كنت في الحادية عشرة من عمري، حين عُرض مسلسل "الانتظار" لأول مرة عام 2006. لم أكن أعرف آنذاك شيئاً عن الإخراج أو عن دور المخرج في صياغة العمل، لكنني كنت أعرف أنني بكيت طويلاً يوم مات "عبود". تلك الدموع الطفولية كانت أول درس خفيّ في معنى الدراما؛ كيف يمكن للحكاية أن تصبح أقرب إلينا من واقعنا، وكيف يستطيع مشهد أن يترك ندبةً تبقى حيّةً بعد سنوات.
توالت الأعمال وتغيّرت الشاشات، لكن "الانتظار" ظلّ بالنسبة لي العمل الأقرب، والمسلسل الذي لا يبهت بريقه مهما ابتعد الزمن. بقي شاهداً على مرحلة، وعلى مدينة كانت تتنفس بين أزقتها الضيقة أحلاماً مؤجلة.
بعد سنوات طويلة، وجدتني أقف من جديد عند تلك النقطة: هذه المرة ليس كمُشاهد صغير مأخوذ بالحكاية، بل كجزء من الفريق الإعلامي الذي يرافق المخرج الليث حجو. قبل ثماني سنوات تقريباً بدأت هذه الرحلة، وهي رحلة لم تكن مجرد عمل، بل عودة إلى ذلك الشغف الأول الذي لم يخفت.

خط زمني لتجربة لا تهدأ
على امتداد هذه السنوات، لم تكن أعمال الليث حجو مجرد عناوين درامية تُعرض وتُنسى، بل محطات متصلة بخيط واحد، تعكس تحولات المجتمع والناس وتفتح أسئلةً متجددةً حول الواقع والذاكرة. من الكوميديا إلى الدراما، ومن الحكايات القصيرة إلى الملحمية، تبدو أعماله رحلةً مستمرةً لرصد الإنسان في حالاته كلها.
"بقعة ضوء"… 2001 وما بعده
شكّل هذا العمل نقطة انعطاف في الدراما السورية. لم يكن مجرد سلسلة كوميدية، بل كان مختبراً اجتماعياً سياسياً وثقافياً. من خلال اللوحات القصيرة، صار الجمهور يواجه واقعه بمرآة ساخرة، فيها جرأة نادرة على التعرية وكسر المحرّمات.
الليث حجو، أحد المخرجين الأساسيين للمواسم الأولى، أثبت أنه قادر على المزج بين الكوميديا والإيقاع السريع والصورة التي لا تستسلم للتكرار. "بقعة ضوء" ظلّ علامةً فارقةً تُعاد مشاهدتها حتى اليوم.
إذا كان "بقعة ضوء" قد قدّم منذ 2001 كوميديا لوحات سريعة وجريئة عرّت المجتمع وأرّخت لتحولاته، فإن مسلسل "الخربة" 2011, صنع من قرية ثابتة وشخصيات متكررة عبثاً جماعياً ممتداً، ليصبح امتداداً لـ"ضيعة ضايعة" ومسرحاً ساخراً يُضحك ويَكشف في آن
"أمل ما في"… 2005
هو عمل مختلف تماماً، إذ جمع بسام كوسا وفايز قزق في إسكتشات قصيرة. برغم بساطته التقنية، حمل العمل بعداً سياسياً واجتماعياً مباشراً، تناول قضايا المواطن والفساد وانعدام الأفق. هنا، بدا أنّ الليث يجرّب طاقة الكوميديا كأداة لمساءلة السلطة، لا كغاية للضحك وحده.

"أهل الغرام"… 2006-2008
في جزئيه الأوّل والثاني، قدّم الليث حجو مجموعةً من القصص العاطفية القصيرة. لكنّ الحب في هذا المسلسل لم يكن وردياً، بل هشاً، ومهدداً بالخيبة والانكسار. كان العمل بمثابة خريطة وجدانية لجيل يبحث عن معنى للحب في مجتمع مرتبك. وأسلوب الليث في الإخراج أكسب الحكايات تكثيفاً بصرياً وشعورياً، جعل كل حلقة بمثابة فيلم قصير قائم بذاته.
