كنت كلما سألني أحد عن شيء -أيّ شيء - أتبع إجابتي بالقول: بعد الحرب.
هذا ما كنت أفعله طوال الحروب السابقة، فمهما اشتدّت الحرب كنت أعرف يقيناً أنها ستنتهي، إن لم يكن اليوم فغداً، وإن لم يكن غداً فبالتأكيد في اليوم الذي يليه. وقد عزّز يقيني هذا ما كان يحدث بالفعل: تستمرّ الحرب عشرة أيام، شهراً، شهرين، لكنها في النهاية تنتهي كأيّ حرب في العالم، ثم يعود كل شيء كما كان.
لم تكن هذه قناعتي وحدي، بل كانت قناعة أهلي أيضاً: العائلة الصغيرة، الأصدقاء، الجيران، وكل من أعرفهم في غزة. لذلك كلما كانت الحرب تشتدّ أكثر، كنا ندرك أنها تقترب من النهاية، فيصير كل كلامنا فجأةً متبوعاً بجملة: بعد الحرب. سنلتقي بعد الحرب، سنسافر بعد الحرب، سنرمم البيت بعد الحرب، سنتزوج بعد الحرب... وهكذا مع كل الأشياء الأخرى التي كان من المفترض أن تحدث هذه المرة أيضاً بعد الحرب.
التدرّب على الأمل
لم تكن جملة "بعد الحرب" تعويذةً ضد الخوف واليأس، بقدر ما كانت دائماً "تدريباً على الأمل". فهذه الحروف الثمانية كانت قادرةً في كل مرة على فتح شبّاك الأمل في العيون، لتصير الحرب في الأذهان مجرد فترة زمنية يخرج الواحد منها لا فاقداً ولا مفقوداً، مع بعض الأضرار التي يمكن تعويضها مع مرور الوقت. فبعد الحرب، نعيد ترتيب المواعيد لنلتقي الذين نحبّهم، ونمشي في شوارع المدينة دون خوف من رصاصة.
لا تجد غزّياً واحداً يقول: سأفعل كذا وكذا في الحرب، بل تجد الجميع يُتبعون كلامهم بجملة "بعد الحرب". كأنّ الحياة ستبدأ فعلياً بعد الحرب، وما هو كائن اليوم ليس سوى وقت سيمضي ليعود بعده كل شيء كما كان
وعلى الرغم من أنّ حرب الإبادة التي سنّت سكاكينها في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، لم تكن كما سابقاتها، إلا أنّ جملة "بعد الحرب" ظلت تُستخدم كما كانت. فما زلت مقتنعاً أنني سأعود إلى بيتي المهدّم بعد الحرب، وسأسقي دالية العنب في الحوش، وأطمئن على الحمام فوق السطح، وعندما يجيء المساء سوف أتمشى مع الأصدقاء كلّهم، حتى الذين رحلوا إلى الأبد، في شوارع المدينة. وثمة شيء لن يكون ناقصاً.
الرجل المنزعج من حرارة الخيمة يقول: سأبني بيتاً كبيراً بعد الحرب. الطفل الغارق في رمال المواصي يقول: ستزهر الدنيا ألعاباً ومنتزهات بعد الحرب. والعجوز الذي فقد نصف وزنه من الجوع يقول: سأشبع بعد الحرب… والناجي الوحيد الذي ظلّ أهله تحت الأنقاض يقول: سأدفن أهلي بعد الحرب، سأصنع لكل واحد منهم قبراً. أما الأم التي فقدت آثار ابنها منذ الهدنة الأولى فتقول: أنا متأكدة من أنه سيعود... بعد الحرب.
وهكذا، لا تجد غزّياً واحداً يقول: سأفعل كذا وكذا في الحرب، بل تجد الجميع يُتبعون كلامهم بجملة "بعد الحرب". كأنّ الحياة ستبدأ فعلياً بعد الحرب، وما هو كائن اليوم ليس سوى وقت سيمضي ليعود بعده كل شيء كما كان، وكأنّ لسان حالهم يقول ما قاله باولو كويلو: "أكرر ما قلته من قبل: إنها مجرد مرحلة". وهي في الحقيقة ليست مرحلةً، لكنها الوهم الذي يجعلك تفقد منطقك في واقع كل ما فيه ليس منطقياً، أو درب من الخيال.
حيلة أخرى للبقاء
بعيداً عن حسابات الوهم والأمل، تأتي جملة "بعد الحرب" أيضاً كدرع واقٍ ضد الحقيقة المفجعة، وكرد فعل على الصدمة التي لم تتوقف عن النمو منذ السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر. نقولها لنحمي أنفسنا من حقيقة أنّ الطائرات ما زالت تحرقنا ليل نهار، ومن حقيقة أنّ الوجوه التي غابت لن تعود أبداً، وأنّ الحرب لن تنتهي اليوم ولا غداً ولا الشهر القادم، لتصبح بذلك وسيلةً لإنكار الواقع ورفضه، والتشبث بصورة ماضٍ لم يعد موجوداً.
