة.
"لا يوجد بديل حقيقي للهيكل الأمني الأمريكي في المنطقة، لكن السعودية يمكنها التناغم مع تحولات أمريكية مباغتة، لثبر ثغرات قدرات الردع". كيف ذلك؟
وإذا كانت دواعي اضطرابات الأمن الإقليمي باعثاً على تجديد انجراف الرياض نحو واشنطن، تؤكد الشواهد مباركة الولايات المتحدة، أو حتى ضلوعها المباشر في الصراعات الدائرة، ما يفرض علامات استفهام حول دواعي الاتفاق الأمني المزمع، ومدى انعكاساته على أمن السعودية، وعلاقته المباشرة أو غير المباشرة بتطلعات إسرائيل في الإقليم، فضلاً عن أغراض إدارة ترامب من ورائه.
هل يوجد بديل حقيقي للهيكل الأمني الأمريكي في المنطقة؟
فيما تعتقد الرياض أنها باتت أكثر حذراً إزاء احتمالات تغيُّر أولويات واشنطن في المنطقة، وتوجيهها رسائل إلى واشنطن وتل أبيب حول قدرتها على تنويع شراكاتها الأمنية إذا لزم الأمر، يؤكد المدير الإداري لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مجموعة أوراسيا، فراس مقصد، أنه "لا يوجد بديل حقيقي للهيكل الأمني الأمريكي في المنطقة، لكن السعودية يمكنها التناغم مع تحولات أمريكية مباغتة، لثبر ثغرات قدرات الردع".
وفقاً لهذا التصور، يمكن لاتفاق الدفاع الرسمي بين واشنطن والرياض، صياغة نقطة تحوُّل في ميزان القوى الإقليمي، ولا سيما وسط بيئة حبلى بصراعات مستمرة في قطاع غزة، وضبابية دور إيران في المستقبل، بالإضافة إلى حرص المملكة على ترسيخ دعائم الاستقرار الأمني لحماية خطط تحولها الاقتصادي، التي تربو قيمتها على تريليون دولار، بحسب الباحث البارز في معهد دول الخليج في واشنطن، حسين إبيش.
لكن التعمُّق في قراءة انفتاح الرياض على تعدد التحالفات الأمنية، خاصةً تعزيز التقارب مع واشنطن، يسمح بانكشاف على أيديولوجيات أمنية "بعيدة عن شاشات الرادار"، تؤكد هرولة المملكة خلف منصات التأمين الدولية كافة، بغض النظر عن هويتها. ولا يمكن عزل التوجه السعودي عن مشاركة الرياض في اجتماع سري في قاعدة "العُديد" الجوية القطرية مع ممثلين عسكريين عن تل أبيب، وتحت رعاية القيادة المركزية الأمريكية.
مركز سيبراني ودمج معلوماتي مشترك
وفقاً لوثائق مسرَّبة تحقق منها الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين و"واشنطن بوست"، عُقد الاجتماع في أيار/ مايو 2024، وانفتح مسؤولون إسرائيليون خلاله على نقاشات ثنائية مع نظرائهم السعوديين وغيرهم، وناقشوا، حسب إحدى الوثائق، تصوّراً لإنشاء "مركز سيبراني مشترك للشرق الأوسط" بحلول نهاية 2026، يصبح مقرّاً للتعليم والتدريب على العمليات السيبرانية الدفاعية. فيما دعت وثيقة أخرى إلى تدشين "مركز دمج معلومات"، لتمكين الشركاء من "التخطيط السريع للعمليات، وتنفيذها وتقييمها وسط بيئة معلوماتية مشتركة".
ساهم الحضور السعودي في تعزيز التعاون الأمني مع الجيش الإسرائيلي، تزامناً مع حرب "السيوف الحديدية" في قطاع غزة. وبينما تأثر هذا التعاون بعد الغارة الجوية الإسرائيلية على الدوحة في أيلول/ سبتمبر الماضي، إلا أنه لم يغِب عن صياغة اتفاق وقف إطلاق النار الناشئ في غزة.
