في المجتمعات العربية، لا تزال الدورة الشهرية من المواضيع المحظورة، تُحاط بالصمت، ولا يُتحدّث عنها سوى في دوائر ضيّقة، وغالباً بعبارات غير مباشرة.
تمرّ الفتيات في بدايات البلوغ بتجربة مشوَّشة ومربكة، في ظل تغييب شبه تام للمعلومات حول ما يجري في أجسادهنّ، حيث تشعر كثيرات من الأمّهات بالحرج أو القلق عند الحديث عن الموضوع، ومنهن من يؤجّلن هذا النقاش أو يتجاهلنه كليّاً، إمّا خجلاً أو بسبب غياب الوعي بأهمية تمكين الفتيات من فهم أجسادهنّ والتغيّرات التي تطرأ عليها.
لكن، هل فكّرنا يوماً كيف يمكن شرح هذا التغيير الطبيعي للفتيات اللواتي يعانين من صعوبات حسّية، مثل اضطرابات طيف التوحّد، أو متلازمة داون، أو اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه؟ كيف يمكن إيصال المعلومة إليهنّ بطريقة آمنة وواضحة ومناسبة لاحتياجاتهنّ؟
تواجه الطفلات ذوات الصعوبات الحسية تحديات متعددةً في بلد مثل لبنان، في ظل غياب سياسات رعاية متخصصة، ونقص حاد في الخدمات النفسية والاجتماعية المجانية التي غالباً ما تكون محصورةً في مراكز خاصة بتكلفة مرتفعة، ما يجعلها بعيدة المنال عن بعض العائلات.
بجانب ذلك، يفتقر الواقع إلى مساحات آمنة وبيئات حاضنة تراعي خصوصية الطفلات واحتياجاتهنّ الفريدة. ضمن هذا السياق، يصبح الحديث عن أبسط حقوقهنّ، مثل فهم التغيّرات الجسدية الطبيعية أو استخدام فوطة صحية مناسبة، أمراً معقّداً، يتطلّب مبادرات جريئةً لكسر هذا الصمت المجتمعي، وتقديم الدعم الحقيقي، وتمهيد الطريق نحو بيئة أكثر عدالةً.

مبادرة لكسر الصمت
انطلاقاً من هذه التحديات، أطلقت مبادرة "Sparks" حملةً بعنوان "We Bleed Too"، بالتعاون مع منظمة "marsa" ومعهد العلاج الإنشغالي في جامعة القديس يوسف في بيروت، وذلك في 28 حزيران/ يونيو 2025.
تضمنت المبادرة إصدار قصة حسّية بعنوان "تغيير الفوطة الصحية"، تهدف إلى مساعدة الأخصائيين/ ات، المعالجين/ات بمختلف تخصصاتهم/ نّ، والأهالي، على الوصول إلى أدوات تربوية فعّالة تُسهّل شرح الدورة الشهرية للطفلات ذوات الصعوبات الحسّية.
تواجه الطفلات ذوات الصعوبات الحسية تحديات متعددةً في بلد مثل لبنان، في ظل غياب سياسات رعاية متخصصة، ونقص حاد في الخدمات النفسية والاجتماعية المجانية التي غالباً ما تكون محصورةً في مراكز خاصة بتكلفة مرتفعة، ما يجعلها بعيدة المنال عن بعض العائلات
تهدف القصة إلى تمكين الطفلات من فهم التغيّرات الجسدية التي تمرّ بها أجسادهنّ، والتعامل مع المشاعر المصاحبة لهذه المرحلة، والتدرّب على كيفية تغيير الفوطة الصحية بطريقة تراعي احتياجاتهنّ الخاصة.
كما تضمّن النشاط طاولة حوار شاركت فيها الأخصائية النفسية كلوي ناصيف، والأخصائية الحسي الحركي ماريا داميان، ورئيسة جمعية Lebanese Down Syndrome Association السيدة شانتال خوري، والسيدة رندا بدر وابنتها لما وتار، كأعضاء في الجمعية.
ناقش الحاضرون أفضل الطرائق لمساعدة الطفلات على التعرف إلى مرحلة ما قبل البلوغ، ومرافقتهنّ خلالها للوصول إلى الاعتماد على النفس، كما شاركت السيدة رندا بدر تجربتها مع ابنتها لما، التي لديها متلازمة داون خلال أولى مراحل البلوغ.
كما تمّ توزيع القصة على الحاضرين/ ات، وشارك فريق "marsa" في توزيع فوط صحية قابلة للغسل مجاناً.

