يبدو أنّ صائفة سياسيةً ساخنةً أخرى في انتظار التونسيين، بينما تعوّدوا منذ الثورة أن تكون أجواء الصيف أكثر هدوءاً وبرودةً من شتائهم، فقد تغيّر مناخ تونس السياسي وتأثّرت ملامحه بتيارات 25 تموز/ يوليو 2021. لم تكن هذه الصائفة بمعزل عن هذا المناخ الجديد، لتكون أولى صباحات تونس الخريفية استكمالاً لطقسها الخانق، عندما استفاق التونسيون يوم الجمعة 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، على خبر "صادم" كما أُجمع على وصفه: "الحكم على مواطن بالإعدام بسبب نشره تدوينات على صفحته على منصة فيسبوك".
وفق ما أكده المحامي أسامة بوثلجة، على صفحته الشخصية في فيسبوك، فإنّ المحكمة الابتدائية في ولاية نابل، قضت حضورياً بإعدام منوبه صابر شوشان (51 عاماً)، بعد إدانته في ثلاث جرائم هي: "الاعتداء المقصود منه تبديل هيئة الدولة، وحمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضاً بالسلاح، وإثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي"، و"ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة"، بالإضافة إلى التهمة الثالثة طبق الفصلين 67 و72 من المجلة الجزائية، والفصل 24 فقرة 2 من المرسوم عدد 54 لسنة 2022 المؤرخ في 13 أيلول/ سبتمبر 2022، المتعلّق بمكافحة الجرائم المتّصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، وهي "تعمد استعمال أنظمة معلومات لنشر وإشاعة أخبار ووثائق مصطنعة ومزوّرة وبيانات تتضمن معطيات شخصيةً ونسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير وتشويه سمعته والإضرار به مادياً ومعنوياً والتحريض على الاعتداء عليه والحثّ على خطاب الكراهية، وكان الشخص المستهدف موظفاً عمومياً".

الجدير بالذكر أيضاً أنّ منوبه، موقوف على ذمة هذه التدوينات منذ 22 كانون الثاني/ يناير 2024.
الحكم الصادم دفع كثيرين إلى التساؤل: "هل حكم الإعدام على مواطن بسبب تدوينات فيسبوكية، محاولة جديدة من ماكينات السلطة للتخويف وإسكات كل الأصوات الناقدة؟ أو هو انعكاس للضغوط التي تعيشها مؤسسة القضاء اليوم؟ وهل نجحت السلطة الحاكمة في تجريد القضاء من سلطته وتحويله إلى أداة وظيفية يستعملها لضرب وتتبّع معارضيه؟".
عقب قرابة سنتين من توقيفه… ما قصّة الحكم بالإعدام على مواطن خمسيني تونسي بسبب "تدوينات فيسبوكية"؟ وكيف يعكس ذلك المشهد السياسي والحقوقي في البلاد وواقع القضاء في عهد قيس سعيد؟
في حديثه إلى رصيف22، يستنكر رئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، المحامي بسام الطريفي، الإحالة على مبدأ الفصلين 54 و72، قائلاً إنّ الحكم لم يطبّق مبدأ الملاءمة بين الجريمة والعقوبة، التي وصفها بـ"القاسية جداً"، رافضاً التسليم بأنّ تدوينةً فيسبوكيةً مهما حملت من معاني الجرائم، يمكن أن ترتقي إلى الحكم بالإعدام الذي ترفضه الرابطة بشكل قطعي.
ويتوقع الطريفي أن يتم نقض الحكم في الاستئناف، لما يتضمّنه من خروقات قانونية، وعدم تكيّفه مع المعطيات، مؤكداً أنه "لا يمتّ هذا الحكم إلى العدالة أو إلى العدل وحسن تطبيق القانون، أو إلى حقوق الإنسان، بصلة". كما يشير إلى أنّ القاضي الذي حكم على المواطن صابر شوشان، نُقِل إلى مكان آخر بعد صدور الحكم.
