قبل أيام، على الطريق السريع في العاصمة الليبية طرابلس، كانت الصحافية والإعلامية زينب تربح تقود سيارتها في طريقها إلى العمل، لكنها فوجئت على غير العادة بشاب يقود مسرعاً نحوها محاولاً دفعها مراراً وتكراراً على جانب الطريق فيما يوجّه إليها تهديدات وألفاظ نابية ويشير بيده إلى شعرها المكشوف.
هذه الحادثة لم تكن فريدة من نوعها بالنسبة لزينب أو غيرها من الليبيات غير المحجّبات اللاتي يواجهن مضايقات تزايدت وتيرتها خلال الأيام الأخيرة بعدما فجّر وزير الداخلية المكلّف في حكومة "الوحدة الوطنية"، عماد الطرابلسي، جدلاً ما تزال أصداؤه تتردّد في جميع أرجاء ليبيا الغارقة في انقسامها السياسي منذ أكثر من عقد من الزمن، بتصريحاته حول تفعيل "شرطة الآداب" وفرض الحجاب الإلزامي.
تقول زينب لرصيف22: "كان الشاب يدفعني لارتكاب حادث سير لأنني غير محجبة. مرت الواقعة بسلام، لكنها دفعتني للحديث عن تداعيات تصريح الوزير". على صفحاتها بمواقع التواصل الاجتماعي، بثّت الشابة الثلاثينية عدة مقاطع فيديو تعلّق فيها على تبعات اقتراح وزير الداخلية فرض الحجاب القسري وتتساءل في أحدها: "دينياً، هل يرضي الله أن يغش شخص في مواصفات مسكن لدرجة أن يُهدم فوق رؤوس ساكنيه مخلّفاً سبعة منهم؟ وينكم ولا هذا بس (تشير إلى شعرها) هو الأمن القومي!".
عقد وزير الداخلية في "حكومة الوحدة الوطنية" الليبية مؤتمراً صحافياً لاستعراض جهود وزارته في معالجة أزمة نقص وقود باتت حادة ومزمنة في بلد غني بالنفط، فقرّر المصادرة على حريات وحقوق المواطنين لا سيّما النساء وتجاوز سلطاته في إنفاذ القانون "للتشريع" وفرض الحجاب القسري وتقييد تحرّكات النساء بـ"إذن ولي الأمر" الذكر
الطرابلسي يشهر "سلاح الآداب"... فلمن يوجهه؟
طوال نصف ساعة من مؤتمر الطرابلسي العاصف الذي عقده أساساً لاستعراض جهود وزارته في معالجة أزمة نقص وقود باتت حادة ومزمنة في بلد غني بالنفط، فتح الرجل ملف حقوق الإنسان والحريّات في ليبيا من باب "الآداب"، فراح يلوّح بسلاح الحبس والمنع منصّباً نفسه وصيّاً على المجتمع؛ فالشباب في حاجة إلى من يرشدهم إلى قصّات شعر تتماشى مع قيم المجتمع وإلا فالويل لهم ولـ"حلاقيهم"، والنساء لا بد من أن يرتدين الحجاب إلزامياً وأن يأخذن إذن أزواجهن في السفر والتحرّكات، وفوق هذا كله، لا مجال لحرية الرأي على مواقع التواصل الاجتماعي بما يجعل مستخدميها تحت عين الوزير وسلطاته.
السؤال الملح هنا: إلى أي أساس استندت تصريحات الطرابلسي؟ يجيب عن ذلك رئيس المؤسّسة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا، أحمد حمزة، قائلاً إنه "لا أساس قانونياً أو دستورياً" لحديث الوزير، مضيفاً لرصيف22 "الطرابلسي يحاول تحويل وزارته من سلطة إنفاذ للقانون إلى سلطة تشريع حسب وجهات نظره وآرائه".
ويتابع حمزة: "تصريحات الوزير انطوت كذلك على مخالفات جسيمة تمسّ حقوقاً وحريات مكفولة وفقاً للأسس والقواعد الدستورية والقانونية، وأخص منها بالذكر الإعلان الدستوري المؤقت، والقانون المدني، وقانون الأحوال الشخصية، وغيرها من القوانين والتشريعات الأخرى الخاصة والعامة، ناهيك عن المعاهدات الدولية وفي مقدمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعقد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية".
