بينما الاقتصاد منهك ويعاني من التضخم المتصاعد وضعف القوة الشرائية، عاد الحديث عن خطوة قد تبدو شكليةً، لكنها تحمل رمزيةً سياسيةً كبيرة: حذف الأصفار من الليرة السورية وإصدار "ليرة جديدة".
هذه الخطوة، التي يراها بعضهم وسيلةً لتسهيل التداول اليومي للأموال، يعدّها آخرون اختباراً حقيقياً لقدرة الاقتصاد على الصمود أمام تحديات نقدية عميقة. في رصيف22، حاولنا جمع أبعاد هذه الخطوة عبر متابعة آراء خبراء اقتصاديين، لرسم صورة أكثر وضوحاً عن المخاطر والفوائد والدوافع الكامنة وراءها، مع الاستفادة من التجارب الدولية السابقة التي أثبتت أنّ النجاح أو الفشل مرتبطان بالقدرة على إصلاح الاقتصاد الحقيقي.
صدمة ثقة!
يرى الدكتور عماد الدين المصبح، أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي في الرياض، أنّ حذف الأصفار ليس قراراً اقتصادياً بحتاً، بل نتاج تقاطع بين ضرورةٍ تنظيمية وأهداف سياسية ورمزية.
يقول المصبح لِرصيف22: "التضخم الكبير خلال السنوات الماضية في سوريا جعل التعاملات اليومية معقدةً للغاية، وأثقل على المواطنين والمؤسسات في إدارة السيولة. من هذا المنطلق، يمثّل حذف الأصفار محاولةً لتبسيط الإجراءات وتقليل التعقيدات الفنية للأنظمة المالية".
يقرأ بعض الاقتصاديين قرار إلغاء الأصفار من الليرة بأنها محاولة لخلق "صدمة ثقة" في السوق، لكن هذا الأثر يبقى هشاً وغير مستدام ما لم يتحقق تحسن حقيقيّ في الإنتاج المحلي والقوة الشرائية للمواطنين
ويشير المصبح، إلى البعد النفسي والسياسي للخطوة، عادّاً أنها محاولةٌ لخلق "صدمة ثقة" في السوق عبر إظهار انطباع بعملة أقوى أو بداية جديدة، لكن هذا الأثر يبقى هشاً وغير مستدام ما لم يتحقق تحسن حقيقيّ في الإنتاج المحلي والقوة الشرائية للمواطنين.
ويضيف أنّ التركيز على الإجراءات الشكلية قد يؤدي إلى تأجيل الإصلاحات الاقتصادية العميقة مثل تحسين بيئة الاستثمار، وإصلاح الدعم، ومكافحة التهرب الضريبي، وهي خطواتٌ ضروريةٌ لتحقيق استقرارٍ طويل المدى.
الفوائد العملية والرمزية
من زاوية مختلفة، يسلّط ملهم الجزماتي، وهو محلل اقتصاديّ في شركة كرم الشعار للاستشارات، الضوء على الأبعاد الرمزية للخطوة. في حديثه إلى رصيف22، يؤكد أنّ التخلص من رموز النظام السابق وإزالة صورة الرئيس السابق من العملة يمثّلان انطلاقةً سياسيةً ورمزيةً مهمةً تعكس هويةً وطنيةً جديدة.
من الناحية العملية، يوضح الجزماتي أنّ حذف الأصفار سيساهم في تبسيط التعاملات اليومية وتقليل الأخطاء المحاسبية، كما سيتيح للمصرف المركزي إعادة السيطرة على السوق النقدي المحلي.
ويوضح أنّ هناك أكثر من 40 تريليون ليرة سورية يتم تداولها خارج النظام المصرفي، وبإصدار أوراق نقدية جديدة يمكن إعادة إدخال هذه القيم إلى البنوك، ما يوفر قراءةً أوضح لحجم النقد المتداول ويتيح وضع سياسة نقدية أكثر دقةً وواقعية.