انتقاد القضاة وملاحقتهم
من جهته، ينتقد القاضي وعضو مجلس الصحافة، عمر الوسلاتي، في تصريحه لرصيف22، التداول الإعلامي لهذا الحكم، خاصةً على مواقع التواصل الاجتماعي التي تداولت المعطيات الشخصية للقاضي الذي أصدره، منبّهاً إلى أنّ الأحكام القضائية قابلة للنقد، ومشدّداً على ضرورة أن تكون عملية الانتقاد، ضمن معايير محدّدة، ومن أهمها عدم التعرّض للقضاة والهيئة التي أصدرت الحكم، وعلى نحو خاص حماية معطياتهم الشخصية، وفق مبادئ الأمم المتحدة، مضيفاً أنّ ذلك يدخل في باب استقلالية القضاء، علماً أنه لا يعترض على "النقد النزيه" للسلطة القضائية الذي يؤدّي إلى تطوير عمل هذه المنظومة الحيوية.
كتل الهواء الساخن هذا العام، تسرّبت مبكّراً في أواخر شهر نيسان/ أبريل 2025، عندما قامت السلطات التونسية باعتقال القاضي السابق في المحكمة الإدارية والمحامي المعارض وعضو لجنة الدفاع عن المعتقلين السياسيين أحمد صواب، الأمر الذي أثار الشارع التونسي مجدّداً، وفتح الباب أمام مزيد من تراشق الاتهامات بين مناصري قيس سعيد ومعارضيه.
مبادرة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إلى عقد مؤتمر وطني للحقوق والحرّيات، أجّجت المزيد من التحريض من قِبل أنصار مسار 25 تموز/ يوليو 2021، والتي سارت منذ هذا التاريخ الخبز اليومي في إعلام اقتصر دوره تقريباً على أن يكون سوقاً لترويج الرواية الرسمية فحسب، والأخطر مواقع التواصل الاجتماعي التي تحوّلت إلى منصّة محاكمات شعبية توجّه التهم لكل نفس ناقد، وتدّعي تقديم الأدلّة، وتطلق الأحكام دون حسيب ولا رقيب في ظل سلطة لا تتوانى عن تتبع كل منشور وتدوينة ناقدة.
لكن حتى هذه المبادرة التي لاقت ترحيباً واسعاً في البداية، يبدو أن ساعاتها في الحياة لم تتجاوز تاريخ موعد انعقاد جلستها التحضيرية في الثاني من حزيران/ يونيو، وسط غياب عدد من أهم مكوّنات الطيف السياسي في تونس، وتحفّظات هذه المكوّنات، بعد إقصائها، وهو إقصاء طغى على أجواء التحضير، والنقاشات التي تخلّلتها، وحتى البيان الصادر عنها، وفق مراقبين.
السلطة تكرّس مناخ التعتيم والمعلومات المزيّفة؟
في 30 من آب/ أغسطس 2025، ضربت السلطة ما عدّه التونسيون تكريساً لسياسة التعتيم، ووجهت لطمةً أخرى للشفافية، عندما أعلنت السلطة إنهاء العمل بهيئة النفاذ إلى المعلومة. ويذكِّر تجميد "هيئة النفاذ إلى المعلومة"، نقيب الصحافيين التونسيين، زياد دبار، بتجميد آخر سبقه، وهو تجميد "هيئة الاتصال السمعي البصري"، وكلاهما يعدّه في حديثه إلى رصيف22، إجراء يكرّس مناخ التعتيم الذي تكثر فيه الإشاعة، والمعلومة المزيّفة، واضطراب المعطيات، وتستثمر فيه أبواق السلطة.
الملاحظ أنه برغم كل هذه التتبّعات والتضييقات على المعارضين، بالإضافة إلى سياسة التحريض المفتوحة والعلنية ضدهم، فإنّ الشارع في مساحتَيه الافتراضية والواقعية لم يستسلم تحت وطأة التخويف والتحريض والتهديد، ولم تنجح السلطة في إعادة بناء جدار الخوف الذي أسقطه التونسيون في 14 كانون الثاني/ يناير 2011. فهل يكون هذا الحكم محاولةً جديدةً من النظام لتخويف المعارضين والناقدين لسياساته؟
"أراد لفت نظر السلطة إلى وضعيته الاجتماعية"
صابر شوشان مواطن تونسي بسيط، وعامل يومي، متزوج ولديه ثلاثة أبناء، ويكفل أيضاً والدته. تعليمه محدود، وظروفه الاجتماعية صعبة، بالإضافة إلى أنه يعاني من عجز بدني مستمرّ نتيجة حادث شغل تعرّض له عام 2004. وفق محاميه، فإنّ أغلب المنشورات التي شاركها منوبه، نُقلت عن صفحات أخرى والتفاعلات معها كانت ضعيفةً جداً، بل إنّ بعض المنشورات لم يتم التفاعل معها أصلاً. ويبرّر صابر، منشوراته برغبته في لفت نظر السلطات إلى وضعيته الاجتماعية، وقد طلب العفو ومراعاة ظروفه الصحية والنفسية، بحسب محاميه، فوجد نفسه بعد حبس يقارب السنتين محكوماً بالإعدام.