بدورها، تُلخص الباحثة في منظمة "هيومن رايتس ووتش"، حنان صلاح، تصريحات وتدابير الطرابلسي المقترحة في أن "الوزير أعلن أنه لا مكان للحريات الشخصية في ليبيا"، لافتةً "لم يشرح الوزير الأساس القانوني لهذه التدابير التعسّفية والصارمة. ليبيا ملزَمة قانونياً بإنهاء جميع أشكال التمييز ضد النساء، وضمان الحق بحرية الحركة. القيود المقترحة تنتهك كذلك حقوقاً أخرى، مثل الحق في الخصوصية، والاستقلال الجسدي، وحرية التعبير والتجمع".
هل شرّع الوزير "استباحة" النساء في ليبيا؟
ومن جملة التدابير التي يريد الطرابلسي فرضها منع الاختلاط بين النساء والرجال في الأماكن العامة، وحبس الأشخاص غير المرتبطين رسمياً أو غير المتزوجين الذين يلتقون في الأماكن العامة، وإلزام النساء اللواتي يرغبن في السفر إلى الخارج بأخذ إذن خطّي من "ولي أمرهن" الذكر سواء كان الأب أو الزوج أو الأخ.
وتقول النائبة السابقة في المؤتمر الوطني العام الليبي، نادية الراشد، إن تصريحات الطرابلسي التي استهدفت "النساء بالتحديد" تعد "انتهاكاً صارخاً للحرية الشخصية"، موضحةً لرصيف22 "ظهرت نتائج هذه التصريحات في الشارع الليبي عبر تهديد السيدات غير المحجّبات واستهدافهم بالعنف اللفظي. إعلاميات ومثقفات ومدونات تعرضن للتهديدات، وهذا كان متوقعاً".
"يعي الجميع أن الشارع الليبي غير معني بالقوانين والإجراءات، وأن الإيعازات الشفهية من المسؤولين لطالما اعتبرت إذناً بالبلطجة والهمجية سواء على مستوى ممتلكات الأفراد الخاصة أو ممتلكات الدولة نفسها"... عن تصريحات الطرابلسي وما فعلته في زينب تربح والليبيات الأخريات المحجّبات منهن وغير المحجّبات
تذهب منصة "دروج" الحقوقية الليبية أبعد من ذلك وتشير إلى أن دعوات وزير الداخلية الأخيرة وضعت المرأة الليبية بشكل عام وغير المحجّبات بشكل خاص في خانة "المستباح" و"المشتبه به" من قبل "شلل اجتماعية". وتوضح: "تعج السوشيال ميديا الليبية بمئات مقاطع الفيديو الوقحة والتهكّمية فضلاً عن أخرى تحريضيّة التقطت خلسة لنساء ليبيات في أماكن عامة".
ثم تردف: "يعي الجميع أن الشارع الليبي غير معني بالقوانين والإجراءات، وأن الإيعازات الشفهية من المسؤولين لطالما اعتبرت إذناً وتصريحاً بالبلطجة والهمجية سواء على مستوى ممتلكات الأفراد الخاصة أو ممتلكات الدولة نفسها".
ورداً على طلب رصيف22 التعليق على المخاوف من تزايد العنف ضد النساء بعد تصريحات الطرابلسي في ظل فوضى السلاح في ليبيا وانتشار التشكيلات المسلحة في الغرب الليبي تحديداً، تقول "دروج": "حتّى الآن لم تترجم تصريحات وزير الداخلية إلى تشريعات أو قوانين (رغم تسريب قرار للمجلس الرئاسي بشأنها)؛ لذا فالمخاوف الحقيقية تظل على المستوى الشعبي حيث تصبح تصريحات الوزير بمثابة إيعاز للشباب المحبط للتطاول على النساء والفتيات من حوله، سواء في الفضاءات العامة أو خلف حيطان المنازل الليبية".
