من الأزقّة إلى الأبراج… تجّار حلب ودمشق في مواجهة الاستثمار الأجنبي؟

من الأزقّة إلى الأبراج… تجّار حلب ودمشق في مواجهة الاستثمار الأجنبي؟

اقتصاد نحن والتنوّع

الجمعة 3 أكتوبر 202511 دقيقة للقراءة

في قلب دمشق وحلب، حيث تتشابك الأزقة القديمة مع الأبراج الحديثة للشركات والمصانع، ينبثق سؤال محوري عن دور الصناعيين والتجار السوريين في الاقتصاد الوطني: هل كانوا مجرد شركاء يتلقّون التوجيه من السلطات أو صانعي القرار الذين شكّلوا السياسات الاقتصادية للدولة عبر العقود؟ 

منذ الاستقلال، لعبت النخب الاقتصادية دوراً فعّالاً في تحديد مسار الدولة، قبل أن تتراجع تدريجياً تحت وطأة التأميم وسياسات السلطة المركزية، لتحلّ محلها طبقة اقتصادية جديدة كثيراً ما ارتبط نجاحها بـ"الولاء".

اليوم، بعد سنوات من النزيف المالي وهجرة رأس المال إلى الخارج، يواجه المستثمر السوري تحديات مركبةً: تشريعات متذبذبة، غياب الكوادر المهنية، قيود الولاء السياسي، وغياب البيئة الاستثمارية الآمنة التي تجذب رؤوس الأموال السورية العائدة من الخارج. 

ويطرح التساؤل نفسه حول إمكانية توظيف هذا الرأسمال لإعادة بناء اقتصاد وطني مستدام، بدلاً من أن يبقى هائماً في بيئات استثمارية أجنبية أكثر أماناً وجاذبية.

في هذا التقرير، يلتقي رصيف22، صناعيين ورجال أعمال سوريين، ليجيب عن السؤال الأكبر: من هم صانعو القرار الاقتصادي في سوريا اليوم، وكيف يمكنهم أن يعيدوا رسم خريطة النفوذ في بلد ينهض من تحت أنقاض الحرب؟

الصناعيون منذ الاستقلال… صانعو القرار

يرسم الأمين العام للاتحاد العربي للصناعات الجلدية، يوسف سعد، صورةً مغايرةً للتاريخ الاقتصادي السوري، ويؤكد لرصيف22، أنّ الصناعيين ورجال الأعمال لم يكونوا مجرد شركاء في القرار، بل كانوا هم صانعيه الفعليين عبر الحزب الوطني في دمشق وحزب الشعب في حلب. هذه الثنائية لم تكتفِ بالتأثير في السياسات الاقتصادية، بل امتدت لتحديد مسار الدولة وتشكيل الحكومات.

الاستثمار في سوريا تعرّض تاريخياً لثنائية التأميم والولاء، وبعد تراجع البرجوازية الوطنية صعدت طبقات قريبة من السلطة أضعفت الكفاءة والمنافسة. اليوم يتراكم الإرث نفسه مع بيئة غير مستقرة وتشريعات متقلّبة وغياب حماية فعلية للملكية

لكن هذه السيطرة بدأت بالتراجع بعد سقوط حكومة فارس الخوري عام 1955، حيث صعدت القوى الراديكالية وحاولت تفكيك النفوذ الاقتصادي للبرجوازية الوطنية، وتطبيق سياسات التأميم والإقصاء. وفق سعد، فإنّ التحولات التي تلت عام 2000، جلبت تغييرات أعمق، إذ أصبح معيار النجاح الاقتصادي الولاء السياسي أكثر من الكفاءة الاقتصادية، وهو ما أدى إلى تشويه بيئة الأعمال الوطنية وإضعاف دور الصناعيين الحقيقيين.

من الكفاءة إلى الولاء

يوضح سعد، أنّ مرحلة ما بعد التأميم دفعت شريحةً واسعةً من الصناعيين إلى الهجرة، بينما حلّت محلهم ما أسماها بـ"طبقات طفيلية" استفادت من قربها من السلطة أكثر من قدرتها على الإنتاج. ويضيف أنّ بيئة الأعمال اليوم تعاني من "تحول المعيار من الكفاءة إلى الولاء"، ما أثّر سلباً على قدرة الصناعات المحلية على المنافسة والتطوير وفق المعايير الدولية.

في هذا السياق، يشير سعد إلى أنّ رأس المال السوري الأكبر هاجر إلى الخارج، حيث وجد بيئةً استثماريةً أكثر أماناً وجاذبية. 