تجميد "هيئة النفاذ إلى المعلومة" ومن قبله تجميد "هيئة الاتصال السمعي البصري"، يعدّهما نقيب الصحافيين التونسيين، زياد دبار، إجراءين يكرّسان مناخ التعتيم الذي تكثر فيه المعلومة المزيّفة، وتستثمر فيه أبواق السلطة
من جهته، يعبّر أمين عام حركة الشعب، زهير المغزاوي، عن عدم تصديقه الخبر الذي تداوله المحامون على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي حتّى تبنّته بعض الأطراف المحسوبة على السلطة.
ويصف المغزاوي، لرصيف22، الحكم بـ"قمّة العبث القضائي"، عادّاً أنه "أضرّ بسمعة الدولة والنظام". كما يلفت إلى أنّ تداول أخبار هذا الحكم، في وكالات الأنباء العالمية، أفسد الصورة الجميلة التي رسمها أسطول الحرية عن تونس" (كبلد ينحاز إلى حقوق الإنسان). ولا يتوقّع المغزاوي، أن تكون ما يصفها بـ"العملية العبثية" سياسةً متبعةً من السلطة لمزيد من التضييق على حرية التعبير.

في المقابل، لم يستبعد بسام الطريفي، في حديثه إلى رصيف22، أن يكون الحكم ضمن توجّه عام للسلطة نحو محاولة تخويف المدوّنين والصحافيين، وكل نفس حر.
أما نقيب الصحافيين التونسيين، فيستطرد: "هذا وضع عبثي للقضاء في تونس… عين العبث أن يتم الحكم في الدائرة نفسها على شخص اغتصب أمه بالمؤبّد، وفي المقابل يُحكم بالإعدام شنقاً على مواطن انتقد رئيس الجمهورية"، متابعاً: "رسائل السلطة التخويفية ليست جديدةً، منذ صدور المرسوم 54، هناك 29 قضيةً مرفوعةً ضد صحافيين، منها خمس قضايا مرفوعة ضد المحامية والإعلامية سنية الدهماني، كما الإعلامي مراد الزغيدي، وقبلهما محمد بوغلاب، وغيرهم". ويدعو دبار كل المواطنين المحالين إلى المحاكمة بموجب المرسوم "54" إلى التواصل مع النقابة "لمساعدتهم على التقاضي ضد هذا المرسوم".
هل نجح سعيد في تجريد القضاء من سلطته؟
في بيان لها يوم 2 حزيران/ يونيو 2025، أعلنت جمعية القضاة في تونس تأجيل ندوتها المقرّرة لمناسبة إحياء الذكرى الثالثة لما تُعرف إعلامياً بـ"مذبحة القضاة في تونس"، في غرة حزيران/ يونيو 2022، بعد تلقّيها إشعاراً من النزل الذي كان من المفترض أن يستضيف الندوة، برفض تنظيمه الحدث، برغم الاتفاق المسبق. وعدّت الجمعية، في بيانها، ما حدث "فصلاً جديداً من فصول التضييق على حرية الاجتماع والتعبير".

وجاء خبر تعرّض القاضي المعزول مراد المسعودي، رئيس جمعية "القضاة الشبان للاعتقال والتعنيف، في 15 آب/ أغسطس 2025، ليؤكد وفق مراقبين للمشهد، أنّ سلك القضاء يتعرّض لمضايقات حقيقية تهدف إلى تجريده من سلطته وتوظيفه لممارسة تخويف وترهيب كل الأصوات المعارضة للنظام من سياسيين، وحقوقيين، ومدوّنين وصحافيين، ومواطنين عاديين.
