حين نفدت الخيارات… حلول الجدّات تنقذ نساء غزّة في زمن الحرب

حين نفدت الخيارات… حلول الجدّات تنقذ نساء غزّة في زمن الحرب

حياة نحن والنساء

السبت 4 أكتوبر 20258 دقائق للقراءة

لم تتخيّل الحاجة زهية عياد (65 عاماً)، أن تعود وتستذكر، في كانون الأول/ ديسمبر 2023، "عصر ما قبل الكهرباء"، عندما غدر بعائلتها موعد ولادة زوجة ابن أختها، في أثناء حصار الدبابات والقذائف المدفعية الإسرائيلية على حي الشجاعية، أحد أكبر أحياء قطاع غزة، لتصل إلى الحياة روح جديدة برغم أنف شبح الموت الذي يجول في المكان.

وبينما كانت العائلة المكوّنة من أكثر من 15 فرداً، مجتمعةً في المنزل الذي رفضت أن تنزح منه قسراً، جاءت صرخة إلهام لتفاجئ الجميع حيث إنّ موعد ولادتها لم يحِن بعد. كانت صرخاتها المتتالية أعلى صوتاً من صوت القصف، فالتفّ الجميع حولها، وحاولوا الاتصال بالصليب الأحمر وبالإسعاف إلا أنّ الردّ كان: "منطقتكم منطقة حمراء مصنَّفة خطراً ولا نستطيع الوصول إليها".

كانت الشجاعية في ذلك الوقت، لا يستطيع أحد الاقتراب منها؛ محاصرة بالدبابات، ومغلَّفة بقذائف المدفعية، تجوب فيها الكواد كوبتر والطائرات الحربية، إلا أنّ سما استطاعت أن تشقّ إلى الحياة سبيلاً.

الطهي على النار والخبز في "فرن الطينة" وتكييف الملابس للصغار و"البامبرز الدائم"… كيف أجبرت حرب الإبادة الإسرائيلية النساء في غزّة على العودة إلى زمن الجدّات والعيش على طريقتهنّ؟

صراخ إلهام الذي يملأ المكان، وسط محاولات تهدئتها، اضطر الحاجة زهية إلى أن تتدخّل حين رأت نزول مياه الجنين أو "فقشت الميه"، كما تقول بلهجتها العامية. تذكّرت في هذه اللحظات ما حكته لها والدتها التي كانت تعمل "داية" عن كيف كانت تولِّد السيدات في مخيم الشجاعية، قبل أن تصبح هناك مستشفيات أو عيادات خاصة بالولادة.

"الطشت (إناء عميق من الألومنيوم)، والمياه الساخنة وكل شيء رأيته من أمي أحضرته على الفور، وكأنّ أمي معي. لكن خوفي كان من قطع الحبل السرّي"، تقول الحاجة زهية، لرصيف22، عن أول مرة قطعت فيها حبلاً سرّياً لامرأة تلد، وأول مرة طبّقت فيها ما رأته من أمّها عمليّاً. ومن حسن الأقدار أنّ البيت كانت في الطابق الأول فيه عيادة لطبيب نساء وولادة من أقرباء الأسرة، فاتصلت به على الفور.

كان الطبيب، واسمه علي، قد نزح من المنطقة وترك عيادته كما هي، بما فيها من أدوات وأجهزة. وكانت الحاجة زهية على اتصال معه عبر الهاتف، تخبره بما تفعله في كل خطوة، وهو بدوره يوجهها نحو الأدوات التي تساعدها في العيادة. وعندما أتت مرحلة قطع الحبل السرّي قال لها: "خذي مشرطاً واقطعيه"، فقطعته والرعب بداخلها لا يوصف، ولكن لم تكن هذه هي النهاية.