وتُظهر الوثائق أنّ التهديد الإيراني كان من أبرز دواعي التعاون، بعد صياغته في إطار "تحالف أمني إقليمي". ويقول مدير الأمن الإقليمي في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، إميل حكيم، إنّ "الولايات المتحدة لطالما تأمل أن يُفضي التعاون العسكري إلى تطبيع سياسي بين إسرائيل والسعودية". ويضيف: "العمل بهدوء بين القادة العسكريين في هذه الفترة، يسمح بتفادي نقاشات سياسية شائكة لدى الجانبين على مستوى الرأي العام".
الوثائق التي نشرها أيضاً "الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين"، تشير إلى دور السعودية المحوري في التعاون، ومشاركتها معلومات استخباراتية مع إسرائيل حول حزمة قضايا أمنية. وخلال اجتماع آخر عُقد خلال العام الجاري 2025، قدّم مسؤول سعودي ومسؤول استخبارات أمريكي "إحاطةً استخباراتيةً" حول التطورات السياسية في سوريا، بما في ذلك دور روسيا وتركيا والقوات الكردية هناك، فضلاً عن تهديدات جماعة الحوثي في اليمن، وعمليات تنظيم "داعش" في سوريا والعراق.
حظر التصوير ولحوم الخنزير والقشريات البحرية
تدعيماً لهدوء اجتماعات "العُديد"، حظر القائمون عليها التصوير، أو نقل أي معلومات خارج إطارها؛ حتى قوائم الطعام، راعت تقاليد المشاركين المسلمين واليهود، فمُنعت على سبيل المثال لحوم الخنزير، وكذلك القشريات البحرية.
في ظل هذا الواقع، تؤكد ثوابت البراغماتية الأمنية السعودية حتمية الدوران في الفلك الأمريكي-الإسرائيلي، إذ "تحترم" الرياض قدرات إسرائيل الأمنية، وتؤمن بقدرتها على فعل ما تشاء وقتما تشاء، دون كشف ممارستها؛ بالإضافة إلى رغبة السعوديين في غطاء أمني أمريكي، خاصةً مع قلقهم المتزايد إزاء إيران، بحسب الأستاذ في جامعة أوتاوا، والمتخصص في قضايا أمن الشرق الأوسط، توماس جونو.
ربما تدرك السعودية أكثر من غيرها، دواعي انفتاح الدولة الأمريكية بشكل عام على المنطقة، إذ لا تقتصر أهداف ترامب على المال فقط -وإن كان هدفاً رئيساً- وإنما يستكمل الرئيس الجمهوري مشروع الدولة العميقة، الذي بدأ عملياً مع انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان
ومن طرف خيط القلق الأمني السعودي، تتدفق سيكولوجية "الرهاب الغريزي"، لدى المملكة؛ فهى الدولة الأكثر شراءً للسلاح في الإقليم، لكنها تفتقر في المقابل إلى كوادر مؤهلة لتشغيل المنظومات القتالية، وربما قادها ذلك إلى الاستعانة بطيّارين إسرائيليين خلال حرب اليمن، ما يعطي نتيجةً مفادها: سلاح بلا فاعلية، وضباط لم يتلقّوا تدريبات، وليسوا على مستوى الأسلحة المملوكة. كما أنّ الترقيات في الجيش السعودي تخضع لعوامل أخرى غير الكفاءة القتالية أو ساعات التدريب، بحسب الباحث الإستراتيجي الدكتور أحمد عز الدين.