ويقرأ بسام الطريفي، حكم الإعدام بسبب تدوينات فيسبوكية تحت عنوان: "صنصرة (مراقبة) ذاتية" و"خوف باطني"، يعيشهما القضاة نتيجة الضغط، و"الترهيب" من السلطة، وفق تصريحه، خاصةً في ملفات الإحالة على معنى المرسوم "54"، أو اتهامات بارتكاب أمر موحش في حق رئيس الجمهورية أو أحد الوزراء، أو موظف عمومي، أو الجرائم الإرهابية. "القضاة يعيشون تحت حالة من الخوف، والترهيب، لذا يصدرون هذه الأحكام القاسية حتّى من دون تلقّي تعليمات"، يعقّب.
تنكيل وإذلال
في غضون ذلك، يرى المحامي والناشط المدوّن، فوزي جاب الله، أنه من الأفضل للطبقة السياسية والحقوقية أن توجه تركيزها وضغطها على الحاجة الملحة لتفعيل مؤسستين من المؤسسات المعطّلة عمداً، وفق تعبيره، برغم أنّ تركيبتهما قد تم تعديلها لتصبح أكثر ارتباطاً بالسلطة التنفيذية.
"هذا وضع عبثي للقضاء في تونس. عين العبث أن يتم الحكم في الدائرة نفسها على شخص اغتصب أمّه بالمؤبّد، وفي المقابل يُحكم بالإعدام شنقاً على مواطن انتقد رئيس الجمهورية"... ما الذي يحدث للقضاء في تونس؟
أولاهما المجلس الأعلى للقضاء، المنوط به المسار المهني للقضاة وتأديبه، ومجرد تركيزه يسحب الحركة القضائية من سلطة وزارة العدل المباشرة، وهو ما يمنح القضاة حدّاً أدنى من الأمان الوظيفي. وثانيتهما المحكمة الدستورية وليس أسهل من إحداثها بقرار لا يحتاج إلى إمضاء رئيس الدولة دون مشاورات ولا توافقات مع أحد، ودورها دون شك فوق الحاجة إلى الشرح قضائياً وسياسياً، وفق قوله.
وفي معرض ردّه على سؤال معدّة التقرير عن ضمانات استقلالية هاتين المؤسستين عن قرارات السلطة القائمة، يجيب فوزي: "في ظل ما نعيشه اليوم، لا وجود للحد الأدنى للوصول إلى ضمانات لحماية الحقوق والحريات، حتى بإحداث هاتين المؤسستين"، مستدركاً: "ما لا يدرَك كله، لا يترك كله. فهذه المؤسسات يمكن أن تخفّف من هيمنة وزارة العدل على القضاة".
ويبيّن فوزي، لرصيف22، أنّ هناك هيمنةً مطلقةً، و"انمساحاً كلّياً" للقضاة أمام وزيرة العدل، في ظلّ المخاوف من التنكيل عبر مذكرات النقل، والترقية، والإيقاف عن العمل بجرّة قلم. "ليس هناك إذلال أكثر من أن يتم إخبار القاضي بنقله عبر ورقة يوصلها له الحاجب في أثناء الجلسة"، يعقّب.
واقع قضائي مأزوم ينعكس سلباً على واقع حقوقي بائس، ما يزيد عبثية المشهد وسرياليته، فحتى الدعوات إلى تفعيل مؤسسات ضامنة ولو بحدّ أدنى لاستقلالية القضاء، تحيل المعارضين لنظام قيس سعيد إلى سؤال أصعب: "ألا يُعدّ تركيز -والضغط نحو تركيز- مثل هذه المؤسسات بسلطة واستقلالية نسبية، تطبيعاً مع ما يعدّونه "انقلاباً على الشرعية"؟
في هذا الصدد، يرى فوزي أنّ "ما يمكن أن يغيّر الواقع السياسي اليوم نسبيّاً، وفي أفق متوسط، هو العمل ضمن ما يتيحه النظام السياسي، والاستثمار في الحد الأدنى من إمكانيات الحديث والكتابة، فهذا أكثر فاعليةً من التمسّك برفض التطبيع مع النظام، ورفض المطالبة بتفعيل بعض المؤسسات، الأمر الذي يستنزف الجميع داخل الحلقة المفرغة نفسها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.