في ما مضى، لم أكن أعرف الكثير عن مرض ألزهايمر. لم يخطر في بالي أن يكون هناك يوم عالمي له يصادف في 21 أيلول/ سبتمبر من كل عام. أيضاً لم أكن أظن أنّ هذا المرض مخيف ومرعب ومؤلم على الصعيد النفسي إلى هذه الدرجة، خاصةً في مراحله الأولى.
في رواية "الأخوة كارامازوف"، يقول دوستويفسكي، على لسان الابن الأوسط إيفان كارامازوف، في ما يخصُّ والده المقتول: لم أقتله، ولكن من منّا لا يفكر في قتل أبيه؟!
يتمتع والدي بقوة بدنيّة وشخصية قويّة، جعلته يفرض سلطته المطلقة على كل أفراد الأسرة، فهو لم يكن بحاجة إلى أن يُهددنا بالضرب بل كان يكفي أن ينظر إلينا ويَعبس كي نخاف وننفّذ ما يريده.
خلال حياتي كلها، لا أتذكر أنّه ضربني سوى مرة واحدة، حين قام بتوجيه بضع ضربات خفيفة بكفِّ يده على كتفي. لم تكن تلك الضربات مؤلمةً، ولكنها كانت مرعبة.
كنت خلال مراهقتي وبداية شبابي، أشعر دوماً بأنني شخص آمن ومطمئن على الأصعدة كافة، ولم تكن لديّ أيّ مشاعر لها علاقة بالخوف والقلق من أي شيء في الوجود. وحين كنت أقع في مشكلات مالية أو اجتماعية أو عائلية وما شابه... كنت أعلم أنني لن أصاب بأيّ أذية تُذكر لأنّ أبي سيحميني، وهذا ما كان يحدث دوماً.
لقد كان هذا الرائع قلعتي التي لا يمكن لألف جيش أن يعبر أسوارها. برغم ذلك جاء اليوم الذي قررت فيه أن أغادر تلك القلعة، لأخوض تجربتي الخاصة. هذه المغادرة كانت شكلاً من أشكال قتل الأب "عقدة أوديب". وفي الحقيقة، على الرغم من مغادرتي، فإنني كنت مهتماً بأن أنتزع اعترافه بي، وقد نجحت في ذلك إلى حدٍّ كبير.
قبل ست سنوات، أصيب أبي بمرض ألزهايمر. كان الأمر في البداية صادماً ومخيفاً ومربكاً بالنسبة لي، ولكنني وبشكل تدريجي استطعت التعامل مع ما حدث، وقد ساعدني في ذلك أنني قبل مرضه بسنوات خضعت لجلسات في التحليل النفسي، وتعلمت كيف أبني نقاط حماية وأمان خاصة بي بعيداً عن والدي بشكل خاص، والأسرة والمجتمع بشكل عام، وكيف أتعامل مع الأزمات والضغوط النفسية.
ما هي الأمومة؟
أحياناً، كنت أفكر أنه قد يأتي يوم وأصبح فيه بشكل ما "أباً" لوالديّ، ولكنني لم أتخيل أبداً بأنني قد أصبح "أمّاً" لهما.
ما هي الأمومة؟ إنها الكثير من التفاصيل والمشاعر والأحاسيس التي تعجز عن فهمها غالبية الذكور، ولكن هذا لا يعني أنّ الذكر لا يمكنه أن يكون "أمّاً" رائعةً بعيداً عن فكرة الحمل والإنجاب، لأنّ الأمومة ليست محصورةً في ذلك فقط، بل هي في جزء كبير منها -حسب رأيي- شكلٌ من أشكال الحب والكرم والحنان والشعور بالمسؤولية والقدرة الهائلة على التحمل وما شابه... بهذا المعنى يمكن أن يكون الذكر "أمّاً" رائعةً من دون أن يتخلى عن دوره كأب، ويمكن أيضاً للأمّ أن تكون "أباً" رائعاً من دون أن تتخلى عن دورها.
يتمتع والدي بقوة بدنيّة وشخصية قويّة، جعلته يفرض سلطته المطلقة على كل أفراد الأسرة، فهو لم يكن بحاجة إلى أن يُهددنا بالضرب بل كان يكفي أن ينظر إلينا ويَعبس كي نخاف وننفّذ ما يريده. لقد كان هذا الرائع قلعتي التي لا يمكن لألف جيش أن يعبر أسوارها
المجتمع والأعراف والتقاليد هي التي فرضت ورسخت فكرة أنّ دور الأمّ للأنثى ومسؤليتها رعاية أطفالها والاهتمام بالمنزل، ودور الأب للذكر ومسؤوليته العمل خارج المنزل لتأمين مستلزمات العيش. برأيي دور الأمّ والأب هو ذاته تقريباً مع بعض الفروقات، ولا يرتبط بكون الإنسان أنثى أم ذكراً. تلك الفروقات بعضها فرضه المجتمع، والبعض الآخر له علاقة بتركيبة الأنثى والذكر الجسدية والنفسية.
فليس من السهل على الإنسان أن يقوم بدور الأمّ، خاصةً في المجتمعات العربية، فمثلاً: حين تجلس الأم مع زوجها وابنها على الغداء، غالباً تكون مهمة الأم إطعام طفلها مع أنها تكون جائعةً ومتعبةً وعقلها مشغول بأعمال المنزل المتراكمة من غسيل وجلي وتنظيف وما شابه... تشعر الأم وهي تطعم ابنها بضغط وتوتر، خاصةً حين يأكل بضع لقيمات ثم فجأةً يتوقف عن الأكل لدقيقة أو أكثر، ثم يعود ليأكل مرةً أخرى مكرراً الأمر عشرات المرات قبل أن ينهي طعامه. وربما يطلب من أمّه شرب الماء، ويتشردق ويسعل ويبدأ بالبكاء. في تلك الأثناء، يكون الزوج قد أنهى طعامه والأمّ لم تتناول لقمةً واحدة.