وفي لحظة ضعف، تكون جملة "بعد الحرب" ملاذاً آمناً كي لا ننكسر تماماً، كي لا نقع في حفرة يأس لا يُخرجنا منها سوى الموت، وكي نستطيع هزيمة الأرق ليلاً والنوم ولو قليلاً. وهكذا تصبح الجملة بمثابة حيلة خفيّة من أجل البقاء على قيد الحياة، ومن أجل تجاهل الحقيقة الراقدة هناك وراء الخيمة، وإن لساعات معدودة.
أدرك كما أهلي أنّ الحقيقة هناك وراء الخيمة، وأنّ المدينة بمعناها المكاني والنفسي أصبحت بعيدةً للغاية لا يوصل إليها سوى "الوهم". على الرغم من ذلك، ما زلنا جميعاً، هم وأنا، ننتظر ترك الخيمة والعودة إلى هناك... إلى المدينة التي تركناها خلفنا، على أمل أن نجدها كما كانت أسوةً بالحروب السابقة. ففي رأس كل منّا لا تزال المدينة كاملةً بحاراتها وأزقتها وشوارعها، و"بعد الحرب" سنعود لنجدها كما هي دون أي نقصان، وكأنّ ما حدث ويحدث مجرد كابوس مزعج وسأستيقظ أنا وأهلي بعد قليل من النوم.
على الأحبة أن يعودوا بعد الحرب، على البيت أن يعود كاملاً دون نقصان، بعد الحرب، وإلا أين سأنام؟ وعلى أي سرير سأحلم؟ وكيف سأستقبل أحبّائي العائدين؟ على الشوارع أيضاً أن تعود، وإلا كيف سأذهب إلى البحر؟ لذلك أنا على يقين من أنّ كل شيء سيعود كما كان، وهذا ما يجعلني أنتظر نهايتها بفارغ الصبر
ولكن الحقيقة تقول: لن أعود إلى البيت بعد الحرب، ولن أجد شارعاً أصلاً يوصلني إليه، وسأتيه حتماً إن فكرت في الذهاب عبر شوارع فرعية اختصاراً لطول الطريق وتجنّباً لحرارة الشمس. أما إن اعتمدت على حدسي في المشي، فستوصلني قدماي إلى كومة من الذكريات، إلى بقايا عظام أصدقائي تحت ركام بيوتهم، وإلى أصوات لم تقتلها الطائرات في رأسي؛ أصوات ستظلّ عالقةً على جسدي إلى الأبد.
على حياتنا أن تعود بعد الحرب
لأنّ "على الأحبّاء أن يعودوا إذا ناديتهم"، كما يقول وديع سعادة، ما زلت مقتنعاً تماماً بأن أحبائي سيعودون بعد الحرب. سألتقي بهم ونكمل أحاديثنا التي قطعها الطيران وضجيج الكواد كابتر.
سألتقي بهم ليحدّثوني عن النجاة والأحلام البعيدة، وعن مشاريعهم "بعد الحرب". ألم يعودوا بعد كل الحروب السابقة؟ إذاً، عليهم أن يعودوا هذه المرة أيضاً؛ فلا يحق لأحد أن يرحل هكذا فجأةً دون أن يودّع الذين يحبّونه، ودون أن يشيّعوه على الأقل. لذلك "عليهم أن يعودوا ولو كانوا ماءً. لو كانوا أمواتاً. لو كانوا طحلباً".
وعلى البيت أن يعود أيضاً، كاملاً دون نقصان، بعد الحرب، وإلا أين سأنام؟ وعلى أي سرير سأحلم؟ وكيف سأستقبل أحبّائي العائدين؟ ومن أي باب سيدخل الأمل إلى أهلي؛ أليس الأمل بحاجة إلى باب ليدخل منه إلى حياتنا نحن البشر؟!
على الشوارع أيضاً أن تعود بعد الحرب، وإلا كيف سأذهب إلى البحر؟ لذلك أنا على يقين من أنّ كل شيء سيعود كما كان "بعد الحرب"، وهذا ما يجعلني أنتظر نهايتها بفارغ الصبر. ولكنني أخاف شيئاً واحداً فقط كما كتبت شروق دغمش: "أخاف أن تنتهي فرصي بالنجاة، ولا أفعل شيئاً بعد الحرب، ولا أكون بعد الحرب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.