إسرائيل رفضت اتفاقية دفاع مشترك مع السعودية في 2014
يقول عز الدين، لرصيف22: "القلق والخوف الأمني قادا السعودية حتى إلى عرض توقيع اتفاق دفاع مشترك مع إسرائيل عام 2014، لكن مدير معهد الاستراتيجية الصهيوينة التابع لجامعة بار إيلان، الدكتور أفيعاد باكشي، رفع توصياته الرافضة حينئذ إلى المستويات السياسية والأمنية في تل أبيب، وعزا ذلك إلى أنّ السعودية لا تفي بتحالفاتها العسكرية كما فعلت مع العراق".
أما ما يتعلق بمسألة "تعدد التحالفات الأمنية"، ولا سيما تلك التي أبرمتها السعودية مع باكستان مؤخراً، فيحصرها عز الدين في نطاق "الصيغ الهشة"، مشيراً إلى أنها لا تنطوي على قيمة من الناحية العملية. يدلّل على ذلك بأنّ السعودية لم تشارك في إطار تحالفها الأمني مع إسلام أباد ببيان واحد خلال الاشتباكات الأخيرة بين باكستان والأفغان، ما يؤشر، بمنظوره، على أن علاقات الرياض مع الدولة الباكستانية، أو حتى مع الروس والصينيين، لا تتجاوز أنصاف العلاقات، وتعتمد في مضمونها العام على المال السعودي.
ويضيف: "أخفق السعوديون قبل ذلك في دمج الباكستانيين في حرب اليمن، واستدعوا حينها رئيس الأركان الباكستاني لهذا الغرض، لكن الرجل حذَّر في تقديراته بعد العودة إلى بلاده من مغبة التورط في الأزمة، ولا سيّما في ظل تمدد أغلبية شيعية داخل المؤسسات الأمنية الباكستانية.
"وحين انتقل الإسرائيليون إلى جزيرة سوقطرة اليمنية، ووضعوا فيها وحدات وأجهزة تنصّت بالغة التطور، انفرد الباكستانيون وهم على بعد 4،200 ميل بحري تقريباً من اليمن، ببيان مناوئ لهذه الخطوة على اعتبار أنّ انتشار الإسرائيليين في الجزيرة يهدد بدوره الصينيين في جزر باكستانية يمر من خلالها مشروع الحزام والطريق الصيني"، والكلام لعز الدين.
الإستراتيجية الأمريكية تولِّي وجهها شطر الشرق الأوسط
ربما تدرك السعودية أكثر من غيرها، دواعي انفتاح الدولة الأمريكية بشكل عام على المنطقة، إذ لا تقتصر أهداف ترامب على المال فقط -وإن كان هدفاً رئيساً- وإنما يستكمل الرئيس الجمهوري مشروع الدولة العميقة، الذي بدأ عملياً مع انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان. حينئذ ظنّ مراقبون أنّ الاستدارة الإستراتيجية الأمريكية تولِّي وجهها صوب دول آسيا، فيما أثبت الواقع تفرُّغ الولايات المتحدة للشرق الأوسط، خاصةً في ظل اختلال موازين القوة في هذه المنطقة، وسهولة التمدُّد فيها قياساً بأقاليم أخرى، فضلاً عن تسديد الآخرين كامل تكلفة العمليات الأمريكية.
وقد يؤكد ذلك أنّ مشروع ترامب جيوستراتيجي في المقام الأول، ويهدف إلى السيطرة والهيمنة على المنطقة؛ فما يجري إقليمياً هو مجرد تهدئة موقوتة، ذلك أنه لم يتحقق من أهداف واشنطن في المنطقة سوى جزء من فصل واحد، ويؤشر على ذلك واقع التحولات المفصلية في الذات الأمريكية، وهو ما أوضحه قرار وزير الحرب الأمريكي بيت هيغسيث، طرد مراسلي وصحافيي وزارة الحرب (البنتاغون) بعد رفضهم توقيع التزام يحول دون نقل ما يجري في الوزارة حتى لو كان مصرّحاً به، ما ينعكس بشكل مباشر على سرديات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
ومع مشاركة الرياض في اجتماعات الإدارة الأمريكية الأمنية في قاعدة "العُديد" وغيرها، وتمسكها بتلابيب حليفة واشنطن الأهم إقليمياً (إسرائيل)، يبدو أنّ السعوديين لا يقفلون الباب على المشروع الأمريكي الجديد، وتحوّلهم في هذا الإطار إلى رقم في معادلة الرعاة، بغض النظر عن هوية قاطن البيت الأبيض، ولا سيّما أنّ مشروع الاتفاق الأمني مع واشنطن كان مطروحاً بقوة إبان إدارة جو بايدن، لكن الأطراف الضالعة في التسوية لم تتمكن من احتواء الإشكالية، أو بالأحرى عجزت عن الالتفاف عليها.