أحياناً تستغرق الأمّ عشرين دقيقةً، وربما أكثر، لإطعام ابنها، ومن يظن أنّ هذا الوقت قصير، عليه أن يجرّب ليكتشف بنفسه كم هو مخطئ.
دوري كـ "أمّ" لأبي
حتى الآن لم أتزوج وأنجب أطفالاً، لكنني أعدّ نفسي محظوظاً لأنّ الحياة منحتني فرصة أن أمارس دور الأب والأمّ مع والديَّ العجوزين، خاصةً أبي الذي أصبح منذ عامين في مراحل متقدمة من مرض ألزهايمر، فهو لم يعد يتذكر أحداً، ولا يتكلم إلا نادراً ببضع كلمات وجمل غير مفهومة أكثر الأحيان، ولا يمكنه الحركة والأكل والشرب من دون مساعدة.
هناك عدد من الأشياء المتعلقة برعايته والاهتمام به أعدّها تُمثّل أحد جوانب الأمومة بشكل ما، فمثلاً؛ كل يوم وبعد الثانية عشرة ليلاً يجب أن أغيّر له وضعية نومه من الجانب الأيسر إلى الجانب الأيمن، وأجعله يشرب كأساً من الماء، وبسبب صعوبة البلع لديه أقوم أكثر الأحيان باستخدام ملعقة لأجعله يشرب، مرات عديدةً، وبعد أن يشرب أول ملعقة ماء يقوم بإغلاق فمه، وأحياناً يتشردق ويسعل أو يغفو فجأةً، فأنتظر لأكثر من دقيقة قبل أن أسقيه ملعقةً أخرى، وما ذكرته يتكرر مرات عدة، ما يجعلني أحتاج إلى أكثر من خمس عشرة دقيقةً لأجعله يشرب كأس الماء الذي يمكن لأي إنسان أن يشربه خلال ثوانٍ.
أنا ملتزم بهذا السلوك اليومي معه منذ سنتين وحتى الآن، بغض النظر عن حالتي النفسية والجسدية.
أصبحت أتذوق الطعام والعصير قبل أن أطعمه إياه بالمعلقة، وأستيقظ من نومي العميق فور صدور أي صوت عنه، وحين فقد أبي القدرة على الحركة قمت بالجلوس على كرسيه لأرى إن كان مريحاً، هل أضع له مخدّةً خلف ظهره أو لا؟ هكذا شيئاً فشيئاً أصبحت "أماً" له
من جوانب الأمومة التي تفرحني أيضاً؛ استجابتي السريعة لأي صوتٍ يصدر عن أبي حين أكون نائماً، فأنا على الرغم من أنّ نومي عميقٌ، ومن النادر أن يوقظني الضجيج، فإنّ أي صوتٍ يصدر عن والدي مثل السعال أو الكلام غير المفهوم يجعلني أستيقظ فوراً وأقوم من فراشي مهما كنت نعساناً، لأطمئنّ عليه.
أيضاً حين أقدّم له عصيراً، على سبيل المثال، أشمُّ رائحته وأتذوّقه لأعرف درجة حلاوته أو برودته، وحين أدخله إلى الحمام أجرّب حرارة الماء على جسدي قبل أن أسكبها عليه وأقول له: "عيني ربو الشاطر يلي بدو يتحمم… عيني هالوجه الحلو"... وغير ذلك الكثير.
حين فقد أبي القدرة على الحركة قمت بالجلوس على كرسيه لأرى إن كان مريحاً، وأي وضعية جلوس هي الأفضل: هل أضع له مخدّةً خلف ظهره أو لا؟ هل أضع شيئاً مرتفعاً تحت قدميه أو لا؟ وأيضاً نمت في سريره ووضعت مخدّةً بين رجلَيّ وأخرى خلف ظهري وثالثة قمت بحضنها، وبقيت ثابتاً على هذه الحالة لأكثر من نصف ساعة من دون أي حركة مراقباً إن كان الأمر مريحاً أو لا. كل ما أفعله لأبي تقريباً أجرّبه على نفسي لأعرف الطريقة المريحة والأفضل.
هناك كثيرٌ من التفاصيل التي تسعدني وأنا أقوم بها تجاهه، وتجعلني أشعر بأني أقوم بـ "دور الأمّ"، أو ربما هذا ما أريد أن أشعر به.
مشاعري وأحاسيسي تجاه أبي خارجة عن التصنيف، ولا يمكنني أن أقول إنها "مشاعر أمومة" ولا حتى مشاعرة أبوّة، هي فقط مشاعر جميلة تسكنني وأنا أقدم الرعاية له، وتجعلني أشعر بالفرح والراحة والرضا وتقدير الذات.
خلال الأعوام الستة الماضية، قرأت وشاهدت عشرات المقالات والفيديوهات عن مرض ألزهايمر، وعن كيفية التعامل مع من يُصاب به على الصعيدين الجسدي والنفسي، وطورت قدراتي على المستويات كافة لأعتني بوالدي، ولكن برغم ذلك لا أستطيع أن أعرف إن كان ما أفعله مريحاً له أو لا. ولا أعرف إن كان يفهم كلامي حين أنظر إلى عينيه وأبتسم قائلاً: "كيفك يا بيّي، أنا بحبك، عيني هالوجه..."، وأضمّه وأقبّله وأخبره عن تضحياته في سبيل العائلة، وكم كان أباً رائعاً وجميلاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.