بقي أمر تنظيف ما بعد الولادة، فقد اضطرت الحاجة أيضاً إلى أن تفعله حتى لو بطريقة بدائية، وحتى لو كانت تخشى على حياة زوجة ابن أختها الوحيد -الذي هو بمثابة ابنها- وبقيت تتساءل: هل تنجو هذه المرأة من ولادتها الطبيعية التي كانت على يديها بعدما أنجبت أبناءها السابقين بعمليات قيصرية أو أنه ستحدث لها مضاعفات أو تصاب بأذى؟

"كان وجه المولودة علينا جميلاً، لم يكتشف الجيش (الإسرائيلي) أننا في المنزل، كنا خائفين من أن يقتلونا جميعاً إذا ما اكتشفوا أمرنا"، تضيف زهية. وبعد أربعة أيام من الولادة تراجعت الدبابات، واستطاع من كانوا في المنزل، بمن فيهم إلهام، الخروج منه، وفوراً توجهت إلى مستشفى "الشفاء" للاطمئنان على آثار الولادة المنزلة، وتفاجأت بأنّ كل شيء على ما يرام. وكما تقول الحاجة زهية: "اللي خلّف ما مات يمّا".

"بديل البامبرز الدائم"

لم يمضِ الكثير من الوقت على هذه الحادثة، حتى طُمست فرحة أم قصيّ نصر بمولودتها التي جاءت "على شوق وعطش"، كما تقول لرصيف22، فحملها كان بمثابة "معجزة"، حيث خضعت للعديد من عمليات غرس الأجنّة إلا أنها هذه المرة وبعد فحص بطنها المنتفخة أُخبرت بأنها حامل وفي شهرها الرابع، بعد 10 سنوات من ولادتها السابقة، لتنجب مولودتها التي لم تجد حتى البامبرز (حفاضات) لتُلبسها إيّاه. وفي ركن الخيمة، جلست تندب حظها، لتقاطعها والدتها: "الحل موجود، ربّيها زيّ ما اتربّيتي يمّا ع الشرايط".

تروي: "فوراً، تلقّفت الحلّ. جئت بشالي وفرشته على الأرض لأمي. بحثت عن طباشير إلى أن وجدت حجراً بين الركام بجانب الخيمة، ورسمت والدتي خريطة القماشة وقصّتها وحاكتها على شكل حفاض"، كانت هذه هي العلمية التي قامت بها والدتها لتجهيز "بامبرز دائم"، في ظل خلوّ الأسواق من البامبرز جراء إغلاق المعابر وارتفاع سعر الموجود منه بشكل جنوني.

وبرغم أن تكلفة الحصول على هذا الحل تكاد تكون صفراً -لأنه عبارة عن إعادة تدوير لمواد موجودة- إلا أنه يبقى حلّاً غير عملي. فبالرغم من أنها كانت قد وضعت أكثر من قماشة لتكوّن حفاضاً متعدد الطبقات، إلا أنها كانت تسرّب وتبلّ بقية الملابس، وتتسبّب مع الوقت للطفلة في "تسلّخات" تجعلها تتنقّل من عيادة إلى أخرى بحثاً عن العلاج، وتعاني الأمّ تماماً كما عانت والدتها قبل وصول اختراع البامبرز إلى غزة قبل بضعة عقود.

"مثل أمّ عصام في باب الحارة"

أما إيمان العطار (30 عاماً)، فوجدت نفسها في أول أيام الحرب أمام أكوام من الملابس المتسخة، فيما تحوّلت غسالتها إلى "خردة". تتساءل: "مين بدو يغسل هدول؟ وشو بدي ألبس؟". آنذاك، قاطعتها خالتها الكبرى، آمال، ناصحةً: "اغسلي زي ما كنا نغسل زمان". حين سألت إيمان عن طريقة زمان، ردّت الخالة: "مثل أم عصام في باب الحارة".

