أنتمي إلى جيل بزغ على تراب هذه الأرض ليجد نفسه في ليبيا الدولة الواحدة الموحدة؛ الكيان السياسي والجغرافي الواحد الذي جعلنا لا نرى أي اختلاف بين ليبي من طرابلس وآخر من طبرق أو غدامس أو زوارة. هكذا عرفنا بلادنا التي غنّى لها أحمد فكرون: "يا بلادي حبّك موالي"، فلم نسأل عن مدينته، بل شاركناه الغناء للوطن الواحد. عرفنا بلادنا وعاصرنا "فرسان المتوسط"، واحتفلنا بفوزهم في كل شبر من ليبيا دون أن نسأل عن مدينة حارس المنتخب أو نهتمّ لذلك.
تتناثر الكيانات التي عاشت تجربة التقسيم على خريطة العالمين القديم والحديث، وعلى امتداد القارات. عاشتها دول عظمى كألمانيا، ولا تزال كوريا تعيشها حتى اليوم، وعاشتها دول في العالم الثالث كاليمن، ولا تزال تعيشها السودان كأحدث تجربة عربية لتقسيم صنعه استفتاء شعبي سنة 2011.
لن أمسك خيط التقسيم عبر التاريخ، وأصنع منه كومةً هنا، لأنّ حجمه سيكون عظيماً: من فيتنام والهند وباكستان في آسيا، إلى قبرص وأيرلندا في أوروبا، مروراً بالإمبراطوريات العظيمة في روسيا القيصرية وألمانيا. ما يعنيني هنا هو هذه البقعة الجغرافية التي نعيش فيها ولا نعرف إلى أين سنمضي بها ومعها؛ فالرياح السياسية لها مشيئتها، ولسفن الشعب أحلام ووجهات يتقاذفها الموج حيث يشاء هو الآخر.
حكومتان لا دولتان
تتحدث كتب التاريخ عن الاحتلال الإيطالي لليبيا سنة 1911، فيوحدنا التاريخ والاحتلال. ثم يخرج الإيطاليون ويدخل الحلفاء سنة 1943؛ ليعيد احتلال آخر ترتيب أوراقه ويضع برقة وطرابلس تحت الوصاية البريطانية ويمنح فزان لفرنسا. تولد المملكة الليبية المتحدة بعد ذلك، وتعيد توحيد الأقاليم الثلاثة التي نهشتها أنياب الاستعمار، ويصبح إدريس السنوسي ملك ليبيا من أقصاها إلى أقصاها، في 24 كانون الأول/ ديسمبر 1951. وظلت البلاد محافظةً على كيانها الموحد حتى بعد هزات سياسية عظيمة أثّرت فيها، من ثورة أيلول/ سبتمبر 1969، التي استبدلت اسم المملكة الليبية بالجمهورية الليبية، ثم "الجماهيرية" سنة 1977، إلى ثورة شباط/ فبراير 2011، التي جعلت من ليبيا "دولةً" فتحتها الأحداث المتلاحقة بعد ذلك على كل الاحتمالات.
وبشكل عام، خاصةً بعد سنة 2014، بدأت في ليبيا مرحلة التشظي وتشبّث كل جسم سياسي بمكانه وصلاحياته، وحتى ببعض الوجوه التي حفظها الليبيون بقدر نقمتهم عليها وبقدر يأسهم من أن يتغير شيء في الواقع السياسي حتى وقت قريب.
يرى كثيرون أن إدارة ليبيا بحكومتين لا يعني أنها مقسّمة لدولتين، وأن هذه المرحلة وإن غذّتها العصبية القبلية، لكنها ليست دائمة، لأن لا أحد من الليبيين والليبيات يريدها هكذا.
