طائرة ورقية وعائلة وعشب أخضر…
في إحدى حدائق العاصمة طرابلس، تركض طفلة على هضبة خضراء تُهدي الطائرة للريح كي تعانق عنان السماء. المشهد اعتيادي للغاية، وغالباً في ظروفه الطبيعية يمنحنا طاقةً ما، فكل محاولات هذه الطفلة تمثّل تطلعاً ما، أو هكذا تجري الأمور في الأحوال العادية في ليبيا!
لا شيء لافت في هذا الحدث الصغير سوى ارتداء الطفلة حجاباً بقياس كبير يغطّي كل معالم جسدها تقريباً.
قصة ابنة الجيران
منذ سنوات ترزح الفتيات الصغيرات تحت مفهوم جديد يختصره الليبيون بالعبارة: "نعودوها ع الحشمة من صغرها".
كنا جيراناً بالصدفة لعائلة ما، وتزامنت هذه الجيرة مع موجة عنيفة من صحوة دينية كانت ضحيتها فتاة في سنّ المدرسة غير مدركة لخطورة ميلادها هنا، في بلد يُغفل شعبه المنطق أمام أجساد الإناث.
فمع تدفق التلميذات إلى المدارس صباحاً، نلحظ مدى خشية المجتمع "الجديد" من ظهور المفاتن المتخيّلة لهذه الأجساد الصغيرة التي لم تدقّ الأنوثة بمعناها الفج أبوابها بعد.
قادني بهتان هذا المشهد إلى تذكّر ابنة الجيران، التي كانت تدرس في كلية ضابطات الشرطة في العاصمة، تحديداً في شارع عمر المختار، الصرح الذي كنا نراه أيقونةً ورمزاً لحضور المرأة، في مواقع يغضب المجتمع من تواجدها فيها.
في بلد يُغفل شعبه المنطق أمام أجساد الإناث. نلحظ مع تدفق التلميذات إلى المدارس صباحاً، مدى خشية المجتمع "الجديد" من ظهور المفاتن المتخيّلة لهذه الأجساد الصغيرة التي لم تدقّ الأنوثة بمعناها الفج أبوابها بعد
لكن ما يجعلها -أي ابنة الجيران- مؤهلةً كي تخلّد في الذاكرة، زيّها العسكري ذو اللون الأخضر، والأهم أنها لا تضع حجاباً، مع ترداد تساؤلات مخيفة حولها:
تُرى هل تنكّرت لذلك كله؟
هل كانت تعود إلى المنزل يوم الخميس، لمكوثها في سكن الكلية الداخلي.
هل اختبأت؟
بعد وقت تلاشت الكلية الرمز، وحُوّلت إلى منتزه أصمّ بألوان بشعة، تؤكد تردّي ذوق الحكّام الجدد ونظرتهم المريبة إلى الفتيات الصغيرات، فما بالك بمن قد اكتملت لديهنّ تضاريس الأنوثة؟
خطبة الصغيرتين!
في الأسواق، وأيضاً في أوقات اللعب، يلعب حجم القماش دوراً مفصلياً في حياة الصغيرات، وعلى سبيل تخفيف وطأة هذه الظاهرة الدخيلة على المجتمع الليبي.
تحدّث أحدهم عن إعجابه بفتاتين ترتديان "جلباباً وحجاب شعر"، كانتا -بحسب ظنّه- مع والدتهما. صديقنا كان غرضه "شريفاً"، وطلب من والدة الفتيات المزعومة وسيلةً للتواصل كي يطرق الباب فهو ينشد "الحلال"، لتكون المفاجأة المدويّة أنّ إحدى الفتيات تدرس في الصف السابع والأخرى أصغر أو أكبر بسنة تقريباً. أما الفتاة التي بدت بهيئة أمّ للطفلتين، فاتضح أنّها من جيل (Z)، غير أنّ هيئتها أوحت بانتمائها إلى عالم الأمهات.
