"قضاء مستقلّ خيرٌ من ألف دستور"؛ كلمات كان يردّدها الرئيس التونسي قيس سعيد، قبل تنصيبه ساكناً جديداً لقصر قرطاج، هو القادم من مدرجات الجامعات، كأستاذ في القانون الدستوري خاض غمار السياسة لأول مرة في عام 2019، ليصبح الرئيس السابع للجمهورية التونسية.
راهناً، تعيش قصور العدالة في تونس فصلاً جديداً من معركة السلطة مع المعارضين السياسيين، بعد موجة اعتقالات شنّتها قوات الأمن التونسية في شباط/ فبراير 2023، ضد قيادات سياسية معارضة ورجال أعمال وأمنيين.
فبعد مرور عامين على اعتقال هؤلاء على ذمّة ما يُعرف بقضية "التآمر على أمن الدولة"، انطلقت أولى جلسات محاكمة نحو 40 معارضاً سياسياً من مختلف التيارات السياسية، وتنتظرهم عقوبات ثقيلة قد تصل إلى الإعدام أو السجن مدى الحياة.
تتجه الأنظار اليوم، نحو القضاء التونسي في اختبار جديد لإبراز مدى "استقلاليته" في ظلّ اتهامات المعارضة للرئيس سعيد، بتوظيف القضاء لخدمة أغراضه السياسية والتنكيل بخصومه.
القضاء "سلاح السلطة"
في حديثه إلى رصيف22، يؤكد المحامي التونسي أحمد صواب، عضو هيئة الدفاع في قضية "التآمر على أمن الدولة"، أنّ "القضاء التونسي اليوم هو قضاء غير مستقلّ بشهادة الجميع، وسط غياب المجلس الأعلى للقضاء، الذي يمثّل 'برّ الأمان' للقضاة".
"السلطة التنفيذية وضعت يدها على السلطة القضائية عبر توظيف القضاء لضرب الخصوم السياسيين واجتثاث المعارضة"... مخاوف جدّية بشأن "استقلالية" القضاء في تونس في ظلّ تركّز المتابعات القضائية ضد معارضي قيس سعيد ومنتقديه
ويضيف صواب، أنّ ملف "التآمر على أمن الدولة" ليس سوى "تآمر من السلطة على المعارضين"، لغياب أيّ أدلة مادية في هذا الملف، وأنّ المحاكمة العادلة تشترط توفير ثلاثة عناصر رئيسية، هي المحكمة، والمتّهمون، وهيئة الدفاع، وهو ما لا يتوافر في هذه المحاكمة.
ويرى المحامي التونسي، أنّ السلطة القضائية في البلاد أصبحت تخضع للسلطة التنفيذية، وذلك بعد قرار حلّ المجلس الأعلى للقضاء، مطلع شباط/ فبراير عام 2022، واستبداله بهيئة جديدة تحمل اسم "المجلس الأعلى المؤقت للقضاء". كما أصدر المرسوم 35، الذي يقضي بتعيين القضاة وعزلهم في خطوة فجّرت جدلاً واسعاً حول استقلالية السلطة القضائية في تونس.
والمجلس الأعلى للقضاء، "مؤسسة دستورية تونسية ضامنة في نطاق صلاحياتها حسن سير القضاء واستقلالية السلطة القضائية، طبقاً لأحكام الدستور والمعاهدات الدولية المصادق عليها في دستور 2014".
ويخوّل "الأمر الرئاسي 117"، لسنة 2021، المتعلّق بالتدابير الاستثنائية، الرئيس التونسي قيس سعيد، الحق في ممارسة السلطة التشريعية، وإصدار المراسيم لتنظيم العدالة والقضاء.
من جانبه، يقول أستاذ القانون الدستوري في جامعة تونس، الصغير الزكراوي، لرصيف22، إنّ جريمة "التآمر على أمن الدولة" تُعدّ من أخطر الجرائم وتصل عقوبتها إلى الإعدام، مؤكداً أنها قضية مفتعلة ومركّبة تفتقر إلى سند قانوني، مع غياب عنصر "الإعداد للتآمر"، بما في ذلك الإعداد العسكري أو الاستنجاد بقوى أجنبية، لافتاً في هذا الخصوص إلى أنّ القضاء التونسي برّأ السفارات الأجنبية من هذه القضية.