هل يتخيل أحدكم دولةً واحدةً بحكومتين؟ قد يكون هذا ضرباً من خيال جامح، برغم تحققه كاملاً في السودان مثلاً: حكومتان وجيشان، علمان ونشيدان، ومنتخبان لكرة القدم؛ تقسيم كامل وباستفتاء جماهيري جعل إرادة الشعب هي الفيصل. ليبيا لا تزال تقاوم، ويراها البعض عصيةً على التقسيم برغم الحكومتين والتشكيلات العسكرية المختلفة شرقاً وغرباً وجنوباً. لكن ما الذي يمنع ذلك مع ظروف لا تنفك تمهد لقطع الشرايين والأوردة التي يسيل فيها الدم الليبي مانحاً الحياة للملايين؟
هل نحن اليوم في وطن مقسّم؟ وما القياس لذلك؟ أهو تقسيم واقعي بحسب المعطيات أم عاطفي تؤطره الأمنيات؟
لا أحد يريد التقسيم في ليبيا
وجهت هذا السؤال لليبيين من مدن مختلفة خاضعة لسلطات متباينة. وكي لا ألبسه ثوب السياسة، رأيت أن يكونوا من الشعراء والقريبين من الوسط الثقافي، الأبعد نسبياً عن مطابخ السياسة.
يقول القاصّ إسماعيل القايدي، من سرت، لرصيف22: "أعتقد أن كلمة تقسيم قاسية كتعبير عن حالة وطني حالياً، لكن التنوع الطبوغرافي للبلد ولّد تنوعاً في الأفكار والثقافات، وهو في اعتقادي ظاهرة صحية لنمو البلاد مستقبلاً. ما يعيب هذا التنوع هو التعصب الإثني أو العرقي أو حتى الأيديولوجي، مما يخلخل التآلف والتكافل في المجتمع. وقياس التقسيم لأي وطن هو التقسيم الجغرافي المبني على حدود معينة، بحيث يستقل كل طرف باسم وراية ونشيد تختلف عن الطرف الآخر، وهذا أراه بعيداً على الأقل في الفترة القريبة لقلة الأصوات التي تنادي بالتقسيم في عموم الوطن".
رغم كل ما يحدث، تبقى الحركة الكشفية رمزاً راسخاً لوحدة البلاد، أكثر من ثلاثة آلاف كشاف من جميع أنحاء ليبيا، اجتمعوا في مركز التدريب الكشفي في غابة جود دايم في حفل افتتاح مخيمهم الوطني الخامس تحت شعار: الوطن انتماء… والكشفية عطاء
التقسيم غول عظيم يراقبنا من بعيد منتظراً أن تتهيأ له الأسباب ليجثم على صدر الوطن الواحد فتخمد أنفاسه. هناك من يقدّم القرابين لهذا الغول ويغذّيه ويساعد على بقائه شرساً متأهباً للانقضاض. هؤلاء يشير إليهم الشاعر جمعة عبد العليم، من القبة، عندما نسأله عن وطنه فيقول لرصيف22: "أنا في وطن تسعى فيه طغم مستفيدة من حالة الانقسام السياسي إلى تكريس هذا الانقسام لأكبر مدى ممكن. إنّ وطناً يصرف الأموال حتى على حروبه الأهلية من خزانة واحدة لا يبدو مقسّماً. وللعلم، هذه الطغم تبدو متنافرةً لكنها في الواقع يجمعها الفساد. أنا على يقين من أنّ وحدة ليبيا ستستمر في نهاية الأمر، كون وحدتها إيماناً مستقراً في وجدان الليبيين، باستثناء بعض الأصوات هنا وهناك التي لا تنطلق من أغلبية فاعلة. ولكون وحدة ليبيا أيضاً مصلحةً للدول الفاعلة في الإقليم والعالم، فهذه الخيرات يستفاد منها أكثر عندما تكون في يد واحدة، ولن يُسمح بتقزيمها وبعثرتها".
قد يكون رأي الشاعر مختلفاً عن رأي السياسي وعن رأي العسكري، لكن الشاعر ليبي يرى ليبيا بعيني قلبه؛ لذلك قد يكون ما يراه حقيقةً دامغةً لا تقبل طعناً فيها، أو قد يكون رأيه مجرد أمنيات يدعمها حب وانتماء وروح عذبة.
