منظّم من الخارج… يعجّ بالفوضى من الداخل

منظّم من الخارج… يعجّ بالفوضى من الداخل

مدونة نحن والتنوّع

الاثنين 1 سبتمبر 20259 دقائق للقراءة

يُنشر هذا النص ضمن ملف "لنتخيّل"، وهو ملف مفتوح يضمّ نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات، وتقارير صحافية، يتيح مساحة للخيال ولضرورته، سواء في تخيّل ماضٍ بديل، أو واقعٍ مختلف، أو مستقبلٍ نودّ أن نعيش فيه، أو ذاك الذي قد يُفرض علينا.


الأسبوع الأول

صباح الأحد، استيقظتُ وأنا أفكر في الانتحار. تسلّل ضوء خافت من ستارة الغرفة. نهضتُ دون أن أفتح عينيّ على اتساعهما. أغلقتُ الستارة وأقنعتُ نفسي بالنوم ساعةً أخرى، لعلّ الفكرة تتبدد. رنّ المنبّه في الثامنة إلا عشر دقائق. أمامي عشر دقائق لأغسل وجهي وأرتدي ملابس رسميةً أنيقةً، وأُسرّح شعري. خلال تسع سنوات من العمل بدوام كامل، طوّرتُ مهارة ارتداء الملابس دون إضاءة الغرفة. تنجح تلك الحيلة في خداع جسدي النائم الذي يرفض الخروج المفاجئ. تقلّص وقت استعدادي قبل الخروج للشارع إلى عشر دقائق. نجحتُ في التحايل على عقلي القلق من التأخير.

لففت شعري على شكل دائرة مع تثبيت خصلات شعري الصغيرة بكريم يجعله خارجياً في غاية النظام، لكنه يعجّ بالفوضى من الداخل، كأنّه سوق العتبة. ارتديتُ نظارتي السوداء. تجعلني النظارة أبدو متجهمةً، وخاليةً من الانفعالات. أحترم الأنف كثيراً، أراه جندياً مخلصاً يقف صامتاً عندما يقع أسيراً بيد الأعداء، لذلك أحترس من العينين، إنهما زجاجيتان وتكشفان ما في الداخل. تقعان بسهولة في فخ التواصل البشري.

طلبتُ "سكوتر" كهربائياً ذاتي القيادة لينقلني إلى العمل. وصل بلونه الأصفر المستفز، ضبطته على سرعة محددة تزداد تلقائياً حسب زحمة الطريق، وجّهته وأرحت ظهري على المقعد، وغفوت لثوانٍ بينما يتحرك بقوة الأكواد. فجأةً، شعرت باهتزاز خفيف للعجلات أيقظني من الغفوة. مرّ فوق بقايا جسد قطة ما زالت ملتصقةً بوسط الطريق، تناثرت قطع بيضاء من مخّها، وغرقت أمعاؤها في بقع دماء حمراء واضحة. أعتقد أنّ الحادثة لم يمرّ عليها أكثر من ساعة.

لففت شعري على شكل دائرة مع تثبيت خصلات شعري الصغيرة بكريم يجعله خارجياً في غاية النظام، لكنه يعجّ بالفوضى من الداخل، كأنّه سوق العتبة.

انقبضت معدتي وأوشكتُ على التقيؤ، لكن الطريق خالٍ فزادت السرعة تلقائياً، ما بدّد تأثري. وصلتُ إلى المكتب في الثامنة والربع، مررت عبر سجادة حرارية طويلة من باب الشركة حتى مكتبي. ترتبط تلك السجادة الناعمة بأجهزة استشعار تسمّى "Presence Recognition". تثبت وجودك من أبعاد جسدك المحفوظة لدى النظام. حتى إن ارتديت أكثر الأحذية صلابةً يمكنها التعرف عليك. كل قطعة في المكان مرتبطة بأجهزة استشعار تسجّل وجود الموظفين، وجميعها ترتبط بجهاز مركزي كبير في غرفة يملك صلاحية دخولها مدير القسم عبر جهاز أصغر من حبّة فول. لقد انتهى زمن المراقبة بالكاميرات. 

بمرور الأيام، لم يعد يشغلني النظام، إذ أصبحت ألتزم بمواعيدي رغماً عني. لازمتني صورة أشلاء القطة طوال اليوم، وعدلتُ عن الانتحار مع نهايته حينما وصلتني رسالة إضافة مكافأة صغيرة نتيجة الالتزام بمواعيد العمل.

الأسبوع الثاني

صباح الأحد، استيقظتُ وأنا أفكر في الانتحار. أعدت ضبط المنبّه، ونمت حتى الثامنة إلا ربعاً إلى أن اختفت الفكرة. أمسكت بهاتفي فوجدت رسالةً تدعوني للحضور اليوم إلى إدارة الموظفين، أو ما يُعرف بـ"Neuro net Hr"، في التاسعة صباحاً في التجمع الخامس. قلقت للغاية ولم أفهم لماذا، فلم يحدث ذلك منذ سنين، إذ أصبحت الاجتماعات كافة تتم عبر "VR". 

ارتديتُ ملابسي، طلبتُ "سكوتر" وانطلقت. ألقيتُ بنظري على المكان نفسه الذي رأيتُ فيه أشلاء القطة. دخلت الشارع المقابل، وأمام ملجأ للفتيات في العجوزة بالقرب من الرصيف، رأيتُ قطةً بيضاء ميتة. لم تكن أشلاء، بل كانت سليمةً، وعيناها جاحظتين إلى الخارج كأنها خُنقت حتى الموت.

صباح الأحد التالي، استيقظت بصداع نصفي يدفعني للتقيؤ، ما شتّت فكرة الانتحار التي تلاحقني في بداية كل أسبوع.

وصلت إلى مقرّ الإدارة؛ مبنى زجاجي أزرق، دخلت المكتب، وجدت شاشةً صغيرةً بجوارها علبة ذهبية. فتحت الشاشة و قرأت ما سمّي بتحديث نظام الأداء للموظفين. اطلعت على الشروط كافة ثمّ وقعتها. فتحت العلبة، فوجدت سواراً أسود يشبه الساعة قديماً، ارتديته ثم غادرت.

عدت إلى مكتبي، وأخذتُ أتصفح رسائل عملائي الواردة عبر "Talk Up"؛ نظام مرتبط برقمي الوظيفي ورقم هاتفي ويمكن لمديريّ الإطلاع عليه في أي وقت. نظرت نحو باقي المكاتب فوجدت زملائي يرتدون السوار نفسه. أطلقوا عليه عدّاد الأداء.

انتهى اليوم وما زلت أفكر في القطتين، نظرت نحو عدّادي الجديد فوجدت رقم 44، لم أفهم المعنى، سألت أحدّ زملائي، فردّ: لا بدّ أن تصلي إلى 50 حتى تحصلي على راتبك.

صحت بهم: لقد حصلت على مكافأة الالتزام بالمواعيد الأسبوع الماضي، فقال لي أحد زملائي إنه لا يقيس الالتزام، وإنما هو تحقيق لـ"تارغت" المبيعات.

الأسبوع الثالث

صباح الأحد التالي، استيقظت بصداع نصفي يدفعني للتقيؤ، ما شتّت فكرة الانتحار التي تلاحقني في بداية كل أسبوع. اتصلت بمديري، وأخبرته بأني لا أستطيع التحرك؛ الصداع يقسم رأسي نصفين، وقد نصحني طبيبي بأن أطفئ ضوء المصباح.

ردّ: "ريم، هناك عقود يجب أن يوقّعها العميل". فاقترحت أن نكتفي بتوقيع إلكتروني، وفي اليوم التالي أستكمل باقي الأوراق. أصرّ على حضوري ونصحني بتناول مسكّن للألم، وقال إنّ الشهر اقترب من نهايته ولم يحقق "التارغت"، ومدير القطاع طلب اجتماعاً ضرورياً ليخبره عن أرقام الموظفين: "ربما لن تحصلي على راتبك هذا الأسبوع، أنتِ أقل من الخمسين".

قلت: "لقد حققت 400%؜ العام الماضي، وعليه أن يمهلنا بعض الوقت". قال إنّ السنة الماضية انتهت. 2051 مختلفة، إنها أول سنة يُطبّق فيها عدّاد الأداء. انتبهي، عدّاد الأداء الخاص بك يرسل لي درجاتك.

في الأسبوع الثاني من المراقبة، وصلتني رسالة بأني أحتاج إلى تخصيص وقت إضافي لإنجاز العمل:

يرجى العلم أنّ معدل تركيزك 70%، مستوى الطاقة 60%، تحقيق التارغت 46%، لست مؤهلةً للحصول على راتبك هذا الأسبوع.

غادرت الفرع عند السادسة. تعثرت بصخرة صغيره في الشارع. كدت أقع. هممت برفعها، ولكني وجدت تحتها ورقةً صغيرةً. فتحتها، وكان فيها عنوان في مصر القديمة مكتوب بقلم رصاص انتهي تصنيعه قبل عشرين عاماً، وتحت العنوان مكتوب: "ندعوك إلى نادي الراحة هذا الأسبوع، هل ترغبين في العودة إلى الوراء؟ ما رأيك أن تهربي من عدّادك؟".

ذهبت إلى العنوان المحدد بدافع الفضول؛ شقة عادية. طرقت الباب، فتحت فتاة عشرينية وفي يدها سجل أزرق قديم وقلم رصاص، كتبت اسمي وأشارت نحو غرفة، دخلت فوجدت صندوقَين يحمل كل منهما قطةً، واحدة بيضاء والأخرى سوداء. 

في الأسبوع الثاني من المراقبة، وصلتني رسالة بأني أحتاج إلى تخصيص وقت إضافي لإنجاز العمل: يرجى العلم أنّ معدل تركيزك 70%، مستوى الطاقة 60%، تحقيق التارغت 46%، لست مؤهلةً للحصول على راتبك هذا الأسبوع

اخترت السوداء، ولمحت لوحةً ُرسم عليها سهم أخضر، وكُتب عليها: اخطي الخطوة الثانية. وصلت إلى غرفة ثانية، فوجدت أدوات قطع: سكاكين، حبال، مسدسات كاتمة للصوت. ثم لوحة أخرى كُتب عليها: للخروج يجب اختيار إحدى الأدوات. أخذت مسدساً كاتماً للصوت، فظهرت لي غرفة ثالثة، في داخلها لوحة كُتب عليها: كائن واحد يمكنه الخروج أو سيموت كلاكما.

أطلقت النار على دماغ القطّة، ففُتح الباب! خرجت، وفي يدي ورقة صغيرة، فتحتها فوجدت عليها بقلم رصاص التالي:

"نساعدك على تفريغ غضبك، بناءً على معدّل عدّاد أدائك. أنتِ محبطة، لكن توقّعي ارتفاع معدل سعادتك، ونتوقع منك مزيداً من الأرباح. نحن شركة "Upwise"، ولدينا قاعدة بيانات المخفقين، لن تدفعي ثمن الخدمة الآن، سيتم تحويلها من حسابك البنكي تلقائياً بمجرد تخطّي الرقم 50 والحصول على راتبك الأسبوع القادم. 

الأسبوع الرابع 

صباح الأحد، استيقظت وأنا لا أفكر في الانتحار. وصلت إلى مكتبي وأغلقت التكييف، وتمنيت إطفاء الإضاءة البيضاء المزعجة التي ترتعش كأنّها في نوبة صرع. فجأةً، خرج المدير من قوقعة المراقبة وسأل عن عملاء يجب التواصل معهم. 

في التاسعة وصلت رسالة لجميع موظفي المبيعات تنعى محمد عفيفي، رئيس "Neuro Net Hr"، الرجل نفسه الذي سلّمني عدّاد الأداء. لم يبلغ الخمسين. عاش حياته وسط الشاشات. كرّس عمره القصير لأجل ضبط أداء العاملين. في آخر أسبوع له، تراجع تقييمه إلى 48، ولم يحصل على راتبه. توقّف قلبه وفارق الحياة.

يقع مكتبي في آخر الصف، وأمامي 10 مكاتب أخرى، بجانبي علب متراصة كلها دبابيس، وصندوق أوراق لم تعد بيضاء تماماً؛ جميعها أشياء لا نستخدمها إلا في حالة توقيع العقود، إذ لا نكتفي بالتوقيع الإلكتروني، ونحفظ تلك العقود داخل صندوق مصفح أسود ثقيل، وحتى إن احترق البشر فسيبقى هذا الصندوق، تماماً مثل الصندوق الأسود في الطائرات، بحيث لا يفلت العملاء من الملاحقة القانونية.

عاد المدير وتوقف بجواري. أخبرته أن ينتظر. صوت تكّات عقارب العدّاد الحمراء تستفزّني، وعضلاتي ضعيفة، صوتي مثل ضفدع ولا أستطيع الحديث. لم يتفهم، وردّد بصوت عالٍ:

"لازم نفوق، الساعة تسعة". 

اخترقت حروفه طبلة أذني. تحركت أصابعي نحو الدباسة العتيقة، ودون وعي، رفعت يدي ودفعت الدباسة بأقصى قوتي نحو عينه اليمنى! من الطريف أنّ مكان خروج الدبوس يبدو كوجه غاضب.

تطاير الدم على ملابسي، وعلى الأوراق، ووقف زملائي مذهولين. نظرت نحو عدّادي فوجدته يلفّ بجنون وتتضاءل درجاتي إلى الصفر، خلعته من معصمي وألقيته. بكلتا يديّ، رفعت الصندوق الأسود المقدس، وأنزلته على رأسه، بدأت أنفاسه الأخيرة تتسارع لتخرج، فأوقفتُ خروجها ملء فمه بمئات الدبابيس. أفرغتُ علبتين كاملتين وأجبرته على البلع، فصمت إلى الأبد. 

تلك الأدوات المكتبية ما زالت ذات أهمية!

مررتُ فوق جثته، فتّشت في جيبه، فعثرت على جهاز إغلاق النظام، فتحت الغرفة وتركت بصماتي في كل ركن. بمجرد خروجي من الغرفة، ضرب المكان صوت إنذار، وأصوات الإغلاق الإلكترونية للأبواب، إذ يغلق نظام المراقبة المخارج عندما تستشعر الأجهزة رائحة الدماء. عزلنا إغلاق الأبواب الحديدية عن ضجيج الشارع، ولأول مرة ساد المكان صمت عميق. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image