ويصف الزكراوي قضية التآمر بأنها قضية بملفات جوفاء واهية، ولا أساس لها على مستوى القانون، إذ تفتقد أركان التآمر، مشيراً إلى أنّ "القضاء التونسي في هذه المرحلة وُظّف لخدمة السلطة التنفيذية، وبات قضاء تعليمات وقضاءً فقد استقلاليته، وتالياً لا يمكنه توفير محاكمة عادلة للمتهمين في هذه القضية".
عدالة... عن بعد؟
وكانت المحكمة الابتدائية في تونس، قد أعلنت عن إجراء أول جلسة محاكمة فعلية ضمن قضية التآمر "عن بُعد وبشكل غير علني"، ودون جلب المتهمين إلى المحكمة، في خطوة أثارت المخاوف من محاكمات سرّية وغير عادلة، خاصّةً أنّ هذا الإجراء يستند إلى الفصل 141 مكرّر، من المجلة الجزائية، بموجب المرسوم الصادر عن رئيس الحكومة إبّان جائحة كورونا، إلياس الفخفاخ.
وفي هذا السياق، ينتقد الزكراوي، إجراء المحاكمة عن بعد في مثل هذه القضايا الحسّاسة، مذكّراً بوجود نص قانوني في الظروف الاستثنائية، مثل "جائحة كورونا"، يُجيز للمحاكم عقد جلساتها في هذه الحالة عن بعد، وأنه قد أجريت فعلاً مثل هذه المحاكمات عن بعد، خاصةً في القضايا العدلية لا في القضايا ذات البعد السياسي.
ويؤكد أنه "لم يسبق في تاريخ القضاء التونسي تنظيم المحاكمة عن بعد، خاصةً في قضايا التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي، وهو ما يُعدّ سابقةً في تاريخ القضاء التونسي". كما يشير في حديثه إلى أنّ المحاكمة عن بعد تفتقر إلى الشروط الدنيا العادلة والمتمثّلة في حضور المتهم أمام المحكمة محاطاً بمحاميه وعائلته، مشدّداً على أنّ "شروط المحاكمة العادلة تقتضي المحاكمة العلنية والحضورية".
وفي رأيه، فإنّ هناك مبادئ أساسيةً يجب احترامها كحق الدفاع وحق المواجهة واطلاع الرأي العام على تفاصيل هذه القضية التي أصبحت محل سجال داخل تونس وخارجها. ويجزم الباحث في القانون الدستوري، بأنه لا يمكن مقارنة وضع القضاء التونسي خلال فترة حكم زين الدين بن علي، والقضاء تحت حكم قيس سعيد، حيث يمرّ حالياً بمحطة فاصلة في تاريخه.
"ما يحصل غير مسبوق"
إلى ذلك، يرى المحامي التونسي سمير ديلو، في حديثه إلى رصيف22، أنّ "القضاء في السنوات الثلاث الأخيرة، لم يعد بحاجة إلى أي اختبار لاستقلاليته باعتبار أنّ السلطة الحالية ضربت استقلالية القضاء بشكل كامل، ونجحت في ذلك عبر استخدام سياسة الترهيب والتخويف والتسيير المباشر 'للوظيفة القضائية' عبر مذكرات عمل تصدرها وزيرة العدل بشكل شبه يومي".
ويوضح ديلو، أنه لم يعد من الممكن الحديث عن استقلالية القضاء التونسي بعد أن تم حلّ المجلس الأعلى للقضاء وإعفاء العشرات من القضاة من مهامهم وتوجيه تطبيق "قانون مكافحة الإرهاب" لاستهداف المعارضة السياسية في البلاد.
كما يشدّد على أنّ ما يحصل في هذه القضية "غير مسبوق"، وعلى نحو خاص لأنّ "الأصل في المؤامرات أن تُحاك في جنح الظلام وتنفَّذ تحت جنح الظلام، ومن ثمّ يتم التشهير بها علناً، وكشف من يقف خلفها حيث يتم إطلاع الشعب على تفاصيلها، ونقل وقائع المحكمة إلى الرأي العام التونسي على الهواء مباشرةً لدحض ادعاءات هيئة الدفاع عن المعتقلين السياسيين بأنّ المؤامرة الوحيدة التي يكشفها هذا الملف هي مؤامرة السلطة ضد المعارضة".
ويوضح المحامي ديلو، أيضاً، أنّ السلطة التونسية عملت على حجب الحقيقة طوال سنتين من خلال "منع التداول الإعلامي"، وهي الآن تسعى إلى مواصلة التستر على تفاصيل القضية بمنع حضور المتهمين، لكنها لم تنجح حتى الآن في صياغة قرار سليم من الناحية القانونية.