"الانتظار"... 2006
يُعدّ ذروة مرحلة جديدة في الدراما. المسلسل كشف حياة المهمشين وسكان العشوائيات في دمشق، ليجعل من المسكوت عنه مادةً للدراما. أبطاله لم يكونوا خارقين، بل كانوا أناساً بسيطين يعيشون على الهامش، يتأرجحون بين الأمل والانكسار.
هذا العمل، الذي يُصنّف حتى اليوم ضمن أهم مسلسلات الدراما السورية، كان شهادةً على قدرة الليث على تحويل القسوة اليومية إلى دراما إنسانية عميقة.
في سنوات الحرب: قدّم "الندم" 2016, شهادة جيل على مدينته وتاريخه، فيما طرح "الواق واق" 2018 بفانتازيا مريرة فكرة أن الإنسان يعيد إنتاج أمراضه حتى في عزلة كاملة.
"ضيعة ضايعة"… 2008
من أجمل ما قدّمت الكوميديا السورية، وواحد من أكثر الأعمال التي طبعت الذاكرة الشعبية. عبر القرية الخيالية وبطلَيها أسعد وجودة، دخلنا عوالم العبث والفلسفة والحياة البسيطة. لم يكن مجرد مسلسل مضحك، بل هو نصّ مفتوح على معانٍ وجودية، يتأمل غباء الإنسان وذكاءه، سذاجته ودهاءه.
"الخربة"… 2010
امتداد لتجربة "ضيعة ضايعة"، لكن في بيئة أخرى وفضاء مختلف. عبر القرية الجبلية وعائلاتها المتنازعة، قدّم الليث نصاً كوميدياً ساخراً آخر يعرّي المجتمع بقدر ما يضحك. ما يميز "الخربة" هي القدرة على رسم شخصية جماعية، حيث الكل يشارك في رسم لوحة عبثية متكاملة.
"سنعود بعد قليل"… 2013
خطوة جريئة خارج الإطار الكوميدي. عمل سوداوي، صوّر وجوهاً مشحونةً بالخذلان والانكسار، وحكايات عن الغربة الداخلية والخارجية. فيه استعاد الليث صورة الإنسان الممزق بين الوطن والمنفى، وبين ماضي يثقل وحاضر لا يمنح خلاصاً.
"الندم"… 2016
يحكي المسلسل عن علاقة جيل كامل بمدينته وتاريخه، عبر سردية مزدوجة بين الماضي والراهن. البنية الدرامية اعتمدت على الفلاش باك، فيما اشتغل الليث بصرياً على المزج بين حميمية التفاصيل وقسوة الأحداث. الندم ليس مجرد عمل درامي، بل شهادة على مرحلة كاملة من تاريخ سوريا الحديث.
لم يكن الليث حجو يوماً مخرجاً تجارياً. وظلّ يعدّ الدراما التزاماً أخلاقياً عليها أن تعكس الواقع بصدق، وأن تُنصت للناس ولحياتهم اليومية، حتى في أكثر لحظاته كوميديةً، ظل مشغولاً بالإنسان، بقلقه وفرحه العابر وخوفه المزمن
"الواق واق"… 2018
هنا اتجه الليث إلى الفانتازيا الكوميدية، حيث مجموعة من الناجين من غرق يجدون أنفسهم في جزيرة منعزلة. لكن التجربة ليست للنجاة بقدر ما هي مرآة لخرابنا المستمر: حتى في عزلة كاملة، يعيد الإنسان إنتاج أمراضه وصراعاته. بأسلوب ساخر ومرير، طرح المسلسل أسئلةً حول السلطة والديمقراطية والمجتمع.

"مسافة أمان"... 2019
عمل واقعي يلتقط نبض دمشق بعد سنوات الحرب. شخصياته تحاول النجاة وسط الركام، تبحث عن الحب والطمأنينة، بينما يلاحقها الخوف والريبة.
هذا المسلسل كان بمثابة توثيق شعوري لمرحلة، عبر شخصيات تمثل أطيافاً متعددةً من المجتمع السوري.
"سنوات الحب والرحيل"… 2023
دراما تاريخية ملحمية، تناولت زمن الحرب العالمية الأولى وتأثيرها على المشرق العربي. برغم ابتعاده الزمني، إلا أنّ العمل حمل أسئلةً راهنةً عن الانقسام والخذلان ومصائر الشعوب الصغيرة في مواجهة الأحداث الكبرى.
