في غزة، حيث يتحوّل الحقّ في العلاج إلى سباقٍ مع الزمن تُفاقمه الحرب بكلّ تفاصيلها، فجّر سفرُ ناشطةٍ مجتمعية برفقة شقيقها المصاب عبر تحويلٍ طبيٍّ مثيرٍ للجدل عاصفةً من الأسئلة حول العدالة الصحية في القطاع في زمن الإبادة.
ليست مجرّد حالةٍ فردية، بل نافذةٌ تكشف أزمةً أعمق: كيف تُدار ملفات العلاج في الخارج؟ ومن يملك سلطةَ تقرير مَن يسافر للعلاج ومَن يبقى عالقاً بين الألم والانتظار؟
بداية الجدل
كشف التحويلُ الطبيّ المثير للجدل ثغراتِ نظام التحويلات الطبية في غزة؛ إذ تُظهر وثيقةٌ طبيةٌ رسمية صادرة عن مستشفى ناصر الطبي جنوبَ غزة أنّ "الناشطة المجتمعية" كانت تعاني من حصى في الكلى، وأنّ الباركود المرفق يؤكّد صلاحيتها عند مسحه ضوئياً، إذ ينقل المستخدم مباشرةً إلى المنصّة الرسمية للخدمات الإلكترونية للتحويلات الطبية الفلسطينية.
والمفارقةُ المؤلمة أنّ حالةً صحية وُصفت بأنّها غيرُ خطيرة نالت فرصةَ السفر، فيما مئاتُ مرضى السرطان وأصحابُ الأمراض الخطيرة والجرحى بإصاباتٍ حرجة ظلّوا عالقين، بل رحل بعضهم قبل أن يصل إلى حقّه في العلاج.
أثارت قصة سفر ناشطة مجتمعية من غزّة للعلاج جدلاً واسعاً، بعدما سافرت عبر تحويلة طبية شخّصتها بأنها مصابة بـ"حصوة في المرارة" فيما مئات الحالات الطبية الخطيرة العالقة، والتي تنتظر دورها للعلاج في الخارج
يعلّق الصحافي الثلاثيني المتواجد في غزة، أحمد غانم، على القصة: "منذ عامٍ كامل، وأمّي تصارع السرطان بين يديّ. عامٌ بأكمله قضيتُه أطرق كلّ باب، أتوسّل وأناشد، أُنادي وأطالب، لعلّي أظفر بفرصةٍ واحدة لإنقاذها، لكن دون جدوى. بعد عامٍ من الخيبات، استسلمتُ مُرغماً، ووافقتُ على إخضاعها للعلاج الكيماوي كجزءٍ مبتورٍ من بروتوكول علاجها".
ويُكمل في حديثه لرصيف22: "بعد أن حُرمت أمي من العلاج المناعي، كادت تفقد حياتها من الجرعة الأولى؛ هبط دمها إلى ما دون 5، وتلاشت مناعتها حتى الصفر. قضت أمي معظم فترة علاجها في إحدى مشافي غزة مُلقاةً في ممرٍّ بائس. طالبتُ مراراً بسريرٍ طبي، فقيل لي: لا يتوفر. عُرض عليّ سريرٌ خشبيٌّ حطّم عظامها، أو العودة إلى المنزل! عشرةُ أيامٍ كاملة تحمّلنا الإهمال والفساد الإداري وغيابَ بعض الأطباء عن نوباتهم، بل ونومَ بعضهم أثناء المناوبة، ناهيك عن عدم توفّر الأدوية الأساسية، واضطررتُ لشراء أبسط المسكنات الوريدية والعضلية بمالي الخاص".
ويشير أحمد إلى أنّ المشافي صارت "مسالخَ بشرية"، واصفاً كيف تدهورت صحة والدته داخل إحدى المستشفيات بدلاً من أن تتحسّن، لتخرج إلى بيتٍ مهدّدٍ بالنزوح مجدداً، مُنهَكةً تنتقل من الركام إلى خيمةٍ جديدة.
ويستطرد: "واليوم، وبعد كلّ ما جرى، أتفاجأ أنّ إحداهنّ غادرت عبر تحويلةٍ طبيةٍ كتبها طبيبٌ في وزارة الصحة نفسها! والمرض؟ مجرّد حصوةٍ في الكلى. هذه الفتاة خرجت بغيرِ وجهِ حقٍّ، وأخذت دور أمي وربّما دورَ مريضٍ آخر يحتضر".
