هل انتهت الحرب فعلاً؟ هل حان وقت السلام؟ هل ستعود الحياة إلى طبيعتها؟
أسئلة عدّة تضجّ في رأسي منذ فجر التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، منذ إعلان التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة بشكل رسمي، بعد عامين ويومين من حرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع. تتسلّل الأخبار إلى رأسي، لا تبحث عن جواب بل عن قلب يصدقها.
استيقظت على اتصال وردني من أحد الزملاء في منصة إعلامية أتعاون معها، يطلب مني المتابعة وتزويدهم بآخر المستجدات. أخبرني بلهفة وفرحة شعرت بهما تماماً في صوته: "دعاء، تم التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة". للحظة، ظننت أنني أحلم، ثم تذكّرت أن الأحلام لا تأتي في الحرب.
جلست أتحسّس وجهي كمن يختبر وجوده، كأنني أحتاج أن أرى إن كنت ما زلتُ حيّةً حقاً. الهواء من حولي ساكن، السكون كثيف لدرجة تثير الذعر، السماء رمادية، كأنها تجهل إن كانت تستعدّ إلى شروق أم إلى غارة جديدة.
أنا دعاء، صحافية من غزة، نجوت من الحرب، أو هكذا يقولون، لكن ما معنى النجاة في مدينة كغزة؟ أن تخرج حيًّاً لا يعني أنك نجوت، بل بأنك لا تزال تحمل الموت في ذاكرتك، النجاة هنا ليست فعل بقاء، بل صراعٌ يومي مع الذكرى
تسلّلت حينها إلى جسدي قشعريرة غريبة، لم تكن فرحاً، بل شيئاً يشبه الخوف وقد تغيّر شكله، كأننا اعتدنا القتل والدمار حتى صار "السلام" حدثاً مريباً، لا نعرف كيف نطمئن إليه.
التقطت هاتفي وبدأت أتابع الأخبار في المواقع والوكالات الإخبارية وأنقلها. شعرتُ أن الدموع تتجمّع في صدري لا في مآقي، أردت أن أبكي مطولاً، بكاءً مؤجّلاً عامين كاملين، عامين من الصمت القاسي، ومن تأجيل الحزن على من فقدتهم — على والدي تحديداً، الذي رحل وبقي صوته يهمس في ذاكرتي كلما دوّى القصف.
لم أبكِ يومها، كنت أخشى أن ينهار كل شيء -إن بكيت- كنت أقاوم بالسكون، بالعمل الصحافي، بالجري وراء القصص التي لا تحتمل دموعاً. أمّا الآن، وفي هذا الهدوء المريب، أشعر أن الوقت حان لأبكي، أبكي نفسي والفقد وحتى غزة.
الآن، بإمكاني أن أتأمل نفسي في المرآة بعد شهورٍ طويلة من تجنّبها، كم تغيّرت ملامحي. لم أكن أجرؤ على النظر إلى وجهي في المرآة أو تمشيط شعري بهدوء، فقد عشت بالحجاب الثقيل طوال شهور من النزوح.
الآن أفكّر: ماذا سأفعل بعد الحرب؟ هل أقصّ شعري وأرتّبه؟ هل أجرّب جلسة عناية بالبشرة أو أضع طلاء أظافري المفضّل الذي نسيت لونه؟ ربما أذهب إلى حمّام "ساونا" لآخذ قسط راحة لجسدي المنهك، لكن حتى مراكز التجميل دُمّرت، كلّ ما كان بسيطاً صار حلماً معقّداً في مدينة تكالبت عليها الحروب، مدينة تتعلّم أن تبدأ من الرماد.
أفكّر أن أبدأ بالاهتمام بنفسي، أن أتنفّس ببطء، أن أتعلّم كيف أكون بخير دون أن أشعر بالذنب. نخطّط أنا وأصدقائي، بين المزح والجدّ، من سيعزم الآخر أولاً، وماذا سيطهو له بعد شهور من المجاعة والحرمان.
هل نُعدّ المسخّن الفلسطيني أم المقلوبة؟ صديقتي تُصرّ على المقلوبة، وأنا أميل إلى المسخن الفلسطيني، بينما صديق آخر يقول مازحاً: "عدس ممكن؟"، فتهجّمنا عليه جميعنا ضاحكين ساخرين من الواقع، ليقول لنا صديق آخر: "واو! راح ناكل لحمة… معقول طعمها تغير بعد شهور من الغياب؟".
لكن الجميع متفق أننا لن نقترب من العدس ومشتقاته — لقد كرهناه رغم أنه أنقذنا من الجوع شهوراً عديدة وكان صديقنا الوفي، نتحدّث عن الطعام كأننا نستعيد ذاكرتنا، كأننا نحاول إعادة ترتيب الحياة من طبقٍ بسيطٍ يذكّرنا أننا لا نزال أحياء.
ومع ذلك، وفي كل مرة أنزل إلى الميدان كما يتطلّب عملي الصحافي، أخشى أن أنظر في وجوه الناس العابسة، فبعد توقّف القصف، بدأت حربٌ أخرى، ليست عسكرية هذه المرّة، بل حرب الحنين والخذلان والذاكرة. الآن، بعدما خمدت الأصوات، بدأت الأوجاع تتكشّف كجروح بطيئة الشفاء. كنا نعيش بالسكين، نتحرّك بين الخطر والدهشة، أما اليوم فنعيش بالنجاة، وهي بدورها ليست سهلة، نحن الناجون الذين لا يعرفون كيف يعودون إلى الحياة، وكيف يبدأون من جديد.
أنا دعاء، صحافية من غزة، نجوت من الحرب، أو هكذا يقولون، لكن ما معنى النجاة في مدينة كغزة؟ أن تخرج حيًّاً لا يعني أنك نجوت، بل إنك لا تزال تحمل الموت في ذاكرتك، النجاة هنا ليست فعل بقاء، بل صراعٌ يومي مع الذكرى، مع الصور التي لا تموت.