ويرى أنّ أي رأس مال خارجي لن يدخل إلى سوريا قبل أن يلمس جدّية عودة رأس المال السوري نفسه، وهو ما يتطلب إصلاحات عميقةً في التشريعات، وضمان الملكية، وتحرير حركة الأموال والعمالة، برغم توقيع الكثير من مذكرات التفاهم مع البلدان العربية الصديقة حول استثمارات بمليارات الدولارات، وهذا إن دلّ على شيء فعلى أنّ الحكومات العربية تشجع رعاياها المستثمرين على الاستثمار في بلد شقيق مثل سوريا، ولكنها لا تستطيع إلزامهم بالاستثمار، وجلّ ما يمكن تقديمه من قبلها هبات مالية أو ودائع أو قروض ميسرة للحكومة السورية.

بحسب ما يقول، لا يمكن للمستثمر الخارجي إنفاق الملايين في بلد آخر بموجب أمنيات حكومية، بل يتم ذلك بموجب البيئة الاستثمارية التي تحققها وتضمنها الحكومة السورية من ضمان الملكية وحرية حركة الأموال وحركة العمالة وثبات قوانين الاستيراد والتصدير، وكذلك البنية القضائية المستقلة والسريعة والشفافة، بالإضافة إلى الانضمام للاتفاقيات الإقليمية والدولية الضامنة للاستثمار.

اقتصاد حرّ أو فوضوي؟

وينتقد سعد، خطاب بعض المسؤولين الذين يرفعون شعار "الاقتصاد الحرّ" لتبرير غياب الحماية عن الصناعة الوطنية، مؤكداً أنّ أكبر الاقتصادات الحرّة في العالم، مثل الولايات المتحدة وأوروبا، تفرض قيوداً حمائيةً صارمةً على صناعاتها. 

خوف رأس المال السوري مبرر بتجارب مصادرة وبيروقراطية وعدم وجود استقرار تشريعي، كلها تثقل أي مشروع. لذلك يفضّل كثيرون البقاء في ملاذات أكثر أماناً وعائداً وتوقعاً.

من هنا، يميز بين اقتصاد حرّ منتج يخلق قيمةً ويحمي الصناعة الوطنية، وبين اقتصاد فوضوي منفلت يغرق السوق بالبضائع الأجنبية دون أي رقابة صحية أو جودة، بينما يُثقل الصناعي السوري بسلسلة من القوانين والقيود المعقّدة.

فالصناعيون لا يطالبون بالدعم المالي، وفقاً له. هم يدركون صعوبة المرحلة، لكنهم بحاجة إلى دعم تشريعي يشمل قوانين واضحةً للضرائب، وتسهيل الاستيراد والتصدير، وتأمين الطاقة، وتحرير السيولة المالية من البنوك. والمشكلة الكبرى هي أنّ الصناعيين ما زالوا بعيدين عن مطبخ صنع القرار الاقتصادي، حيث يُطالبون بالإنتاج والتصدير دون أن يُستمع إلى مطالبهم الفعلية.

دور النخب الاقتصادية والسياسية

من زاوية تحليلية، يرى الدكتور عبد القادر نعناع، أستاذ العلاقات الدولية والعلوم السياسية في جامعة الشام، أنّ النظم العسكرية المتعاقبة منذ الاستقلال جعلت العسكر في صدارة المشهد، وأقصت النخب الاقتصادية المستقلة تدريجياً.

ويشرح نعناع، لرصيف22، أنّ فترة ما بين الاستقلالَين، وما تلا الاستقلال الثاني، شهدت تأثير الإقطاعية والبرجوازية الصناعية الناشئة في صياغة السياسات، لكن هذا الدور اختفى تقريباً بعد الوحدة مع مصر، حيث أوجد النظام العسكري نخبةً اقتصاديةً مصطنعةً لخدمة مصالحه. 

وبذلك، قضت الأنظمة العسكرية-الاشتراكية على "البرجوازية الوطنية" عبر المصادرة والتهجير والتصفية، فيما ظهر خلال حكم بشار الأسد ما يُعرف بـ"برجوازية سلطوية" مرتبطة بالنظام، لكنها لم ترتقِ إلى مستوى البرجوازية الوطنية السابقة.