ومنذ تعليقها على اقتراحات وتدابير الطرابلسي، تتلقى زينب، كما تقول لرصيف22، سيلاً من التعليقات السلبية وصلت إلى حد السب والقذف والتهديد بالقتل. تقول: "المضايقات وتيرتها تزايدت بعد تصريحات الوزير، وتنوّعت بين مضايقات لفظية في الشارع، وإلكترونية، ووصلت حتّى إلى التهديد بالقتل". وفي مقابل ذلك تعج صفحة الصحافية الليبية برسائل الدعم ومطالبات بتدخّل النائب العام لحمايتها.
"الأخلاق" سلاح آخر في قبضة الميليشيات؟
البيئة التي أطلق الطرابلسي تصريحاته خلالها تعمّها فوضى سلاح منذ الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي عام 2011، وتنتشر في ربوعها ميليشيات وتشكيلات مسلّحة خاصة في غربها الذي تسيطر على مقاليد الحكم فيه حكومة "الوحدة الوطنية" برئاسة عبد الحميد الدبيبة، فيما تحكم قوات "القيادة العامة" للجيش بقيادة المشير خليفة حفتر، قبضتها على الشرق وأجزاء كبيرة من الجنوب.
وقبل أن يكون الوزير قيّماً على أخلاق الليبيين، كانت لديه خطة طموحة لإخلاء العاصمة من التشكيلات المسلحة أعلنها، في 23 آب/ أغسطس 2024، تتمثّل أبرز ملامحها في سحب جميع هذه التشكيلات واختصار تأمين المؤسسات والمقار الحكومية على وزارة الداخلية، وإحكام الوزارة سيطرتها على منافذ الدولة.
لكنه "لم يستطع الإيفاء بها"، وفق الخبير العسكري، عادل عبد الكافي، الذي يقول لرصيف22: "ليبيا تعاني غياب المفهوم الحقيقي للدولة. نحن ورثنا من حقبة القذافي ورجالاتها أرضاً دون مفهوم الدولة التي يحكمها الدستور والقوانين والمؤسسات، وكل ما لدينا هي لوبيّات وتحالفات مبنية على المنفعة وتقاسم المساحات".
ويضيف: "لا عماد الطرابلسي أو غيره يستطيع إخراج التشكيلات المسلحة، هو نفسه قائد لأحد هذه التشكيلات ووجوده فى المشهد مبني على تقاسم المنافع، والأمر ذاته في الشرق رغم المظاهر الخدّاعة. فعلى أرض الواقع التشكيلات المسلحة تعبث بأمن المواطن، وتهرب وتتاجر في الممنوعات، وتفرض سطوتها ولا تنفذ الأوامر".
وإلى جانب هذا المناخ الأمني المنفلت، يعاني الليبيون أزمة سيولة خانقة وتردياً في بنيتهم التحتية ونقصاً مزمناً في الوقود. وتضيف نادية الراشد، إلى ذلك، "تصاعد الانتهاكات الحقوقية بحق الليبيين من خطف وإخفاء قسري وقتل دون أي التزام بالقانون أو خوف من المساءلة". لكل هذا جاءت تصريحات الطرابلسي لتدخل البلاد في منحنى خطر، لكن لماذا أطلقها الآن بالتحديد؟
يرى الكاتب الليبي، أحمد التهامي، إن تصريحات الطرابلسي "تخدم الدعاية لنفسه مستغلاً كون الخطاب الرسمي لليبيين "ذكورياً"، كما أن حكومة "الوحدة الوطنية" استغلّته للحصول على "دعم شعبي"، ومع ذلك فهو يقلل من تأثيره إذ يقول لرصيف22: "إضافة عنصر إلى خلطة كلها فوضى لا تغير شيئاً في المشهد بل قد تمر دون أن يشعر بها أحد. ثمّة غياب للدولة غرباً لذلك كل ما يقع يقع ضمن فوضى عارمة".
وتذهب الراشد إلى أن "خطاب الطرابلسي الشعبوي جاء ليغطي على خفايا تدار في الظل تحاك في دولة مليئة بالفساد، من أجل استمرارهم في مناصبهم". كما تعتقد أن "الوزير علي يقين من أن هناك حكومة جديدة قادمة تُنهي كل هذا العبث وتبسط السيطرة على كامل التراب الليبي وتُفعِّل القوانين الرادعة لتعود للمواطن كرامته وحقه الإنساني".