"بعد قرار منع تداول قضية 'التآمر على أمن الدولة' إعلامياً طوال عامَين، أصدرت السلطة قراراً جديداً يقضي بإجراء 'محاكمة سرّية' لإخفاء الحقيقة وحجبها عن الرأي العام التونسي، وهذا ما يعزّز البعد السياسي لهذه القضية"
"العدالة كسلاح لتصفية الخصوم"
بدوره، يؤكد المتحدث باسم الحزب الجمهوري، وسام الصغير، لرصيف22، أنّ تمسّك السلطات التونسية بإجراء محاكمة عن بعد في ملف "التآمر على أمن الدولة"، يعكس الرغبة في مواصلة فرض رقابة على سير المحاكمة، لبسط يدها مرةً أخرى على "قصور العدالة"، وجعل القضاء سلاحاً بيد السلطة التنفيذية لتصفية خصومها السياسيين.
ويضيف أنه بعد قرار منع تداول القضية إعلامياً طوال عامين، أصدرت السلطة قراراً جديداً يقضي بإجراء "محاكمة سرّية" لإخفاء الحقيقة وحجبها عن الرأي العام التونسي، وهذا ما يعزّز البعد السياسي لهذه القضية، على حدّ قوله.
ويرى الصغير أنّ الغموض الذي يلفّ هذه القضية الكبرى يساعد في التحكّم بالسردية الرسمية للقضية، ومنع ظهور أي روايات أخرى عنها، وهذا يندرج ضمن التضييق على الإعلام في القضايا السياسية الحسّاسة، لضمان عدم تحوّلها إلى موضع إدانة من قبل الرأي العام المحلي والدولي.
"ورقة سياسية لاجتثاث المعارضة"
ويتابع قائلاً إنّ قضية التآمر على أمن الدولة المطروحة في قصور العدالة التونسية، هي اختبار جدّي لاستقلالية القضاء، مستشهداً ببيان جمعية القضاة التونسيين، قبل نحو أسبوعين، والتي عدّت هذه القضية مجرد وسيلة لاجتثاث المعارضة وتصفيتها سياسياً، وهو ما يؤكد عدم استقلال القضاء في هذه المرحلة.
وبخصوص المحاكمة في قضية التآمر، يعتقد رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، بسام الطريفي، أنّ قرار إجراء المحاكمة عن بعد هو قرار اتخذته السلطة التنفيذية خشية فتح الباب أمام المتهمين لإبداء رأيهم ودحض التهم المنسوبة إليهم أمام العلن.
وفي تصريح لرصيف22، يعزو الطريفي، إصرار السلطات على مواصلة قضية "التآمر على أمن الدولة"، إلى الخوف من كشف الحقيقة أمام الرأي العام المحلي والدولي، مشدّداً على أنّ السلطة التنفيذية وضعت يدها على السلطة القضائية عبر توظيف القضاء لضرب الخصوم السياسيين، وعلى ضوء ذلك لن تكون هذه المحاكمة عادلةً وفق هذه المؤشرات.
ولم يفوّت محدّثنا فرصة التطرّق إلى الثغرات والخروقات التي تضمّنتها الجلسة الأولى في قضية التآمر، التي عُقدت في 4 آذار/ مارس 2025، وندّدت بعدها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في بيان بـ"الانتهاكات الجوهرية".
انتقادات دولية
منذ بدء هذه القضية، استندت السلطات التونسية بشكل متكرّر إلى القانون الأساسي لمكافحة الإرهاب لسنة 2015، لتوصيف أفعال من تتهمهم بالتآمر على أمن الدولة. ومن بين المتهمين في هذه القضية المثيرة للجدل، رئيس "الحزب الجمهوري" عصام الشابي، والمحامي جوهر بن مبارك، والمسؤول السابق في حزب "النهضة" عبد الحميد الجلاصي، والناشطة السياسية والحقوقية شيماء عيسى، ورجل الأعمال كمال اللطيف، والنائبة السابقة بشرى بلحاج حميدة، والكاتب الفرنسي برنار هنري ليفي.
وزادت هذه القضية من حدّة الانتقادات الدولية لوضع الحريات وحقوق الإنسان في تونس، حيث أعربت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، الشهر الماضي، عن قلقها إزاء هذه المحاكمات، داعيةً السلطات التونسية إلى "وقف جميع أشكال اضطهاد المعارضين السياسيين، واحترام الحق في حرية الرأي والتعبير".