وبعد سقوط الأسد، يوضح نعناع أنّ "شبه العسكر" باتوا يديرون شؤون البلاد، ولا يسمحون بوجود نخبة اقتصادية مستقلة، بينما يظلّ النظام الجديد عاجزاً عن صناعة نخبة اقتصادية قوية ومستقلة يمكن أن تنافسه سياسياً. ويربط غياب النخب الاقتصادية بعوامل عدة: عدم الاستقرار الأمني والسياسي، ضعف الثقة بالنظام الجديد، ضعف البنية التحتية، وانخفاض المردودية المالية، بالإضافة إلى رغبة النظام في عدم وجود منافسة حقيقية.

الاستثمار العملي على الأرض

يشدد رجل الأعمال والإعلامي موسى العمر، على أنّ الاستثمار في سوريا ليس مجرد فكرة أو مشروعاً نظرياً، بل استجابة عملية لواقع اقتصادي، أمني، تشريعي، وإداري متشابك. ويقول إنّ الدولة تقدم التطمينات للمستثمرين، لكن المطلوب ترجمة هذه التطمينات إلى خطوات فعلية داخل المؤسسات، مثل تبسيط إجراءات التسجيل والموافقات، وضمان التعامل مع الأراضي الحكومية بسلاسة، وتسهيل تراخيص المشاريع دون تعقيد بيروقراطي.

اليوم يظهر الاستثمار الأجنبي منافساً مغرياً برأس مال وفير، بينما رأس المال المحلي وتجار حلب ودمشق هاجروا من سوريا، ومتردّدين في العودة خشية غياب الضمانات، فهل يتغير شكل الاقتصاد كلياً أمام أصعب مرحلة تاريخية تمر بها البلاد؟

ويضيف العمر، لرصيف22، أنّ الكوادر المهنية والعمالة الماهرة تشكّلان التحدي الأبرز في إعادة الإعمار، خصوصاً في مجالات المقاولات والبناء. ولحلّ هذه المشكلة، يقترح استقطاب الشباب السوري المغترب في تركيا، لبنان، والأردن، وتجهيزهم بالخبرات والتمويل اللازمين للمشاركة في مشاريع وطنية كبيرة. 

ويؤكد أن قطاع المقاولات يشكّل القلب النابض للاقتصاد الوطني، لأنه يخلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة في الصناعات الداعمة مثل الإسمنت والطوب والكابلات والمعامل.

وقد أطلق العمر بالفعل مجموعة شركات متنوعة لتحقيق هذه الرؤية على الأرض، حيث يرى أن الاستثمار "المقيم" المنتج -الصناعي والزراعي والخدمي- هو المفتاح لإنعاش الاقتصاد المحلي وإيجاد فرص عمل مستدامة، بينما الاستثمار "الزائر" الاستهلاكي والربحي، مثل العلامات التجارية والمطاعم العالمية، لا يضيف قيمةً حقيقيةً للاقتصاد ويحوّل الأرباح إلى الخارج. 

ويدعو رجال الأعمال السوريين في الخارج إلى تخصيص 10-15% من نشاطاتهم الاستثمارية داخل سوريا، وهو ما يمكن أن يضخّ ما بين 15 و20 مليار دولار في السوق المحلية ويخلق ما يصل إلى مليون فرصة عمل خلال خمس سنوات.

ويختم حديثه بأنّ حل أزمة الكهرباء خلال 6 أشهر، بحيث تصل التغذية إلى 16-17 ساعةً يومياً، سيمثل عنصراً حاسماً لإطلاق عجلة الإنتاج، إذ يعدّ أنّ ذلك سيحلّ نحو 80% من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد خلال عام واحد فقط.

الاستثمار القانوني والمستدام

يركز رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر، خلدون الموقع، على أنّ نجاح الاستثمار في سوريا مرتبط بشكل مباشر بقدرة الدولة على توفير بيئة آمنة وتشريعات واضحة ومنافسة. فالاستثمار لا يُقاس فقط بحجم الأموال، بل بمدى خلق قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، وتوفير فرص عمل، ودعم التنمية المستدامة.

ويشدد الموقع على ضرورة وضع خريطة استثمارية وطنية تحدد أولويات إعادة الإعمار والتنمية، بحيث يتم التركيز على المشاريع الإنتاجية (الصناعية، الزراعية، التجارية والخدمية) بدلاً من الاعتماد على استثمارات استهلاكية مؤقتة لا تقدّم قيمةً طويلة المدى. ويشير إلى أنّ الاستثمار الجيّد يضمن حقوق الدولة والمستثمر، من خلال قوانين واضحة وبسيطة تحدد الواجبات والحقوق للطرفين، دون جدلية مستقبلية في بنوده.