أما عبد الكافي الذي عمل سابقاً مستشاراً عسكرياً وإستراتيجياً للقائد الأعلى للجيش، فيقول إن تصريحات الطرابلسي هدفها "الإلهاء وإشغال وتشتيت المواطنين في ضوء وضع متأزم في طرابلس من حيث نقص السيولة في المصارف، وتأخّر المرتبات". وحول فرض الحجاب يقول: "أغلب الليبيات محجّبات إن لم يكن عن اقتناع فتمسكاً بالحشمة، حتّى النساء الأجنبيات يسدلن الحجاب احتراماً للعادات والتقاليد فى ليبيا (...) حتّى إن كان هناك حالات خروج عن الآداب العامة فهي تُعرض على النيابة ولا تحتاج إلى هذه البروباغندا الإعلامية".
"حتّى الآن لم تترجم تصريحات وزير الداخلية إلى تشريعات أو قوانين (رغم تسريب قرار للمجلس الرئاسي بشأنها) لذا فالمخاوف الحقيقية تظل على المستوى الشعبي حيث تصبح تصريحات الوزير بمثابة إيعاز للشباب المحبط للتطاول على النساء والفتيات من حوله، سواء في الفضاءات العامة أو خلف حيطان المنازل الليبية"
لمن تشكو الليبيات حالهن؟
والغريب في هذا الموقف الحكومي أن تدابير الوزير المقترحة "تجاوزت"، حسب رئيس المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا، مهام عمل وزارة الداخلية بصفتها سلطة إنفاذ للقانون، و"خالفت" قانون الإجراءات الجنائية الذي هو أساس في توجيه عمل الوزارة، حيث يشير إلى أن تعرّض الطرابلسي لحق النساء في التنقل والسفر، والتهديد باعتقال واحتجاز مرتادي المقاهي والأماكن العامة وإغلاق بعض النشاطات التجارية مثل محال النارجيلة والمقاهي كلها إجمالاً "تصريحات عبثية خارجة عن القانون ماسّة بحقوق الإنسان والمواطنة وتنتهكها بشكل صارخ وفاضح وموجبة للمساءلة القانونية للوزير".
ويقول حمزة أيضاً إن "القانون واضح وصريح لا يعطيه (أي الوزير) الحق في المساس بالحقوق والحريات العامة المكفولة وفقاً للأسس والقواعد الدستورية" ويشير إلى أن مقترحات الطرابلسي "تخرج وزارة الداخلية عن الإطار الدستوري والقانوني، وتشكل إهانة للمجتمع وتشويهاً له وتثير الفتنة وتخرج عن النظام العام، وهو ما يعاقب عليه نص المادة 195 من قانون العقوبات الليبي". ويخلص إلى أنه "لو كان في الوزارة مستشارين قانونيين ما أقدم الوزير على قول ربع كلمة مما قاله بهذا الشكل المستفز والمهين والمسيء للشعب الليبي".
وبالنسبة للراشد، فإن إصدار القوانين اختصاص أصيل لمجلس النواب، وهي تلفت إلى أن قرار الدبيبة "مخالف للقانون" لأنه "إذا أرادت الحكومة تعديل قانون فعليها الرجوع إلى الجهة المشرّعة للنظر في المقترح، لكن بدلاً من ذلك قفزت الحكومة على الإعلان الدستوري في محاولة لشرعنة أجسام جديدة موازية من أجل نهب وسلب المال العام والبقاء في السلطة".
إلى ذلك، لم تهتم زينب بإعلان موقفها من تصريحات الطرابلسي سواء بالاتفاق أو الاختلاف، تحدثت فقط عن توابع ما يقترحه على النساء ومع ذلك تقاطرت عليها المضايقات، وتقول لرصيف22: "بغض النظر عن اتفاقي أو اختلافي مع تصريحات الوزير، لكن المفروغ منه هو أننا في دولة ولسنا في غابة، تحكمنا قوانين، وتصريحات الوزير منحت أي شخص ذريعة أو حافزاً لمهاجمة النساء الليبيات المحجّبات أو غير المحجّبات"، مشدّدةً على أن خطورتها تكمن في أنها "ذكورية" ولا تحقق الردع الذي يوفره القانون الليبي للنساء ضد المتحرشين لفظياً أو جسدياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 3 ساعاتحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...