كيف لمجتمع شنّف أسماعنا بخلفيته المحافظة أن تغريه أجساد صغيرة؟ نجت الليبيات بطريقة ما ومؤقتة من بعض الزوابع، لكن الطريق إلى كابول يبدو سالكاً أكثر من أي وقت مضى.
وبعيداً عن قصة صديقنا الذي يرغب في زوجة "طريّة"، ولا يهمنا ذلك، السؤال هنا عاد بي إلى سنوات طفولتي حين كنتُ في سنّ الطفلتين نفسها.
وقتذاك، كان الشارع وتسلّق الأشجار ومشاكسة الجيران، قمة المتعة لدينا، بينما كانت الشمس تداعب أجسادنا وتتحكم نسائم الصيف في تسريحات شعورنا، حينها لم يلحقنا شخص ما بغرض الزواج لأننا كنا نبدو أطفالاً، لغةً واصطلاحاً.
"فتيات الجنّة"
يصعب تحديد من أطلق مسار الخطوة الأولى. إنها السنوات التي تلت الأحداث التي شهدتها ليبيا في العام 2011، أو ربما قبل ذلك بشكل مقنّن!
المكان جامعة طرابلس العام 2012، وبالتحديد في كلية القانون التي قلّلت الملصقات التي تُحرّم لباساً وتدعو لآخر من مكانتها. من هناك بدأت الرحلة، ولا ننسى طرد الفتاة غير المحجبة من مراسم حفل تسليم واستلام المجلس الوطني الانتقالي، وهي "هيئة حكمت ليبيا لفترة وأسست لوجهة نظر دينية للدولة ارتكزت على إعلان رئيسها في خطاب 'التحرير' لإطلاق العنان للغرائز عبر السماح للرجال بالتعدد دون إذن الزوجة"، الأمر الذي أرعب قلوبنا وهيّأ البلاد لمزيد من قطع القماش، لكن وقتها لم يصل هذا المدّ إلى الأجساد الصغيرة.
كل الأحداث، وحتى حملات الاعتقال لبعض المؤثرات غير المحجبات، كانت أعمالاً عبثيةً يمكن عدّها رشقات رصاص في الهواء "برغم فظاعتها"، بالمقارنة مع تبنّي الدولة على مستوى وزير داخليتها، الخطاب.
حين قفز الوزير المتحمس في الهواء مطالباً زميله وزير التعليم بفرض الحجاب على التلميذات الصغيرات في عمر التسع سنوات، قالها بعنفوان لا يُنسى، وانفجرت البلاد بل رُجّت رجّاً بين من عدّوا ذلك ترسيخاً للدين -وهم الأغلبية- وبين قليلات التزمن البيوت نظراً إلى حالة السفور التي قد يحاكَمن شعبياً بسببها.
الطريق إلى كابول
فكيف لمجتمع شنّف أسماعنا بخلفيته المحافظة أن تغريه أجساد صغيرة؟ نجت الليبيات بطريقة ما ومؤقتة من هذه الزوبعة، لكن الطريق إلى كابول يبدو سالكاً أكثر من أي وقت مضى.
لن نتطرق هنا إلى أيّ فتاوى تتعلق بالحجاب، حيث تدور الفكرة في فلك الخوف! الخوف من أنوثة غير مؤكدة ولم يحِن وقتها بعد.
أما اجتماعياً، فقد حافظت الأمهات في ليبيا على نمط تربية صارم يتعلق بمدى حرية الإناث، لكن على مستوى الراشدات منهنّ، أما في ما يخص الصغيرات فكل ما ينصحن به "زمانات"، طريقة جلوس محددة، بحيث لا يرى أحد ما عورتها أو ربما تهويل عواقب أخذ شيء من أحد الغرباء أو ركوب سيارة مجهولة.
سابقاً، لم تكن البضاعة المتعلقة بالحجاب وتوابعه مزدهرةً كثيراً في طرابلس، باستثناء شارع واحد كان يشتهر ببيع كل ما يخصّ الملابس القادمة من الخارج... وفي إحدى فترات الجنون التي أصابت البلد، أُصدرت بحقه فتوى تحرّم بيعه علناً!
