لا أعرف ما الذي دفعني فجأة، إلى الغوص والتأمل في تصريحات وزير الداخلية الليبي بحكومة "الوحدة الوطنية" عماد الطرابلسي، والتي أعلن فيها اتخاذه مجموعة قرارات، منها فرض الحجاب على النساء وتفعيل شرطة الآداب، كما حظر قصّات الشعر غير المناسبة للشباب، وكذلك الحال بالنسبة لاستيراد الملابس غير اللائقة، ومنع أيضاً الاختلاط بين الجنسين في الأماكن العامة، وأعلن مراقبة تطبيقات التواصل الاجتماعي، ثم ذيّل قرارته القاسية بجملة اعتدنا سماعها في المنطقة: "من يريد العيش بحرية، فليذهب إلى أوروبا".
وبينما كنت أتعمّق في تأملاتي، قرّرت فجأة أن أبحث في مقومات المسؤول السياسي بالبلدان، التي يود وزير الداخلية الليبي ترحيل المعترضين على قراراته إليها، وياليتني لم أفعل، إذ اكتشفت أن المسؤول السياسي في الغرب، يلجأ إلى دراسة عدد من العلوم التي تتجاوز عدد شعر رأسه، وهو ما يقدم بالمجان من جامعات كبرى، خدمة للساسة، بهدف تنمية قدرتهم على اتخاذ قرارات "مستنيرة".
من العلوم السياسية مروراً بالعلاقات الدولية، وصولاً إلى التشريعات والقوانين والاقتصاد، كما يدرس المسؤول في الغرب التاريخين، المحلي والعالمي، للتعلم من أخطاء الماضي، وحتى يجنب بلاده الصراع والأزمات. ولا يمكن للمسؤول أن يتعلم كيفية تجنّب مسببات الصراع، دون إتقان علوم الاجتماع والنفس والإعلام والاتصال، لكي يعرف كيف يدير حياة الناس ومصالحهم.
من كان يتصور أن السيد عماد الطرابلسي، وهو عضو ائتلاف حكومي "ديمقراطي" في حكومة وحدة وطنية، عندما يصل إلى السلطة، سيستخدم أسلوب القسر وفرض الوصاية، معتبراً أن الحريات الفردية نزعة غربية غريبة عنا، وكأنها لا تمت لأرواحنا ولا لقيمنا بصلة؟
جرعة القراءات الحديثة حول مستوى خبرات المسؤولين في الغرب، إلى جانب صدمة القرارات الليبية، دفعاني إلى التساؤل من جديد عن مدى إدراك المسؤولين في المنطقة لمفهوم الديمقراطية، ذلك الشعار الكبير الذي رفعته الشعوب العربية في 2011، وما بعدها خلال ثوراتها ضد الأنظمة السائدة أنذاك، والتي يعتقد كثيرون الآن أنها كانت الأكثر دراية وحكمة وخبرة وكفاءة .
ولماذا لا؟ من كان يتصور أن السيد عماد الطرابلسي، وهو عضو ائتلاف حكومي "ديمقراطي" في حكومة وحدة وطنية، عندما يصل إلى السلطة، سيستخدم أسلوب القسر وفرض الوصاية، معتبراً أن الحريات الفردية نزعة غربية غريبة عنا، وكأنها لا تمت لأرواحنا ولا لقيمنا بصلة؟
دعك من السلطة والسياسيين جميعاً، من كان يتصوّر أن الكتلة الصلبة من الجماهير في المنطقة بأكملها، لا تؤمن أصلاً بحق الأفراد في اتخاذ أبسط القرارات التي تمس حياتهم الشخصية؟ تأمل حالة التأييد الواسعة لقرارات عماد الطرابلسي على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي لا تراها تهديداً للحريات رغم كونها شكلاً من أشكال القمع، فإن لم يكن للفرد الحرية الكاملة في اختياراته الشخصية، ماذا تعني الحرية للغالبية إذن؟
متى يدرك الكثير من ساسة المنطقة وأبناؤها، أن الحرية الفردية ليست حكراً على أوروبا أو الدول الغربية؟ بالتأكيد، مفاهيم الحرية الشخصية تطورت في المجتمعات الغربية، إلا أنها أصبحت جزءاً من حقوق الإنسان الحديثة. هل تعلم أن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي اعتمدته الأمم المتحدة في عام 1966، نص على الحق في حرية الفكر والضمير والدين، ما يعني أن الإنسان في أي مكان له الحق في اختيار معتقداته الدينية بحرية؟
نعم، الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل، هو أفضل من قدم تعريفاً عبقرياً في كتابه "عن الحرية"، وقال إن الحرية الفردية هي ما يميز الإنسان عن باقي المخلوقات، ولا يجب أن تُقيّد إلا إذا كانت أفعال الشخص تؤثر سلباً على الآخرين، والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو حذر في كتابه "العقد الاجتماعي" من الاعتداء على الحرية الفردية، واعتبرها حقاً غير قابل للتفاوض.
لن تحقق البلدان العربية التقدم الحقيقي إلا إذا آمنت بأن حرية الفرد يجب أن تكون محمية من تدخل الدولة، وعلى المجتمعات العربية، ومن بينها ليبيا، أن تعيد النظر في القرارات التي تقيد الحريات الشخصية، والسعى لدعم حقوق الأفراد بعيداً عن التجاذبات السياسية والاجتماعية
ولم تقتصر الدعوة إلى الحرية الفردية على الفلاسفة الغربيين فقط، بل نادى بها أيضاً عدد من المفكرين والأدباء العرب. عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، تطرّق في كتاباته، وبخاصة "مستقبل الثقافة في مصر" إلى أهمية حرية الفرد في اختيار معتقداته وحقوقه الشخصية، في مواجهة سلطة الدولة أو المجتمع التقليدي، ويعد المفكر الفلسطيني أدوارد سعيد أيضاً من أبرز دعاة الحرية الفردية، واعتبرها أساساً لبناء العدالة في المجتمع، وكذلك محمود درويش، أشهر شعراء فلسطين والمنطقة.
في ليبيا، بلد السيد الطرابلسي، تصدّى كبار المفكرين والسياسيين لهذه القضية، من أحمد فرحات إلى الدكتور على مصطفى المصراتي، ثم عبد الرحمن شلقم، وزير الخارجية الأسبق، وغيرهم من الرموز الفكرية والسياسية الذين ناضلوا من أجل الحرية الفردية.
في الختام، لن تحقق البلدان العربية التقدم الحقيقي إلا إذا آمنت بأن حرية الفرد يجب أن تكون محمية من تدخل الدولة، وعلى المجتمعات العربية، ومن بينها ليبيا، أن تعيد النظر في القرارات التي تقيد الحريات الشخصية، والسعى لدعم حقوق الأفراد بعيداً عن التجاذبات السياسية والاجتماعية، فتعزيز هذه الحريات هو الطريق الوحيد نحو بناء مجتمع ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان، أو ننسى هذه الحكايات للأبد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه