في قلب غزة المحاصرة، يموت الأطفال بصمت. أجسادهم الصغيرة تصارع الموت يومياً، كل ساعة وكل دقيقة، نتيجة نقص الغذاء والحليب العلاجي، بينما يظلّ المجتمع الدولي عاجزاً عن حماية أبسط حقوقهم الأساسية.
لا شيء لدى أطفال غزّة يشبه الطفولة، لا شيء بالمطلق، فكيف ينام العالم كل يوم؟
آية… ثلاثة كيلوغرامات تحارب الموت
في زاوية ضيقة ومظلمة في مستشفى الرنتيسي للأطفال، تستلقي آية، وهي رضيعة تبلغ من العمر خمسة أشهر، على سرير صغير يبدو أكبر من حجمها النحيل. وزن جسدها لا يتجاوز ثلاثة كيلوغرامات، وعظامها بارزة تحت الجلد الرقيق، فيما تحاول والدتها أسماء عزيز، تهدئتها.
بين نوبات بكاء تقطع الصمت، تقول أسماء بصوت متقطع: "كنت أبحث عن الحليب في كل مكان، لكن سعر العلبة وصل إلى مئة دولار… كيف يمكن لطفلة صغيرة أن تبقى على قيد الحياة في ظلّ هذا الحصار؟". وتضيف لرصيف22: "أحاول أن أجد لها الطعام والدواء، أركض بين الصيدليات والمستشفيات لكن كل شيء محدود، كل شيء أصبح رفاهيةً… وأحياناً لا أملك سوى نظرة عجز، وأنا أرى طفلتي تكافح لأبسط الأمور".
الزيارة إلى المستشفى لم تكن سوى فرصة مؤقتة للإنعاش، فكمية الحليب العلاجي محدودة ولا تغطي حاجة كل الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحاد. كلّ يوم يمر يزيد من خطورة الحالة على جسد صغير لا يعرف كيف يحمي نفسه.
يوسف وأمير… الطفولة المسروقة
في أسرة واحدة، تتضاعف المأساة. يوسف (6 سنوات) وأمير (4 سنوات)، يعانيان من شلل دماغي وإعاقة حركية وذهنية. قبل الحرب، كانت الأمّ تقسم لهما الطعام على ست مرات يومياً، من اللحوم والفواكه والخضروات. أما اليوم، فلا يتجاوز العدد ثلاث مرات.
أم يوسف وأمير: "أحاول أن أقسم كل لقمة بين أطفالي، أراقب كل حركة وكل نفس، كل وجبة تصبح صراعاً بين البقاء والموت… وأشعر بالعجز عندما أرى طفلي يوسف يضع يده على معدته الخاوية، وأمير يبكي بلا طعام، كل يوم أشعر بأنني أفشل في واجبي كأمّ"
تقول والدتهما: "نحن الآن نجاهد من أجل البقاء، لم أعد أملك القوة لتوفير أكثر من ثلاث وجبات يومياً، وأنا أيضاً أعاني من سوء التغذية، وأرضع طفلاً ثالثاً يحتاج إلى حليب وحفاضات… بعد أن فقد زوجي مصدر رزقنا، صار كل شيء مستحيلاً".
وتوضح لرصيف22: "أحاول أن أقسم كل لقمة بين الأطفال، أراقب كل حركة وكل نفس، كل وجبة تصبح صراعاً بين البقاء والموت… أشعر بالعجز عندما أرى طفلي يوسف يضع يده على معدته الخاوية، وأمير يبكي بلا طعام، وكل يوم أشعر بأنني أفشل في واجبي كأمّ".
هبة طوح، أخصائية التغذية في مستشفى "أصدقاء المريض"، تصف الوضع بمرارة: "نحن أمام مشهد مأساوي يومي. الأطفال لا يحصلون على الحد الأدنى من السعرات الحرارية، نرى حالات هزال شديد، وضعف العضلات، وتأخر في النمو حتى أنّ العظام تبدو نحيلةً بشكل مريع، ونقص البروتينات والفيتامينات الأساسية يضعف جهازهم المناعي ويجعلهم عرضةً للأمراض البسيطة التي قد تقتلهم".
تضيف في حديثها إلى رصيف22، أنّ "هناك طفلاً يبلغ عامين وصل إلينا بعد توقف وزنه عن النمو منذ أشهر، وعظامه كانت بارزةً بشكل صادم ووجهه أصفر، حاولنا تقديم الحليب العلاجي والمكملات الغذائية لكن الكمية محدودة، وكنت مضطرةً إلى أن أعطيه جرعات صغيرةً مقسمةً على مدار اليوم، في حين كان لديه إخوة أيضاً بحاجة إلى العلاج. الأمّ كانت تبكي وهي ترى طفلها يصرخ من الجوع، وكنا عاجزين عن تغطية كل احتياجات الأسرة".
وتفيد بأنّ برامج التغذية توقفت جزئياً بسبب الحصار، والحليب العلاجي يُوزّع أحياناً وبكميات ضئيلة لا تكفي لسدّ حاجة الأطفال. تقول: "نحاول إدارة الوضع بأقل الموارد الممكنة، لكن العدد الكبير للأطفال المصابين بسوء التغذية الحاد يجعل المهمة شبه مستحيلة، وهذا يجعل الأمّ عاجزةً عن تقديم الرعاية اللازمة، ويصبح كل يوم معركةً مستمرةً للبقاء على قيد الحياة".
حنان … جسم صغير وأزمة كبيرة
حنان، طفلة من جباليا تبلغ من العمر ست سنوات، تعاني من نقص البروتين والألبومين في الدم، ما أدى إلى انتفاخ القدمين والوجه والبطن، مع إسهال وفقدان للشهية وهزال شديد.
أم حنان: "أستيقظ قبل الفجر لأبحث عن أي مصدر للطعام، وفي المساء أعود منهكةً، لكن قلبي لا يهدأ إلا إذا رأيت طفلتي تتناول الطعام، ولو قليلاً".
تقول والدتها وجدان: "وصل وزنها إلى 11 كيلو فقط، وكل يوم أراقبها وهي تكافح لأبسط الأمور: الأكل والشرب، هي بحاجة مستمرة إلى حليب ومكملات غذائية، لكن حتى هذا أصبح رفاهيةً لا أستطيع توفيرها".
وتضيف في حديثها إلى رصيف22: "أستيقظ قبل الفجر لأبحث عن أي مصدر للطعام، أعدّ وجبةً صغيرةً لكل طفل، أوزّعها بالتساوي، أحاول أن أجد الحليب الذي أصبح شبه مستحيل، وفي المساء أعود منهكةً نفسياً وجسدياً، لكن قلبي لا يهدأ إلا إذا رأيت حنان تتناول الطعام ولو قليلاً، كل يوم يصبح تحدّياً جديداً، وكل يوم أشعر بالهزيمة أمام هذا الواقع".
أمير … فقدان لا رجعة فيه
في مكان آخر من القطاع، الأمير المغني كان طفلاً يبلغ من العمر ثلاث سنوات، بعد فشل جميع محاولات إنقاذه مات بسبب المجاعة. يقول والده لرصيف22: "برغم كل ما حاولنا فعله، لم نستطع إنقاذه، بشرته تغيرت من الأبيض إلى البني الداكن، وكان يعاني من هزال شديد، عندما رحل أواخر تموز/ يوليو الماضي، شعرت أنني فقدت كل شيء… ليس طفلي فقط".
ويتابع: "كل يوم كان يزداد ضعفه، وكل زيارة للطبيب كانت مواجهةً مستمرةً مع نقص الموارد والحليب، وشعوراً بالعجز يملأ كل لحظة".
الجوع كأداة ضغط سياسي
أحمد بصل، رئيس قسم سوء التغذية في مستشفى الرنتيسي، يؤكد أنّ ما يحدث ليس مجرد أزمة غذائية. يقول لرصيف22: "هذه سياسة ممنهجة تستهدف المدنيين بشكل مباشر. إغلاق المعابر يحرم الأطفال من الغذاء والدواء معاً، ويترك الأمّهات عاجزات أمام هذا الواقع. نشهد أطفالاً يصلون إلى المستشفى في حالة هزال شديد، بعضهم فقد القدرة على الحركة أو البلع، وذلك بسبب نقص البروتين والفيتامينات، وهناك حالات لم نستطع إنقاذها ببساطة لأنّ الموارد محدودة والحليب العلاجي غير كافٍ".
ويكمل: "نرى مشاهد مأساويةً يومياً: رُضّع يبكون من الجوع، أطفال يموتون بسبب تأخر وصول الغذاء العلاجي، وأمهات يائسات يحاولن توزيع وجبة واحدة على ثلاثة أو أربعة أطفال، الأثر يمتد للأسرة كلها: الأمّهات يصبن بالإرهاق المزمن ونقص العناصر الغذائية، ويزداد الضغط النفسي، فتصبح الأسرة كلها على شفير الانهيار".
الإحصاءات تحكي الواقع
أكثر من 28% من الأطفال دون الخامسة يعانون من سوء تغذية متوسط أو حادّ في القطاع، ونسبة الهزال الشديد تصل إلى 11%، وفق بيانات مستشفى الرنتيسي، وهي معدلات تُصنَّف دولياً ضمن مستويات "المجاعة"، المستشفى يسجّل نحو 35 حالةً حرجةً أسبوعياً بينما القدرة العلاجية لا تتجاوز نصف هذا العدد، ما يعكس فجوةً هائلةً بين الحاجة والقدرة على الاستجابة.
تقول رندا قدادة، خبيرة القانون الدولي وحقوق الإنسان لرصيف22: "حرمان الأطفال من الغذاء والدواء تحت أي ظرف هو انتهاك صريح للاتفاقيات الدولية، واستخدام الجوع كأداة ضغط سياسي على المدنيين، خاصةً الأطفال، يُصنّف كجريمة حرب، كل جسد طفل يموت اليوم في غزة هو شهادة قانونية على فشل المجتمع الدولي في حماية أبسط حقوق الإنسان".
بحسب مستشفى الرنتيسي، أكثر من 28% من الأطفال دون الخامسة يعانون من سوء تغذية متوسط أو حادّ في القطاع، ونسبة الهزال الشديد تصل إلى 11%، والمستشفى يسجّل نحو 35 حالةً حرجةً أسبوعياً، بينما القدرة العلاجية لا تتجاوز نصف هذا العدد
وتبيّن أنّ اتفاقية حقوق الطفل تنص على حق كل طفل في الغذاء والصحة والحياة، وأي سياسة أو حصار يؤديان إلى حرمان الأطفال من هذه الحقوق هما خرق مباشر للقوانين الدولية. تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان أكدت مراراً أنّ الأطفال في غزة يُستهدفون سياسياً عبر حرمانهم من أبسط مقومات البقاء، والمجتمع الدولي أمام مسؤولية أخلاقية وقانونية لم يتحملها بعد.
المجاعة في غزة، حرب يومية على الجسد والعائلة، الأطفال يصبحون رسائل صامتةً إلى العالم، أجسادهم الصغيرة شهادة على سياسة حصار تنتهك أبسط حقوق الإنسان، كما تقول هبة طوح، لرصيف22: "الأمومة نفسها تتغير، الأمّ لا تهتم بالتعليم أو اللعب مع الطفل، كل تركيزها على إبقائه حيّاً، الجوع هنا يعيد تشكيل الأسرة والجسد والعلاقات بين أفرادها".
بطيء جداً ثم مباغت… هكذا يلوح الموت فوق أطفال غزة في المجاعة، أطفال مثل آية، يوسف، أمير، وحنان، ليسوا مجرد أرقام في تقرير بل وثائق حيّة عن موت يومي نتيجة الحصار والسياسات الإقصائية. في غزة المجاعة ليست قصةً ماضيةً. إنها واقع مستمر، والأطفال بأجسادهم الصغيرة يكتبون رسائل استغاثة لا يسمعها أحد إلا من أراد أن ينصت فعلاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.