ما عدا ذلك لم يكن مطروحاً -بل لم يخطر على بال الجيل الأقدم من الأمهات اللواتي ارتدين "الردي"، وهو اللباس التقليدي الليبي الذي اندثر مؤخراً- أن تصبح الفتيات الصغيرات مغريات ويجب حجبهنّ.
معلّمات بتسريحات شعر وتنانير قصيرة
في بداية الألفية، وبرغم المدّ الديني العارم الذي اجتاح ليبيا، إلا أن اللباس ومفهوم اختصار الاحتشام في تغطية الرأس، لم يكونا شغل الليبيين الشاغل. كنا نلمح حين نتجول حتى في الأزقة الصغيرة في القرى النائية سيدات لا يضعن غطاء الرأس، في المدارس مثلاً كانت المعلمات بتسريحات شعر وتنانير قصيرة وكنّ رائعات حقاً.
واليوم يتداول الليبيون صوراً للجامعات الليبية في الثمانينيات وكأنها ماض سحيق، فهل يمكن ربط ذلك بالاقتصاد؟ بعد أن باتت العباءة رمزاً للحشمة وبعضها يباع بأسعار باهظة، تشارك في ذلك مؤثرات يشددن دوماً على مقدار "الراحة التي يشعرن بها بفضل العباءة". فهل هو جشع التجار أو عربدة الجماهير عندما لا تجد رادعاً يحدّ من سخطها على كل ما هو أنثوي وأن كان بقياس صغير؟
نعم… ربما هو الاقتصاد
عند مشاهدة "ريل" على إحدى منصات التواصل الاجتماعي، يربكني تشديد المعلنة على لفظ "محتشم"، ككلمة مفتاحية تدخل المتحدثة إلى قلوب الجماهير وتسوّق بشكل فوري للبضاعة.
سابقاً، لم تكن البضاعة المتعلقة بالحجاب وتوابعه مزدهرةً كثيراً في طرابلس، باستثناء شارع ربما كان يُدعى "الأول من سبتمبر"، وكان يشتهر ببيع كل ما يخصّ الملابس القادمة فكرتها من الخارج، بخلاف ذلك كانت مستلزمات الحجاب تباع بشكل غير منظم على الهامش. وفي إحدى فترات الجنون التي أصابت البلد، أُصدرت بحقه فتوى تحرّم بيعه علناً!
صلب الموضوع يعود بنا إلى قيام علامة شهيرة لبيع مستلزمات الحجاب في ليبيا بتوزيع أغطية رأس مجانية لتلميذات المدارس، وربما يعود ذلك لحملة تسويق ساذجة، لكن السياق الأعمق يورّطنا في السؤال التالي: هل سيكون هناك موسم تخفيضات على سنّ التسع سنوات المذكورة؟ بعد فترة قد تلعب فكرة ما لعبتها النجسة حتى على الأجساد الأصغر؛ الأطفال في ليبيا!
حين قام رئيس الوزراء بتكريم الطالبة الأولى في الشهادة الثانوية، لم يشدّ عدداً كبيراً من الشعب في مشهد التكريم سوى عدم ارتدائها الحجاب!
يجرّني الحديث عنهم إلى عنق الزجاجة التي يتحدث عنها السياسيون في ليبيا دائماً: "علقنا في هذا العنق منذ أن اكتشفت النخب هذا المصطلح". وقد يطالهم -أيّ الأطفال- ركام الفوضى، لكن لماذا لم تطرأ أي تغييرات على مظهر الأولاد، بينما تجلّت مظاهره بوضوح شمولي على مظهر الفتيات؟
دانية تواجه وحدها الحشود الغاضبة
التفوق في ليبيا ليس مدعاةً للفخر، إذا كانت الفتاة غير محجبة، ففي منتصف شهر آب/ أغسطس الماضي، قام رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة، بزيارة تكريم لبيت الطالبة "دانية صلاح الدين"، المتحصلة على الترتيب الأول على مستوى القسم الأدبي في الشهادة الثانوية، والذي شارك بدوره الصور والخبر على منصات الدولة الرسمية.