نسأل شاعرةً من طرابلس عن الأمر، فتقول حنان محفوظ، لرصيف22: "نعم، أنا في وطن مقسّم للأسف. التقسيم واقعي، وفي كل منطقة هناك من يتخذ القرارات بعيداً عن المنطقة الأخرى".
تكلمت حنان بواقعية، وربما وصفت ما يحدث فعلاً، لكن هل كل ما يحدث في ليبيا يعزز التقسيم بالمطلق، أو أنّ هناك أحداثاً وقرارات تجمعها وتحافظ على كيانها الواحد؟
الحركة الكشفية فوق التقسيم!
في منشور على فيسبوك، كتب القائد الكشفي الليبي يسري عبد العزيز: "رغم كل ما يحدث، تبقى الحركة الكشفية رمزاً راسخاً لوحدة هذا الوطن. أكثر من ثلاثة آلاف كشاف من جميع أنحاء ليبيا شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، اجتمعوا بمركز التدريب الكشفي بغابة جود دايم في حفل افتتاح مخيمهم الوطني الخامس تحت شعار: الوطن انتماء… والكشفية عطاء".
لست هنا بصدد ربط وحدة وطن بأسره بشعور عام بالفخر بالراحل علي خليفة الزايدي، مؤسس الحركة الكشفية في ليبيا، ولن أجعل أيضاً استحالة التقسيم نتيجةً حتميةً لشعور بالانتماء إلى منديل كشفي تضعه فتاة من درنة، أو زهرة من غريان، أو شبل من غات. فوحدة البلاد تدعمها قلوب وأرواح، أما التقسيم فله أيضاً داعموه الذين قد يرون في نظام فيدرالي عادل مخرجاً من المركزية التي تجعل من طرابلس بوصلةً لمجرة كونية قد تكون بعض أجرامها بعيدةً بالقدر الذي يجعل العدالة ضرباً من مستحيل.
ليبيا لا تزال تقاوم، ويراها البعض عصيةً على التقسيم برغم الحكومتين والتشكيلات العسكرية المختلفة.
بضع سنوات بين استقلال برقة سنة 1949 وبين قيام المملكة الليبية المتحدة، جعلت برقة، خاصةً بنغازي، تحتفظ بمكانتها الخاصة في الوجدان الليبي. أنا مؤمنة بأبوّة صادق النيهوم الفكرية لنا، وأبوّة أحمد فكرون الفنية، وأمومة تونس مفتاح، وريادة الفاخري والزواوي وسيف النصر والعيساوي وونيس خير وحتى عبد الجليل وغيرهم كثيرون سبقوهم أو جاؤوا بعدهم. أعرف أنّ هؤلاء هم من خلق ليبيا كما هي اليوم، ومثلهم في طرابلس ومصراتة والرجبان وسبها وغدامس. نعم، غدامس، لأنّ إبراهيم الكوني أيضاً يمثّل قطعةً ثمينةً وفريدةً في فسيفساء ليبيا كما يراها العالم.
بعيداً عن السياسة التي فرضت واقعاً يلوح فيه شبح التقسيم، وقريباً من الحديقة الخلفية للبيت الليبي التي يلجأ إليها الليبيون عندما يرهقهم سارقو الثورات ويخذلهم الملتصقون بكراسي المناصب، حديقتنا الخلفية وارفة وجميلة بكشّافها وأغنياتها، بأرواح قاطنيها وألوان ملابسهم، بإمزاد ألما وغيتار فكرون والمزداوي وعود محمد حسن، بكائنات جابر عثمان التي تركها لنا هناك، وبلوحات وصور لفنانين وفنانات يراكمون الجمال فيها كل يوم.
من الرجبان يقول الكاتب أبو عجيلة العكرمي، لرصيف22: "أنا في ليبيا، وهي دولة واحدة. حتى إن كان هناك انقسام سياسي أو إداري فهو مرهون بتشكيل حكومة ليبية واحدة وسينتهي. لو التقى ليبي من الجغبوب، وآخر من سبها أو زلطن، ستجمعهما معرفة شخص واحد على الأقل، ما يعني أنّ الليبيين عائلة واحدة. وما يقلقني ويقضّ مضجعي أن يستيقظ الليبيون صباح يوم ويجدوا أنفسهم قد أصبحوا أقليةً، واسودت بلادهم، وصارت الأمم المتحدة تبحث عن تسوية بين الليبيين ومستعمريهم".