هل يمكن توقيع اتفاقية أمنية دون مشاركة إسرائيل؟
برغم ذلك، تتنافر الآراء عند الإجابة عن سؤال: هل تستطيع الولايات المتحدة والسعودية التوقيع على اتفاقية أمنية دون مشاركة إسرائيل؟ فيما يرى خبير العلاقات الدولية والشرق الأوسط، ستيفن كوك، أنّ "التوصل إلى اتفاق من دون إسرائيل أمر ممكن وحتى مفيد بالنسبة للسعودية"، أبدى بلال صعب، وهو أستاذ في العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون، قناعةً "بأنّ أيّ اتفاق أمريكي-سعودي بعيداً عن إسرائيل هو مجرد وهم".
ينبّه عز الدين إلى أنه "إذا كان الداخل الإسرائيلي يرفض مقايضة التطبيع مع السعودية بقبول دولة فلسطينية، فالداخل السعودي يعارض الفكرة هو الآخر من الأساس، حتى عبر تمريرها في إطار ما يُعرف بـ"اتفاقات أبراهام"
وتنحصر نقطة خلاف الخبيرين في مدى قبول إسرائيل بطلب السعوديين الاعتراف بدولة فلسطينية؛ ففي حين يؤكد كوك أنّ "قبول إسرائيل بدولة فلسطينية كان أكثر سلاسةً نسبياً قبل حرب "السيوف الحديدية" في قطاع غزة، وكان يمكن الاستفادة منه بإشراك إسرائيل في اتفاق أو آخر بين الرياض وواشنطن"، يستبعد صعب ذلك تماماً، مشيراً إلى "استحالة تمرير الخطوة في دولة، يعارض ثلثا سكانها إعلان دولة فلسطينية، ويتحوَّط رئيس حكومتها لتحصين نفسه سياسياً".
وبين الخبيرين، يطرح عز الدين رؤيةً مغايرةً، تدور في مضمونها حول نجاح السعوديين والأمريكيين والإسرائيليين في الالتفاف على إشكالية التطبيع، إذ اكتفت الأضلاع الثلاثة بـ"العلاقات الأمنية الهادئة"، وترتيب الأوراق كافة في هذا الخصوص، كما حدث في قاعدة "العُديد".
ويضيف: "إذا كان الداخل الإسرائيلي يرفض مقايضة التطبيع مع السعودية بقبول دولة فلسطينية، فالداخل السعودي يعارض الفكرة هو الآخر من الأساس، حتى عبر تمريرها في إطار ما يُعرف بـ"اتفاقات أبراهام"، التي سبق وانضمت إليها الإمارات المتحدة، والبحرين، والمغرب".
يخلص عز الدين، إلى أنّ "هناك مقاومةً داخليةً سعوديةً لهذه المسألة، وهو ما يعطي انطباعاً بأنّ الأرض ليست ممهدةً داخلياً -وليس إقليمياً فقط - لتبنّي هذه الفكرة؛ ولو تمكنت السعودية من تفادي الصراع الداخلي، ما ترددت في التجاوب مع الشروط الأمريكية، للحصول على طمأنينة أمنية بشكل أو بآخر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