أثبت الليث هنا أنه قادر على الجمع بين التاريخ والدراما الإنسانية.
"البطل"… 2025
أحدث أعماله، وقد عُرض وانتهى مؤخراً. المسلسل يروي حكاية رجل عادي -مدير مدرسة- ينقذ مراهقاً من حريق، فيتحول فجأةً إلى "بطل" محلي.
لكن البطولة هنا ليست نهايةً سعيدةً، بل بداية اختبار صعب مع السلطة والنفوذ والضمير. عبر هذا العمل، بدا الليث كمن يختبر سؤال البطولة نفسه: من هو البطل حقّاً؟ هل تكفي لحظة استثنائية لتصنع البطولة أو أنّ البطولة هي أن تبقى إنساناً وسط العبث؟

دراما تتّسع للجميع
لم يصنع الليث حجو مسيرته وحده. على العكس، اعتمد دائماً على فكرة الشراكة باعتبارها جوهر العملية الإبداعية.
لم يكن يرى المخرج مركز الكون، بل جزءاً من شبكة متكاملة من كتّاب وممثلين وفنيين. كان يُصغي للنص كما لو أنّه كائن حيّ يحتاج إلى من يعتني به، ويعامل الممثلين كأصحاب التجربة، لا كأدوات تنفيذ.
هذه الروح جعلت أعماله تبدو متكاملةً، كأنها ثمرة عقل جماعي أكثر منها رؤية فردية. في كل مرة، كان ينجح في خلق بيئة حوارية مفتوحة، يتشارك فيها الجميع المسؤولية عن العمل.
ربما لهذا السبب ظلت أعماله تحمل طابعاً خاصاً: فيها تنوّع الأصوات، وتكامل الرؤى، وحضور جماعي لا يغيب حتى حين يسطع نجم شخصية واحدة.
كما لم يكن يوماً مخرجاً تجارياً. لم يركض وراء النجاح السريع أو نسب المشاهدة فقط. على العكس من ذلك، ظلّ يعدّ الدراما التزاماً أخلاقياً، التزاماً بأن تعكس الواقع بصدق، وأن تُنصت للناس ولحياتهم اليومية، حتى في أكثر لحظاته كوميديةً، ظل مشغولاً بالإنسان، بقلقه وفرحه العابر وخوفه المزمن.
بعد سنوات من الانبهار به كمشاهد صغير، وجدتني ضمن الفريق الإعلامي المرافق لليث حجو، رحلة بدأت قبل نحو ثماني سنوات وكانت عودة إلى شغف قديم لم يخفت.
الليث كما أعرفه
بالنسبة لي، كانت السنوات الماضية فرصةً لرؤية ما هو أبعد من الشاشة. أن ترى الليث حجو خلف الكاميرا، هو أن ترى إنساناً يضع شغفه كله في كل تفصيلة.
لمست تواضعه في التعامل مع فريقه، وحرصه على الإصغاء لكل رأي. فهو ليس مخرجاً سلطوياً، بل قائد لفريق، يخلق بيئةً تجعل كل فرد قادراً على أن يعطي أفضل ما عنده.
لم أعتقد في أيّ يوم من الأيام بأن أكون هنا، لكن كل محاولاتي كانت دائماً فرصةً لإثبات ما أستطيع أن أقدّم. ومعك، كان العمل هو المساحة التي أبحث فيها عن نفسي.
إلى راوي الحكاية وصانعها… عزيزي الأستاذ الليث: بدا يوماً عادياً، لكنني كنتُ شاهداً على تفاصيله، ولم يكن عادياً على الإطلاق.
شكراً لأنك الثابت وسط كل هذه المتغيرات، وشكراً لأنك تحمل الأمانة بهذا الشكل.
اليوم، بعد ربع قرن من الدراما، يمكنني أن أقول إنّ الليث حجو لم يكن مجرد مخرج. لقد كان صانع ذاكرة، راوياً للحكايات التي تشبهنا، وبطلاً هادئاً خلف الكاميرا لا يقل أهميةً عن أي بطل أمامها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.