ويحمّل أحمد وزارةَ الصحة المسؤوليةَ المباشرة عن السماح بخروج حالةٍ غير عاجلة بينما تُترك مئاتُ الحالات الحرجة عالقة، ويختم مناشدته: "أطالب بخروج أمي فوراً للعلاج، فهي أحقّ من أيّ حالةٍ أخرى، وأطالب بمحاسبة مَن سهّل هذه التحويلة، وتوضيح كيف غادرت مريضةٌ بحصوةِ كُلى بينما يُحكَم على مرضى السرطان بالموت البطيء".
وزارة الصحة… نفيُ العلاقة الرسمية
في محاولةٍ لاحتواء الجدل، اكتفت وزارةُ الصحة في قطاع غزة ببيانٍ مقتضب بتاريخ 11 أيلول/سبتمبر 2025، نفت فيه علاقتها بسفر "الناشطة المجتمعية"، وأكّدت أنّ المذكورة حصلت على تحويلةٍ وفق نظام الوزارة، لكنها لم تُصنَّف كأولويةٍ طارئةٍ للسفر، وأنّ منظومة التحويل الطبي واضحةٌ وتتمّ عبر برنامجٍ وقنواتٍ معتمدة.
يقول أحد الأشخاص لرصيف22 بأن أحد الوسطاء طلب منه مبلغ 20 ألف دولار مقابل تسريع تحويلة طبية، ما يكشف فساداً يضاف إلى التعقيدات الإدارية في قطاع الصحة.
جرّاحُ الدماغ والعمود الفقري في غزة، الدكتور محمد الهوبي، كتب في منشورٍ على صفحته الشخصية في فيسبوك أنّ شقيقَ الناشطة، ملاك فضة، أُجريت له عمليةٌ جراحية لإنقاذ حياته في 13 تموز/يوليو الماضي، وتحسّنت حالته بشكلٍ ملحوظ حتى غادر المستشفى بصحةٍ جيدة. وأكّد أنّه تلقّى عدّة طلباتٍ لكتابة تحويلةٍ طبيةٍ له، لكنه رفض بشكلٍ قاطع، موضحاً أنّ المريض لم يكن بحاجةٍ إلى سفرٍ علاجي بعد تحسّنه.
وبحسب الطبيب، حصلت العائلةُ لاحقاً على موافقةٍ مبدئيةٍ من دولةٍ أجنبية، وأُدرِج اسمُه في كشوفات السفر رغم القيود المفروضة عادةً على فئة الذكور الشباب، غير أنّ وزارةَ الصحة ناقشت الأمر مجدداً وخلصت إلى أنّ حالته مستقرة ولا تستدعي العلاج في الخارج.
لكنّ المفاجأة كانت عند مراجعة الأوراق؛ إذ تبيّن وجودُ تزويرٍ واستخدامٌ غيرُ قانونيٍّ لمستنداتٍ من داخل أحد المستشفيات، قُدِّمت لجهاتٍ وسيطةٍ على أساس أنّ الشاب يمتلك تحويلةً رسمية، وهو ما تمّ رفضُه مسبقاً بشكلٍ كامل.
وأضاف: "حتى عندما حضرت إليّ شخصياً للحصول على الموافقة، رفضتُ الطلب لأنّه لا يستحقّ السفر بعد نجاح العملية".
وختم بأنّ المذكورة تمكّنت من مرافقة شقيقها عبر تنسيقٍ خارجي، خارج إطار وزارة الصحة، ومن خلال أحد المستشفيات الميدانية، "دون علم الوزارة أو موافقتها الرسمية."
المعاناةُ اليومية بين الركام والشلل
في مخيّم النصيرات، جلست زينب الشيخ (60 عاماً) على سريرها المتحرّك تتأمّل الجدار بصمتٍ ثقيل، وهي تتذكّر الليلةَ التي تغيّرت فيها حياتها. تقول لرصيف22: "في 19 أيار/ماي 2024 انقلبت حياتي رأساً على عقب. بيتُنا صار كومةَ حجارة، وبقيتُ ساعتين تحت الركام أُصارع الموت حتى سمعني أحدُ المنقذين بالصدفة".