عودة رأس المال مرهونة بضمان ملكية واضح، وقضاء مستقل سريع، واستقرار ضريبي وجمركي، وتوفير طاقة وبنية أساسية. والأهم إشراك الصناعيين في القرار بدل الاكتفاء بشعارات "اقتصاد حر" بلا حمائية.

ويضيف أنّ السوريين في الخارج يمثّلون الرهان الأكبر لإعادة بناء الاقتصاد الوطني، خصوصاً الصناعيين الذين أسسوا مصانع ناجحةً في بلدان الاغتراب، وتمكنوا من جمع فائض مالي وخبرة عملية يمكن توظيفها لإنشاء صناعة وطنية منتجة ومفيدة. 

كما يوضح الموقع أنّ نجاح أي استثمار يتطلب أن تكون الدولة قادرةً على تأمين استقرار سياسي وأمني، وضمان حركة الأموال والعمالة، وتبسيط الإجراءات القانونية والتشريعية، بحيث يستطيع المستثمر العمل بثقة على مشاريع مستدامة. 

التوظيف السياسي للاقتصاد

تتحدث دراسة قديمة صدرت خلال عهد النظام السابق، للباحث محمود اللبابيدي، عن صعود طبقة جديدة من رجال الأعمال المرتبطين بالسلطة، الذين عملوا على مشاريع إعادة الإعمار بما يضمن الولاء السياسي أكثر من الكفاءة الاقتصادية. وتوضح الدراسة أنّ بعض المشاريع، مثل "ماروتا سيتي"، يمثّل نموذجاً للزبائنية المفرطة في الاقتصاد السوري، حيث يتصرف رجال الأعمال أكثر كمديرين لأموال المتنفذين وليس كأصحاب رساميل حقيقية.

وبرغم أنّ الدراسة تعود لفترة قديمة، إلا أن تحليلها قد يتيح لنا فهم جذور العلاقة بين النخب الاقتصادية والسياسية، وهو ما يمكن مقارنته اليوم مع تصريحات رجال الأعمال المعاصرين، الذين يحاولون تحويل رؤوس الأموال السورية في الخارج إلى مشاريع إنتاجية مستدامة، بعيداً عن الزبائنية والسيطرة السياسية المباشرة.

يبقى المستقبل الاقتصادي السوري مليئاً بالغموض والتحديات، فمع بروز نظام جديد لم تُرسم ملامحه بعد، تظل قدرة الصناعيين والتجار على استعادة دورهم كصانعي قرار اقتصادي حقيقي مسألةً مفتوحةً، يتشابك فيها الولاء السياسي مع الكفاءة الاقتصادية، ويُختبر فيها رأس المال السوري في الخارج ومدى استعداده للتحرك نحو مشاريع إنتاجية مستدامة على الأرض، بعيداً عن المخاطر الأمنية والبيروقراطية. 

فهل ستنجح الحكومة الجديدة في خلق بيئة استثمارية واضحة ومستقرة، توازن بين الاستثمار الإنتاجي الذي يعزز الصناعة الوطنية ويوفر فرص عمل، والاستثمار الاستهلاكي الذي قد يرهق المواطن ويحوّل أرباحه إلى الخارج؟ كما يبقى التساؤل حول قدرتها على فرض تشريعات عادلة تحمي المستثمر وتعزز ثقة القطاع الخاص، بعيداً عن الزبائنية الاقتصادية والسياسية التي رافقت السنوات السابقة. 

وفي ظلّ بلد مدمّر يحتاج إلى إعادة إعمار شاملة، هل سيتمكن قطاع الأعمال الوطني من أن يتحول إلى رافعة تنموية حقيقية أو ستظل المخاطر والتحديات تحدد مساره وتقيّده بقيود السلطة، ليظل دوره في صناعة القرار الاقتصادي رهين التجارب السابقة وانتظار وضوح ملامح النظام الجديد؟ 

كل هذه الأسئلة، المفتوحة والمعقدة، تشكل الإطار الذي سيحدد شكل الاقتصاد السوري ومستقبل الصناعة الوطنية والقطاع الخاص في السنوات القادمة، وتلقي الضوء على التحدي الأكبر: تحويل رأس المال والقدرات الاقتصادية السورية إلى قوة منتجة تخدم التنمية الحقيقية وتعيد بناء الوطن بعد سنوات من الحرب والدمار.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

الإعلام الموجّه والرسمي لا ينقل الواقع كما هو. 

رصيف22 يعمل كي لا تُحرَّف السردية.


Website by WhiteBeard
Popup Image