من الشرارة إلى المبادرة
يقول المعالج الانشغالي هادي فقيه، وهو محاضر ومتخصص في قضايا التصميم التربوي مع الفئات المهمّشة، لرصيف22: "غالباً ما نغفل عن مواضيع شديدة الأهمية في قطاع التأهيل، وتُعامَل على أنها تابوهات لا يُتحدث عنها، برغم أثرها المباشر على كرامة الأفراد وحقوقهم. من هنا نشأت لديّ فكرة إطلاق مبادرة صغيرة، تنطلق من داخل الحقل المهني نفسه، وتفتح مساحات للكلام حول ما يُسكَت عنه".
هكذا وُلدت مبادرة "Sparks"، أي "شرارات"، وهي مبادرة شبابية من جيل "GEN-Z" تتطرّق إلى مواضيع تتعلق بالعدالة الصحية، في إشارة إلى تلك الشرارة التي تُشعل نقاشاً أو تفتح باباً مغلقاً.
ومن خلال التعاون مع جمعية "marsa" ومعهد العلاج الإنشغالي في جامعة القديس يوسف في بيروت، تم اطلاق حملة "We Bleed Too"، لتسليط الضوء على تجربة الطمث عند الفتيات اللواتي لديهنّ صعوبات واحتياجات حسية مختلفة، مثل اضطرابات المعالجة الحسية أو طيف التوحّد أو غيرهما من الصعوبات.
ويضيف فقيه: "تسعى المبادرة إلى رفع الوعي حول حقوق هؤلاء الفتيات وتوفير أدوات عملية يمكن استخدامها من قبل الأهالي والمعالجين والمعالِجات. من بين هذه الأدوات، قمنا بإعداد قصة حسّية تفاعلية بعنوان 'تغيير الفوطة الصحية'، مكتوبة باللغة اللبنانية، تتناول موضوع الدورة الشهرية بطريقة مبسّطة ومناسبة للأطفال، مع مراعاة المتطلبات الحسّية المختلفة".
تم اطلاق حملة "We Bleed Too"، لتسليط الضوء على تجربة الطمث عند الفتيات اللواتي لديهنّ صعوبات واحتياجات حسية مختلفة، مثل اضطرابات المعالجة الحسية أو طيف التوحّد أو غيرهما من الصعوبات
القصة مطبوعة برسوم صديقة للأطفال، وتُرفَق بمجموعة من الأدوات الحسية التي تُفعّل الحواس المختلفة كالشمّ، واللمس، والتذوّق، والبصر، مثل العجين الحسّي، وروائح محددة، ومواد بصرية. الهدف منها هو تسهيل الشرح بطريقة آمنة للفتيات، لمساعدتهنّ على فهم التغييرات الجسدية والتعامل معها بثقة.
ويتابع: "اليوم، استهدفنا من خلال هذا النشاط المعالجين والمعالِجات من مختلف المناطق اللبنانية -من الشمال والجنوب والبقاع- ليكونوا شركاء في إيصال هذه المادة إلى مؤسساتهم ومراكزهم. في المرحلة الأولى، وُزّعت القصة الحسّية على العيادات والمراكز المختصة، لكننا نطمح إلى أن تصل أيضاً إلى الأهالي، خصوصاً من لا يملكون القدرة على تسجيل بناتهم في جلسات خاصة بسبب الكلفة المرتفعة"، مشيراً إلى أنّ الهدف هو أن تتحوّل هذه القصة إلى أداة تدخل في المناهج المدرسية والمراكز الداعمة، مثل جمعيات متلازمة داون، لتكون في متناول الأطفال وذويهم.
ويختم فقيه بالقول: "ما تهمّني الإشارة إليه هو أنّ مشكلات المعالجة الحسية لا تقتصر فقط على من لديهم 'تشخيصات'، بل يمكن أن تطال أي شخص بدرجات مختلفة. هناك من يحبّ رائحة البنزين أو لا يحتمل الأصوات العالية... جميعنا لدينا خصائص حسّية مختلفة، لكن حين تتفاقم أو تؤثر على حياتنا اليومية، تصبح حاجةً تستحق الفهم والدعم، لا الوصم".

لغة آمنة للحديث مع ابنتي
في حديثها إلى رصيف22، تقول ندى الأخرس، وهي أمّ لطفلة تبلغ من العمر تسع سنوات وتعاني من متلازمة داون: "بحكم تخصّصي في تكنولوجيا الطب، أدرك جيداً مدى حساسية موضوع الدورة الشهرية، وأهميته، وكم هو مهم أن نحضّر بناتنا له بطريقة صحيحة، خاصةً عندما لا يكون هناك دعم كافٍ أو خطاب مجتمعي واضح تجاهه".
وتضيف: "ابنتي لم تدخل بعد مرحلة البلوغ، لكنها من حيث الوعي والإدراك لا تزال تقارب في سلوكها ووعيها طفلةً في الخامسة. في العادة، أمهات كثيرات لا يتحدثن مع بناتهنّ عن الحيض إلا بعد أن يبلغن 11 أو 12 سنةً، عندما تبدأ العلامات بالظهور. أما اليوم، وبفضل هذه المبادرة، فبدأتُ أُعيد التفكير. بدأتُ أُلاحظ تغيّرات جسديةً على ابنتي، مثل بدء نمو الثدي، وأُحاول أن أشرح لها أنّ هذه التغيّرات طبيعية، وأنّ هناك أشياء أخرى ستحدث لاحقاً. أحاول أن أُهيّئها بلغة مبسطة وآمنة".
وتختم ندى الأخرس: "بالنسبة لي، قصة 'تغيير الفوطة الصحية' التي أطلقتها مبادرة Sparks، كانت خطوةً مهمّةً جدّاً. هذا النوع من الموارد شبه غائب. بإمكاننا أن نجد الكثير من المعلومات عن مواضيع أخرى على الإنترنت، لكن حين يتعلّق الأمر بالحيض، وبشكل خاص عند الفتيات من ذوات الإعاقة، لا أحد يتحدث وكأنّ موضوع التوعية الجنسية لا يُسمح بطرحه".