فقدت زينب تسعةً من أفراد عائلتها، وأُصيبت بشللٍ نصفيٍّ جعلها عاجزةً عن الحركة وخدمة نفسها، كما تعاني من تقرّحاتٍ في قدمها وألمٍ شديدٍ نتيجة نقص المسكنات وسوء التغذية. وتتابع: "حصلتُ على تحويلةٍ طبيةٍ للعلاج في الخارج، لكنها لا تزال عالقةً في قوائم الانتظار. كلّ يومِ تأخيرٍ يُضاعف ألمي، وأنا لا أطلب سوى حقي الطبيعي في العلاج".
يقول مديرُ مركز المعلومات الصحية في وزارة الصحة في غزة، زاهر الوحيدي، إنّ نحو 1100 مريضٍ تمكّنوا من السفر عبر معبر رفح خلال فترة وقف إطلاق النار، فيما لم يُغادِر سوى نحو 100 مريضٍ ومرافقيهم بعد إغلاقه والاعتماد على معبر كرم أبو سالم الخاضع للسيطرة الإسرائيلية.
وبحسب ورقةٍ صادرةٍ عن "ائتلاف أمان"، تستند التحويلاتُ الطبية إلى تعميمِ الوزارة بتاريخ 17 شباط/فبراير 2024، ويحدِّد ثلاثَ فئاتٍ رئيسية: الإصاباتُ التي تتطلب جراحةً لإنقاذ الحياة، حالاتُ الأورام المثبتة، والحالاتُ التي قد يؤدّي عدمُ علاجِها إلى الوفاة.
الوجه الخفيّ للتحويلات الطبية
رغم وضوح هذه المعايير، تكشف شهاداتُ المرضى والأطباء عن ثغراتٍ في النظام؛ إذ أشار طبيبٌ — فضّل عدمَ ذِكرِ اسمِه — إلى أنّ بعضَ الأطباء تلقّوا مبالغَ ماليةً من أشخاصٍ لا يعانون من أمراضٍ مقابل إعدادِ تقاريرَ وتسهيلِ سفرِهم، مستفيدين من الفوضى داخل المستشفيات.
على الرغم من أن وزارة الصحة تضع معايير واضحة للتحويلات: جراحات لإنقاذ الحياة، حالات أورام مثبتة، وحالات قد يؤدي إهمالها إلى الوفاة، لكن التطبيق العملي خلال حرب الإبادة يشهد تجاوزات وخللاً يُقصي أصحاب الأولوية
وأضاف أنّ هذه الممارسات تُناقَش أحياناً في مجموعاتٍ مغلقةٍ على منصّات التواصل، بينما تمكّن بعضُ الأطباء من السفر مع عائلاتهم إلى دولٍ مثل كندا وأمريكا وتركيا وألمانيا رغم عدم حاجتهم للعلاج.
أمّا محمد سمير — وهو اسمٌ مستعارٌ لشابٍّ ثلاثيني — فلم يكن يتوقّع أن تكشف رحلةُ تسريع علاج حماتِه الوجهَ الخفيّ للملفّ الطبي. يقول لرصيف22: "ذهبتُ إلى مكتب منظمة الصحة العالمية محاولاً أن أكون مرافقاً لها مع زوجتي — التي ستخرج مرافقةً لأمّها المصابة ومعها تحويلةٌ طبية — لكن اللوائح واضحة: المرافقُ من الدرجة الأولى، وإذا زاد العددُ يجب أن يكونوا قاصرين، والمريضةُ صاحبةُ التحويلة عليها الانتظارُ وفق خطورة حالتها".
ويُكمل: "بعد خروجي، اقترب منّي الوسيطُ الذي توسّط لي للدخول إلى مكتبٍ في منظمة الصحة العالمية في غزة للقاء إحدى الموظفات، وقال: إذا أردتَ تسريعَ تحويلةِ حماتِك والخروجَ معها كمرافق، يمكنك ذلك مقابل 20,000 دولار أمريكي. أدركتُ حينها أنّ التحويلات ليست مجرّد إجراءٍ طبي، بل تتحوّل أحياناً إلى صفقة مالية على حساب حياة المرضى".
ويظلّ ملفُّ التحويلات الطبية في غزة يواجه تحدّياتٍ كبيرة: من إغلاق المعابر وتقييد حركة المرضى، إلى طول قوائم الانتظار وتعقيدات الإجراءات. وبينما يترقّب آلافُ الجرحى والمرضى فرصتَهم في السفر، يبقى تحسينُ آليةِ التحويلات وضمانُ العدالة والشفافية مطلباً مُلحّاً لتخفيف معاناة المتضرّرين
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.