هناك تحذيرات من أنّ طباعة "نيو ليرة" قد تتحول إلى كارثة اقتصادية إذا استُخدمت كأداة لتمويل زيادة الرواتب، لأنها ستضغط مباشرةً على القوة الشرائية للمواطنين.
لكن الجزماتي يحذّر من أنّ العملية بدورها، ستكلف الحكومة ملايين الدولارات، سواء للطباعة أو لتحديث الأنظمة المصرفية وتقنيات الحماية من التزوير، بالإضافة إلى ارتباك محتمل في العمليات الحسابية والمعاملات خلال الفترة الانتقالية. ويضيف أنّ حذف الأصفار وحده قد يؤدي إلى موجة تضخمية إذا لم يصاحبه إصلاح حقيقيّ في الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على المستوردات، وإلّا ستظل الخطوة مجرد إجراء شكليّ لن يشعر المواطن بتأثيره.
المخاطرة في الـ"نيو ليرة"
يكمل جورج خزام، مستشار وزير الاقتصاد لشؤون السيولة والنقد، الصورة من زاوية التمويل والاستدامة. ففي منشور على صفحته العامة على فيسبوك، حذّر خزام من أنّ طباعة "نيو ليرة" بحذف صفرين قد تتحول إلى كارثة مالية واقتصادية إذا استُخدمت كأداةٍ لتمويل زيادة الرواتب بنسبة كبيرة، لأنها ستضغط مباشرةً على القوة الشرائية لجميع المواطنين، بما في ذلك الموظفين.
ويشير خزام إلى أنّ الحلّ المستدام يكمن في زيادة الإنتاج المحلي الصناعي والزراعي وتحقيق إيرادات ضريبية حقيقية، لا في طباعة الأموال بلا غطاءٍ سلعي. ويضيف أنّ حذف صفرين لن يحلّ مشكلة التضخم النقدي، فالأسعار سترتفع بالنسبة نفسها، ما يجعل القوة الشرائية ثابتةً عملياً. كما يؤكد أنّ تثبيت قيمة "النيو ليرة" يحتاج إلى سياسة نقدية علمية واحترافية تحرّك عجلة الإنتاج وتحدّ من الاعتماد على المستوردات.
ويختم خزام بأنّ حذف صفرين سيكشف ببساطةٍ ضعف القوة الشرائية للرواتب الحالية، إذ إنّ 130،000 ليرة ستكون معادلةً لـ1،300 نيو ليرة، دون أي تحسّن حقيقيّ ملموس.
تجارب دولية شبيهة
تشير التجارب الدولية إلى أنّ حذف الأصفار يمكن أن يكون أداةً مؤقتةً لتنظيم النقد، لكنه ليس حلّاً للتحديات الهيكلية. ففي تركيا والبرازيل، ساعدت هذه الخطوة في تبسيط التعاملات وخلق أثر نفسيّ مؤقت، لكنها لم تكن فعالةً إلّا بعد تنفيذ إصلاحاتٍ اقتصاديةٍ شاملة.
على النقيض، فشلت دول مثل زيمبابوي وفنزويلا والأرجنتين في تثبيت القوة الشرائية، ما أدى إلى موجاتِ تضخم جديدة وفقدان الثقة بالعملة الوطنية.
بالنظر إلى التجارب الشبيهة لدول أخرى، فحذف الأصفار وحده لا يعالج التضخم، بل قد يفاقمه إذا لم يترافق مع إصلاحات اقتصادية جذرية. ويبقى وجود خطر الفوضى في المرحلة الانتقالية، أو أن يستغلها بعض التجار لرفع الأسعار
ويشير خبراء تحدثوا إلى رصيف22، إلى أنّ الدرس السوري واضح: حذف الأصفار خطوة تنظيمية مفيدة مؤقتاً، لكنها لن تنجح إلّا إذا اقترنت بإصلاح شامل يحرّك الإنتاج المحلي ويقلل الاعتماد على المستوردات ويؤسس لاستقرار نقديّ طويل المدى.