"ما يحدث طبيعي"
تُخبر رندا بدر، والدة لما وتار، عن تجربتها مع ابنتها التي لديها متلازمة داون، فتقول: "كانت لما لا تزال صغيرةً (تسع سنوات ونصف)، عندما بلغت ولم أكن قد حضّرتها مسبقاً، لكنني حرصت على ألّا تشعر بالخوف. عندما استيقظت صباحاً وذهبت إلى الحمّام، تفاجأت ولم تعرف ماذا تفعل. غسلت نفسها ونشّفت ملابسها، لكنها حين أرتني آثار الدم، عرفت أنها بدأت أول دورة شهرية لها. أخبرتها بهدوء أنها كبرت وأن ما يحدث طبيعي. قلت لها: 'صرتِ صبيةً مثل ماما'. وأريتها كيف تستخدم الفوطة الصحية، وطمأنتها أن هذا سيحدث كل شهر. جعلتُها لحظة حبّ لا لحظة خوف".
وتضيف لرصيف22: "لحسن الحظ، كانت التجربة في الصيف، من دون مدرسة، وكنت متفرغةً في المنزل. جلست معها وعلّمتها كيف تنظّم الموضوع: تغيير الفوطة كل ساعتين، غسل اليدين، والتخلّص من الفوطة بطريقة نظيفة داخل ورق في سلّة المهملات. كان وجودي بجانبها في تلك اللحظة ضرورياً وأساسياً".
تقول مؤسسة ومديرة معهد العلاج الانشغالي في جامعة القديس يوسف، والأستاذة الجامعية بروفيسور كارلا متّى أبي زيد: "طوال هذه السنوات، كان هدفنا ألّا نكتفي بتقديم مناهج تقليدية، بل أن نواكب حاجات المجتمع والمجموعات التي نعمل معها. لاحظنا تكرار تساؤلات طلابنا خلال التدريب الميداني، خصوصاً حين يعملون مع فتيات: 'ماذا نفعل إذا بدأت الفتاة بالحيض؟ كيف نُرافقها؟'. كنا نفتقر إلى أدوات تربوية تعالج هذا الجانب الحساس، خصوصاً عندما يكون خارج المنهج الدراسي".
وتضيف: "انبثقت فكرة القصة الحسّية حول 'تغيير الفوطة الصحية' من مبادرة قام بها كل من ماريا ضومط وهادي فقيه، وهما من خرّيجي الجامعة، ويعملان معنا اليوم. دعمنا هذه المبادرة بكل طاقتنا، ونتعاون أيضاً مع جمعيات عدة كجمعية متلازمة داون، التي كانت حاضرةً بقوة خلال هذا النشاط".
"كانت لما لا تزال صغيرةً (تسع سنوات ونصف)، عندما بلغت ولم أكن قد حضّرتها مسبقاً، لكنني حرصت على ألّا تشعر بالخوف. عندما استيقظت صباحاً وذهبت إلى الحمّام، تفاجأت ولم تعرف ماذا تفعل. غسلت نفسها ونشّفت ملابسها، لكنها حين أرتني آثار الدم، عرفت أنها بدأت أول دورة شهرية لها. أخبرتها بهدوء أنها كبرت وأن ما يحدث طبيعي"
وتتابع أبي زيد لرصيف22: "برغم بساطة هذه الخطوة، فإنها ضرورية وأساسية، لأنها تفتح باباً للحديث عن مواضيع لا تزال تُعدّ محرّمةً في كثير من البيئات، كالتربية الجنسية أو البلوغ، حتى بالنسبة للأطفال من دون صعوبات".

على مستوى التوصيات، تقول بروفيسور كارلا: "نحن نؤكد من جديد أنّ مسار الدمج الحقيقي للأشخاص ذوي الإعاقة يجب أن يشمل كل جوانب الحياة، لا التعليم فحسب. في الجامعة، لدينا برنامج خاص لدعم الطلاب من هذه الفئة، ونعمل على تطوير بيئة شاملة".
وتختم بروفيسور كارلا متّى أبي زيد حديثها بالقول: "صحيح أنّ هناك قوانين ومؤسسات تُعنى بالأشخاص ذوي الإعاقة، لكن التطبيق الفعلي على الأرض لا يزال يحتاج إلى جهد. الوصول إلى الطبيب، الذهاب إلى مطعم، أو ممارسة أبسط الحقوق اليومية، يجب أن تكون متاحةً للجميع. في معهدنا الصغير، نحاول أن نُحدث فرقاً، وإن عبر دفعة صغيرة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.