بالفعل، أحضرت إيمان طشت ماء ودلوَين، وأضافت الماء والصابون في الطشت، وماءً فقط في الدلو، وبدأت بغسل الملابس بالصابون الموجود ثم تنظيفه من الصابون في المياه النظيفة، قبل وضعه في الدلو الفارغ استعداداً لنشره وتجفيفه. كانت الخالة السبعينية آمال، تشرف على هذه العملية، حيث وضعت كرسيّاً قبالتها وراحت تشير عليها بعكازها موضحةً ما عليها فعله، "حتى يوجّ الغسيل وجّ (يصبح نظيفاً للغاية)... زيّ غسيلنا زمان"، هكذا قالت لإيمان. 

بالعودة إلى الحاجة زهية، فقد لاحظت أختها أم محمد، أنّ طفلتها تكبر وتحتاج باستمرار إلى ملابس ذات قياس أكبر، في حين أنّ الأسواق فارغة، لذا اضطرت إلى أن تستغني عن إحدى جلاليبها، وتحوّلها إلى قطع ملابس للصغيرة. تعقِّب على الأمر بقولها: "صح مش حلوين، لكن إشي يستر هالصغيرة هاليومين لحد ما ربنا يفرجها". 

أمّ علي أيضاً كانت في المعاناة ذاتها، فقد حوّلت شيئاً من ملابسها لأحفادها في ما يُعرف محلياً بعملية "التكييف" (أحياناً تُنطق بالقاف)، وهي عبارة عن تحويل الملابس من قياس كبير إلى صغير، ولكن لعمل ذلك يحتاج الأمر إلى الاستعانة بالخياط نظراً إلى الحاجة إلى ماكينة خياطة في غالبية الأحوال، وهو ما فعلته لتحصل على "ترنغ" شتوي لابنة ابنها.

أطعمة وطهي من عهد النكبة

وبالنسبة إلى الأطعمة، تخبرنا الحاجة أم نعيم قنن (68 عاماً)، بأنها عادت إلى تناول لحوم السلاحف البحرية، بعد أن تجدّدت المجاعة جرّاء إغلاق إسرائيل المعابر منذ خرق اتفاق وقف إطلاق النار في كانون الثاني/ يناير 2025. تذكّرت أنّ والدها كان يخبرها بأنهم اضطروا إلى تناولها خلال نكبة 1948، حين اضطرارهم إلى النزوح آنذاك تماماً كما هو حالها اليوم، لتتناولها وأحفادها في عهد "النكبة الثانية" حسبما تصفها.

من الغسيل على طريقة "أمّ عصام في باب الحارة" إلى تناول السلاحف البحرية... نساء غزّة يَعُدن إلى حلول عصر ما قبل الكهرباء بعد أن نفدت الخيارات في ظلّ حرب الإبادة الإسرائيلية

 ومنذ منع إسرائيل إدخال الوقود وغاز الطهي، أُجبرت أم نعيم وغالبية النساء في القطاع على استخدام النار مرةً أخرى. تقول لرصيف22: "علَّمت كل كنايني وبناتي توليع النار والطبخ عليها زيّ ما كنت أعمل زمان، وكمان الخبيز على فرن الطينة". لكن ابنتها أسماء تقاطعها قائلةً: "عشان ما تدعوش ولا تتمسخروا على بنات اليوم وتحسدونا على الأجهزة اللي عنّا، هاي ربّنا بلانا ورجّعنا زيّكم زمان وجرّبنا الحياة بدون كهرباء سنتين".

وكانت إسرائيل قد قطعت الكهرباء عن قطاع غزة، منذ بداية حرب الإبادة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. كذلك، أعلن وزير الجيش الإسرائيلي آنذاك، يوآف غالانت، أن لا كهرباء، ولا طعام، ولا وقود، وأنّ كل شيء مغلق، عادّاً أن إسرائيل تتعامل مع الفلسطينيين على أنهم "حيوانات بشرية"، فأعادوهم إلى عصر ما قبل الكهرباء في محاولة أهل القطاع التعايش مع واقع مرير تكاد تنعدم فيه الخيارات، وذلك بالاستعانة بجدّاتهم اللواتي عاصرن تلك الحقبة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard
Popup Image