كل ما سبق لا يحمل أي صبغة مهمة؛ تفوّق يقابله تكريم، لكن عدداً جيداً من الشعب لم يشدّه في مشهد التكريم سوى عدم ارتداء دانية الحجاب، وسعي سنوات من الدراسة يُشطب هكذا ببساطة.
المعادلة جليّة هنا، فلا قيمة للتعليم أمام غياب غطاء الرأس، إذ تمارس الجماهير الليبية لعبةً قذرةً منذ سنوات عبر اختلاق مسطرة أخلاق تمرّ عليها أي فتاة تتصدر المشهد، وإن كانت وزيرةً.
فمنذ شروعها في ممارسة عملها، شنّت الحشود نفسها حرباً غير مبررة على وزيرة الخارجية الليبية السابقة "نجلاء المنقوش"، لا تتعلق بعملها بل راقبت الحشود تسريحات شعر الوزيرة قبل أدائها، إلى أن انتهت قصتها بعبارة: "ما ربح قوم ولّوا أمرهم امرأةً".
لسنا في معرض الحديث عن مدى قوة الحشود في الرصد، فالطالبة وعائلتها ربما أغلقوا باب المحبة تجاه أي صوت ليبي، بل أحاول بفوضى تعتريني من حجم التهم التي تسوقها الحشود نفسها نحو أي "ضلع أعوج" يتمرد.
لا مجال لصدّ العدوان. يسعفنا هنا الانحناء للعاصفة فحسب، فالحشود نفسها تصدّق أنّ منطقةً ما في ليبيا قد حلّ عليها غضب سكان العالم السفلي بسبب سرقة بعض الشبّان كنوزاً مملوكةً حصراً لأصحاب "بِسم الله"، وكأنّ ذلك قصة ما قبل النوم يرويها أب لطفله كي يعلّمه عواقب "الجشع"، فحوصرت تلك البلدة الملعونة بالحرائق والنجدة.
من المفيد جداً هنا التذكير بجدوى علاج نبات "الشيح مخلوطاً بالقهوة" لمرض مستعصٍ مثل السرطان! هل هو سلوك عفوي فرضته حالة عدم اليقين التي سادت منذ زمن أو أنّ قوى خفيّةً تستنزف مخزون الشعب من المنطق لصالح سيطرة مطاردات القرون الوسطى! ويبدو أنها قد نجحت حقاً في ذلك.
تنحدر مجموعة كبيرة من القوانين العرفية السائدة في ليبيا من عقلية الأسلاف ونظرتهم الجامدة إلى المرأة، وهذا مفهوم. فالبلاد تُعدّ مُتأخرةً للغاية عن كل ما هو مدني، بقرار مستقلّ يتشبث المجتمع الليبي بسلوكيات يعدّها ضروريةً حفاظاً على نقاوة النسل الفريد، إذ يشترك الليبيون "برغم تشظيهم الاجتماعي مؤخراً"، في قداسة معركة حماية المجتمع من الانحراف، ويكون ذلك أكثر تشدّداً في ما يخصّ النساء. إذاً، لا أمل لك في النجاة وأنت جزء من هذه المنظومة، وهذا يفسر تبنّي المرأة الليبية خطاباً معادياً لكرامتها بحجج تدحض إنسانيتها.
تزامناَ مع قرب بدء العام الدراسي، نشرت بعض المدارس في طرابلس منشورات توجّه فيها أولياء الأمور بشروط الزيّ المدرسي للفتيات، بل إن مدرسةً في إحدى ضواحي طرابلس قد حققت "اختراقاً" مهماً، بأن طلبت أن تكون العباءة هي الزيّ الرسمي للطالبات.
يصعب في ضوء حالة الضياع السرمدي التي يعيشها البلد، تفسير هذا العبث. في خضم كل ذلك، ألبست بعض الصفحات على منصة فيسبوك، الطالبة المتفوقة حجاباً افتراضياً.
جيّد إذاً… فلنشكر الله على هذه النهاية الروحانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