في المقابل، ردّت تونس بالإعراب عن "بالغ الاستغراب" لهذه الانتقادات، مؤكدةً أنّ المتهمين أُحيلوا إلى المحاكم بسبب "جرائم حقّ عام لا علاقة لها بنشاطهم الحزبي أو السياسي أو بممارسة حرية الرأي والتعبير".
وأضافت وزارة الخارجية التونسية، في بيان لها، أنّ تونس يمكن أن تعطي دروساً "لمن يعتقد بأنه في موقع يسمح له بتوجيه بيانات أو دروس".
منذ عهد الاستعمار الفرنسي وحتّى حكم قيس سعيد، وظّفت الأنظمة في تونس تهمة "التآمر على أمن الدولة" ضد الخصوم السياسيين والقادة العسكريين. هذه أبرز الحالات وأهم التقاطعات بينها
"التآمر"... التهمة الأخطر
تهمة "التآمر على أمن الدولة" في تونس، تعود جذورها إلى عهد الاستعمار الفرنسي، من خلال الأمر العليّ المؤرخ في 29 كانون الثاني/ يناير 1926، حيث أُسندت صلاحية النظر فيها إلى المحاكم الفرنسية.
تحت حكم بن علي، لجأ النظام إلى هذه التهمة للحفاظ على سلطته وتثبيت نفوذه على الأجهزة ومراكز النفوذ، ومن أبرز القضايا التي وُجّهت فيها تهمة التآمر في حقّ مجموعة من العسكريين، قضية "برّاكة الساحل" التي تعود أحداثها إلى عام 1991، حين أعلن وزير الداخلية آنذاك، عبد الله القلال، الكشف عن محاولة انقلاب على نظام الحكم تمّ التخطيط لها من قبل مجموعة من العسكريين خلال اجتماعهم في قرية براكة الساحل.
على إثر ذلك، شُنّت حملة اعتقالات واسعة بحق قيادات عسكرية حوكمت في ما بعد بهذه التهمة وتهم أخرى، من بينها الاعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة، بالإضافة إلى محاولة اغتيال رئيس الدولة، وانتهت بأحكام السجن المؤبّد بحقّ العشرات من قيادات حركة "النهضة" الإسلامية.
بعد ثورة 2011، أعاد رئيس الحكومة الأسبق، يوسف الشاهد، تهمة "التآمر على أمن الدولة"، إلى صدارة المشهد العام التونسي، في معركته مع حزب "نداء تونس" حينها، ووجّه هذه التهمة إلى شخصيات أبرزها رجل الأعمال شفيق جراية، ووزير الداخلية ناجم الغرسلي، والمدير العام للمصالح المختصة عماد عاشور، ومدير الوحدة الوطنية للبحث في جرائم الإرهاب صابر العجيلي.
ختاماً، تعيدنا قضية التآمر المنظورة اليوم أمام القضاء التونسي، إلى تلك المحاكمات السياسية التي قادتها أنظمة الحكم السابقة في تونس. وبرغم اختلاف السياقات التاريخية في ما بينها، إلا أنها تتقاطع مع توظيف القضاء لضرب الخصوم السياسيين، مع العلم بأنها لم تسفر أبداً عن بقاء أي نظام دكتاتوري.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Souma AZZAM -
منذ يومينالدروز ليسوا نموذجًا واحدًا في الاعتقاد والسلوك. اما في مستوى العقيدة، فهم لا يؤمنون بالسحر، وإن...
محمد دراجي -
منذ 3 أيامأخي الفاضل قبل نشر مقالة عليك بالتحقق خاصة في علم الأنساب والعروش والقبائل فتسمية بني هجرس ولدت...
م.هيثم عادل رشدي -
منذ أسبوعمقال رائع وضع النقاط على الحروف فالحقيقة أن النزاعات جعلت أبناء شعوبنا متشردين ولاجئين ومهاجرين...
Sohila Amr -
منذ أسبوعتعود من جديد شعلة ثورة في نفوس، وكأنها لعنة كلما كذبنا وقلنا انها صدفة او خدعة اصبنا بها ولكن لقد...
Yusuf Ali -
منذ أسبوعلن أعلق على كل كلامكِ والكثير من المغالطات التي وردت، وسأكتفي بالتعليق على خاتمتكِ فقط:
قلتِ:...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعThis media body is clearly within the circles of the Makhzen. Otherwise, it would not have been...