الحرب علّمتني أن الصحافة ليست مهنة، بل نجاة جماعية، ذاكرة تحرس الحياة من النسيان، تعلّمت أن الكلمة يمكن أن تكون إسعافاً، وأن العدسة يمكن أن تحيي من ماتوا مرتين: في القصف وفي الصمت.
خلال الأشهر الماضية، كنت أتنقّل بين مراكز الإيواء والمستشفيات، ومخيمات النزوح وشوارع غزة المدمرة وبين الأنقاض والأجساد المتفحّمة والمصابين والجرحى، ألاحق القصص. كنت أكتب تحت القصف، وأصوّر بينما الأرض تهتزّ من حولي، كنت أرتجف ثم أكتب، أبكي ثم أكتب، أهرب من الخوف إلى الكلمة، وكأن الحروف درعٌ خفيّة تحميني من الرعب.
الكتابة الصحافية كانت طريقتي الوحيدة للنجاة، سلاحي الوحيد في معركة لا تُرى.
عند إعلان وقف إطلاق النار، شعرت بأن شيئاً تهشّم في داخلي، كأن جسدي الذي تعوّد على الطوارئ، على صوت الطائرات، على الخوف الذي يوقظك أكثر من القهوة، لم يعرف كيف يتعامل مع هذا الهدوء الجديد، أتنفّس بحذر كمن يخشى أن يُغضب الهواء، أصدقائي يسألونني إن كنت سأستمرّ في الصحافة بعد كل ما رأيته وعشته من لحظات صعبة، أبتسم وأقول: "وكيف لا"؟ ربما صرت أكثر هشاشة، لكنني أيضاً أكثر صدقاً.
الحرب علّمتني أن الصحافة ليست مهنة، بل نجاة جماعية، ذاكرة تحرس الحياة من النسيان، تعلّمت أن الكلمة يمكن أن تكون إسعافاً، وأن العدسة يمكن أن تحيي من ماتوا مرتين: مرّةً في القصف وأخرى في الصمت.
ومع ذلك، المستقبل أمامي ضبابي، بيتي دُمّر، ومكتب الصحيفة التي أعمل فيها لم يعد قائماً، والزملاء توزّعوا بين المنافي والمقابر، أكتب الآن من غرفة صغيرة تحوّلت إلى ملجأ ومكتب، يرافقني فيها حاسوبي وكاميرا مغطاة بطبقة من الغبار.
في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر، توقّفت الحرب على الورق، لكن في دواخلنا لا تزال تدور حربٌ أخرى: حربٌ على الخوف، على الفقد، على فكرة أن الحياة قد تعود إلى طبيعتها. نحاول أن نزرع وردةً في أرض شربت دماءنا، أن نضحك دون أن نشعر بالذنب، أن نحبّ رغم الخراب، ربما لا نحتاج إلى "وقف إطلاق النار" بقدر ما نحتاج إلى بدء إطلاق الحياة، ربما السلام الحقيقي ليس قراراً سياسياً، بل شجاعة أن نحلم بعد كلّ هذا الدمار.
وأنا أكتب هذه السطور، لا أدري إن كانت الحرب انتهت فعلاً، لكنني أعرف أنني ما أزال هنا أتنفس، أكتب، أعمل، أقاوم بطريقتي الخاصة. ربما هذه هي النجاة الحقيقية: أن تظلّ قادراً على سرد الحكاية بعدما حاول العالم إسكاتك
الليل في غزة أصبح هادئاً ربما، لكن ضجيج عقلي وقلبي لا يتوقفان، أسمع في داخلي أصواتاً كثيرة: ضحكات والدي الذي كنت أظنه طوال الإبادة، سيعود من سفر بعد مهمة عمل كما اعتدنا في السابق، سأنتظر مساء الخميس عودته بفارغ الصبر، لأعد له صباح يوم الجمعة فنجان قهوته الصباحية دون وجه، فيبدأ جدالنا الصباحي المعتاد هو يريدها دون وجه وأنا أريد فنجان قهوة، لكن الآباء لا يعودون بعد موتهم كما لن تعود غزة إلى عهدها السابق قبل أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يباغتني صوت ضحكات الأطفال الذين لم يعودوا، صرخات الأمهات، أصوات الزملاء الذين لم يُكملوا قصصهم.
تمرّ كلّ هذه اللحظات لتخزّن في أرشيف ذاكرتي والذي أسميه "أرشيف الأرواح" لكل من فقدتهم خلال الحرب من أفراد عائلتي، وكلّ هذه الأصوات تطلب شيئاً واحداً: ألا ننسى.
أنجو كلّ يوم بطريقة مختلفة، حين أعدّ مادة صحافية، حين أشاهد جلسات العاشقين على شاطئ بحر غزة، حين أسمع طفلاً يسأل أمه: "ماما خلصت الحرب؟، فتجيبه بابتسامة مرتجفة: "يمكن يا حبيبي، يمكن خلصت". هذه الـ"يمكن" وحدها تختصرنا جميعاً، نحن الناجون المعلّقون بين الأمل والشك، بين الفقد والرغبة في الحياة.
الآن، وأنا أكتب هذه السطور، لا أدري إن كانت الحرب انتهت فعلاً، لكنني أعرف أنني ما أزال هنا أتنفس، أكتب، أعمل، أقاوم بطريقتي الخاصة. ربما هذه هي النجاة الحقيقية: أن تظلّ قادراً على سرد الحكاية بعدما حاول العالم إسكاتك. نجوتُ، نعم… لكن النجاة ليست نهاية الحكاية، بل بدايتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.