وفي هذا السياق يرى المصبح، أنه لا بد من التأكيد على أنّ نجاح أي عملية لإعادة هيكلة العملة، كما أثبتت التجارب الدولية (مثل تركيا والبرازيل)، لا يكمن في الإجراء الفني بحدِّ ذاته، بل في كونه تتويجاً لحزمة متكاملة من الإصلاحات.
في السياق السوري الحالي، وبعد عودة الربط المالي الدولي، لم تعد الأولوية مجرد إعادة الدمج، بل أصبحت تتمثل في بناء الثقة وتنشيط القطاعات الإنتاجية لخلق اقتصاد حقيقيّ قادر على جذب التدفقات المالية التي أصبحت ممكنةً الآن. دون ذلك، سيظلّ حذف الأصفار إجراءً شكلياً ذا أثرٍ محدود، أشبهَ بمسكّنٍ للألم في جسد اقتصاديّ يتطلب تدخّلاً جراحياً عميقاً.
مخاطر التضخم وعدم الاستقرار
يشير الجزماتي، إلى أنّ معظم الدول التي قامت بحذف أصفار من عملاتها كان هدفها محاربة التضخم الذي كانت تعاني منه، ونجح بعضُها في تخفيض نسب التضخم وبينما فشل بعضها الآخر فشلاً ذريعاً.
وبالنظر إلى تجربة هذه الدول، نجد أنّ حذف الأصفار بحدِّ ذاته لا يعالج مشكلة التضخم، بل قد يؤدي إلى تفاقمها في بعض الحالات إذا لم تترافق هذه الخطوة مع إصلاحات اقتصادية حقيقية تعالج الأسباب الجذرية للتضخم، مثل ضعف الإنتاج والعجز في الميزان التجاري. حينها، ستكون مجرد إجراء شكليّ.
بل إنّ هناك خطراً من أن يستغلّ بعض التجار هذه الفترة الانتقالية لرفع الأسعار، ما يؤدي إلى موجة تضخم جديدة، كما أنّ "الأثر النفسي السلبي" على المواطنين الذين سيرون رواتبهم ومدّخراتهم بأرقامٍ أصغر، قد يفقدهم الثقة بالعملة الجديدة إذا لم يلمسوا تحسّناً حقيقياً في قدرتهم الشرائية.
يرى مؤيدو فكرة حذف الأصفار أنها ستُسهم في تبسيط التعاملات اليومية، وتقليل الأخطاء المحاسبية، وستتيح للمصرف المركزي استعادة السيطرة على السوق النقدي المحلي.
بينما تتلاقى آراء الضيوف عند التحذير من مخاطر اقتصاديةٍ كبيرة، يبرز كلٌّ منهم زاويةً مختلفةً: المصبح يركّز على الأثر النفسي والسياسي والرمزية، الجزماتي على التحديات التشغيلية وإعادة السيطرة على النقد، وخزام على التمويل والاستدامة الاقتصادية. هذا التنوع يجعل الصورة أكثر وضوحاً للقارئ: حذف الأصفار قد يسهّل التعاملات مؤقتاً، لكنه لن يعالج التحديات البنيوية التي تواجه الاقتصاد السوري.
وفي سياق جمع المعلومات، حاولنا التواصل مع مصرف سوريا المركزي للحصول على تعليقٍ رسميّ حول خطة حذف الأصفار، إلّا أنّ الدكتور عبد القادر الحصرية، حاكم المصرف، لم يردّ على الاستفسارات حتى وقت النشر، ما يعكس -بحسب الخبراء- صعوبة الجمع بين القرارات الشكلية والشفافية في ظلّ الأزمة الاقتصادية الحالية.
ختاماً، تجمع هذه الآراء بين المخاطر المالية والاقتصادية، والفوائد العملية، والدوافع الرمزية والسياسية، لتوضح أنّ أيّ خطوةٍ لإعادة هيكلة العملة لن تكون أكثر من إجراءٍ شكليّ ما لم تقترن بإصلاحات شاملة تحرّك الإنتاج المحلي، وتحسّن القوة الشرائية، وتؤسس لاستقرار نقديّ طويل المدى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.