الخطر الحقيقي، حسب العكرمي، لن يكون داخلياً بتقسيم أو من دونه، بل سيكون متدفقاً من حدود الوطن الجنوبية في أمواج بشرية أجنبية. بعضها يصل إلى شواطئ أوروبا، والكثير منها يسيل على جوانب الطرقات في المدن الليبية، ويسبب خللاً في البناء الديموغرافي للمجتمع.
"سواني الحنة"
القاصّ عبد الرحيم بوحفحوف من طبرق، رأيه أقرب إلى وصف الواقع، إذ يقول لرصيف22: "ليبيا تعاني من حالة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني منذ سنوات، والانقسام يبدو واضحاً ويؤثر بشكل كبير على الحياة اليومية للمواطنين وعلى كيان الدولة؛ حيث انخفض إنتاج النفط وتدهورت البنية التحتية وتوقفت المشاريع وارتفعت معدلات البطالة إلى أرقام غير مسبوقة، واستبيحت الحدود برّاً وبحراً وجواً لفترات طويلة، وازدادت الصراعات المسلحة في كثير من المناطق، وانتشرت الجريمة المنظمة والتهريب، وتأثرت الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والتعليم والمياه والرعاية الصحية، وزادت الثارات والصراعات الجهوية والقبلية والإقليمية، وتأثرت الروابط والعلاقات الاجتماعية بين الليبيين بسبب الصراع على السلطة والمال والولاءات، وتدخّلت جهات إقليمية ودولية في الصراع، ما زاد في تعقيد الوضع وإطالة أمد الخلاف وزعزعة الهوية الوطنية. أي باختصار شديد، الليبيون يعرفون أنهم جميعاً ضحايا تشرذمهم، وأنّ الحل لن يكون إلا ليبياً لإرساء السلام والتوافق والأمن".
عندما تدوّخني أغنيات مفتاح امعيلف، وأطير معها بعيداً، فإنّ ليبيا واحدة، وعندما أتيه في "سواني الحنة" مع الحريري وسلام قدري، فإنّ ليبيا واحدة وعندما أشعر أنّ "آخموك" وكل شخوص إبراهيم الكوني هم أسلافي، وأنني امتداد طبيعي لتيهيا وماوية، فإنّ ليبيا واحدة
لننسَ ما سبق، ونضع خطاً تحت السطرين الأخيرين: "الليبيون ضحايا تشرذمهم، والحل لن يكون إلا ليبياً خالصاً". للتشرذم ضحاياه دائماً، وللتدخلات الخارجية خسائرها؛ لذلك فكلاهما خطر على وحدة ليبيا ووجودها.
تماهياً مع كل هذه الآراء، نحن شعب قد تجعله السياسة يغفل عن امتداده الطبيعي، وقد تصنع منه الميليشيات بيادق وضحايا. لكن فوزاً صغيراً في مباراة كرة قدم مع فريق أجنبي، سيعيد ضخ الدم الليبي إلى كل القلوب؛ فتخفق فرحاً من أقصى البلاد إلى أقصاها.
وبعيداً عن السياسة، عندما تدوّخني أغنيات مفتاح امعيلف، وأطير معها بعيداً، فإنّ ليبيا واحدة، وعندما أسمع أحمد فكرون يغنّي: "أرسملك أحلى وأجمل أحلام"، أتخيّل نفسي لوحةً بين يديه، فإنّ ليبيا واحدة، وعندما أتيه في "سواني الحنة" مع الحريري وسلام قدري، فإنّ ليبيا واحدة. وعندما أشعر أنّ "آخموك" وكل شخوص إبراهيم الكوني هم أسلافي، وأنني امتداد طبيعي لتيهيا وماوية، فإنّ ليبيا واحدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.