تندرج المادة ضمن ملف "الانتظار... رنينُ هاتفٍ في صحراء"، إعداد وتحرير تمّام هنيدي.
لا أعرف أكان من حُسن أم من سوء الطالع أن أفتح عيني على دمشق مع نهاية مرحلة الحديد والنار أثناء حكم الضابط حافظ الأسد الناشئ في أرياف الساحل السوري المعدمة، وبداية مسيرة التحديث والتطوير مع توريث الحكم لابنه طبيب العيون القادم من بريطانيا؟ إنها السنوات التي خرج فيها السوريون من اليأس والاستسلام إلى الأمل والمبادرة، في انتظار متفائل بما سيقوم به الطبيب الشاب.
أصبح من نافل القول الحديث عن خيبة أمل السوريين بعد سنوات قليلة كشفَتْ عن فساد الفرعِ كما فساد الأصل. إلا أن الدراما السورية في قفزتها العالية التقطت في أحيان كثيرة تفاصيل دقيقة يمكن الرجوع إليها لرصد التوافق الزماني بين إعلان الإفلاس السياسي من إمكانية إصلاح النظام (مرحلة بزوغ مصطلح "الصفر الاستعماري") وبين التحوّل الذي ولّد الصاعق -على المستوى الشعبي- الراقد تحت الهراوة والبسطار، إنه التحوّل من الخنوع قبل عام 2000 إلى الانتظار بعده، ولم يكن الصاعق أكثر من خيبة الأمل.
دراما العشوائيات اليائسة
قبل سنوات خمس من مسلسل "لعنة الطين" أذيع في عام 2005 مسلسل "بكرا أحلى" للكاتب محمد أوسو والمخرج محمد الشيخ نجيب. عنوانٌ يشي بأن المسلسل طافح. يغوص في تفاصيل حياة عائلة تسكن إحدى العشوائيات، تحارب من أجل تحقيق أحلامها الصغيرة، كغرفة "مخالفة" على السطح تمكِّن شابين من الزواج. لم يتحلّ العمل في وقتها بأدنى درجات الجرأة ليطرح السلطة كعنصرٍ فاعلٍ في معادلة المعاناة التي تعيشها الأسرة، بل اكتفى بالصدام بين الفقير والأرستقراطي، من حيث الأول ضحية مباحة لا يؤاخِذ عليها القانون. ويُكثر من الكوميديا عبر شخصية "كسمو" كمن يرشّ على الموت سكّراً. يصلح اسم "الانتظار" كعنوان آخر للعمل، لكنه جاء منصاعاً أكثر في "بكرا أحلى"، لينتهي برسالة أخيرة أكثر جرأةً على لسان "الكشّاش" الذي يطيّر حماماته قائلاً: "لا بقى ترجعوا"؛ إنه إعلان نتيجة الانتظار المخيّب للآمال في دعوة للهروب. إذاً، لم يكن "بكرا أحلى".
في العام التالي (2006) تنافس على الشاشة عملان؛ الأول كان "الانتظار" لحسن سامي يوسف والليث حجو، والثاني "غزلان في غابة الذئاب" لفؤاد حميرة ورشا شربتجي. ارتقى العملان درجات في الجرأة عن ما سبقهما. كانت الحارة العشوائية واللقيط البطلين الرئيسيين في "الانتظار".
لم تخلُ بعض الأعمال الدرامية ما بين 2000-2010 من ملامح دفاعية عن السلطة، ولعل ذلك يعود في بعض الأحيان للرقابة الصارمة، وفي أحيان أخرى لعلاقة الكتّاب والمخرجين والمنتجين بالسلطة نفسها
مشاهد حقيقية اعتمدها المخرج في دوار الكبّاس والحارات المجاورة في دمشق استطاعت نقل الصورة الفعلية للمأساة هناك، بحيث لم يكن يمكن للمتابعين أن يضحكوا حتى في المشاهد الكوميدية، ولم يكن لمَشاهد صَوّرت رقصَ بنات الحي في الكازينوهات أن تلفت المُشاهدين عن المعاناة التي دفعتهن لذلك. في تلك الحارات لا يمكن الركون إلى العرف في تجريم الخطأ، فهو حاجة أكثر منه خطأ، وهذا ما نجح المخرج في إيصاله. ذلك كان دافع آنسة المدرسة للهروب بأولادها من الحارة مهما كلّف الثمن، إذ رأت، بعد انتظار خمس عشرة سنة، أن الحارة تتغلغل في شخصياتهم وسلوكهم، وأنه لا مفر إلا بإخراجهم منها؛ الأمر الذي رفضه زوجها بالمطلق.
في المسلسل كل الشخصيات تنتظر، ولكنها تتفاوت في درجات الصبر، فمنهم من يقوده استعجاله للتورط في المشاكل، ومنهم من ينتظر حتى النهاية كاللقيط عبود. إنه روبن هود الذي يسرق المحلات والصيدليات ليوزعها على الناس، ويساعد الكل في الخروج من المصائب. يشبه طاقة الأمل الضيقة التي كادت تغيّر حياة ساكني الحارة، لكنها تُغلَق في النهاية حين يُقتل على يد أحد "الزعران"، فيعود كل شيء لسابق عهده.
يقف المسلسل على الفارق بين المركز والطرف، بين المتن والهامش، كذلك على علاقة الاستغلال بين الفقير والغني، على الرغم من أن الفارق بينهما ليس واسعاً. فهو لم يطرح رجل الأعمال أو المليونير في مقابل المعدم، بل صاحب محل حلوياتٍ في أحياء الشام الراقية. تتقاطع هذه النقطة مع مسلسل "بكرا أحلى" في التأكيد على تواضع أحلامِ هذه الفئات، وأن تحقيقها أبسط من أن تبقى ناقصة؛ إذ يمكن لألفي ليرة سورية أن تغري فتاةً فائقة الجمال لتفعل أي شيء. لكن "الانتظار" أيضاً ينسحب من إبراز دور السلطة في هذه المعاناة ما خلا الشرطي الفاسد الذي يسكن ذات العشوائيات.
وينتهي المسلسل بالحيرة عبر أغنية "يا وابور قلي رايح على فين" التي تغنيها شخصيات الحارة المحشورة في "طريزينة" يقودها موظفٌ سابق في وزارة الصناعة أدمن على شراب السعال "السيمو" ذي العواقب الإدمانية، بعد اتهامه بإضاعة آلة حاسبة. إذاً، الانتظار لا ينتهي، تاركاً ثلاث نقط متتالية على مشهد عُلويٍّ بعيد على العائدين من بين أبنية دمشق إلى العشوائيات المكوَّمة كالثآليل.
دراما الناس في مواجهة دراما "الأخطاء الفردية"
ربما أخذ "غزلان في غابة الذئاب" في وقتها صدى أكبر من "الانتظار"، لأنه دخل بشكل مباشر في الصدام ما بين المجتمع والسلطة. صحيح أنه قَصر فساد السلطة على ابن المسؤول الكبير، والذي يقال إنه قصد به ابن رئيس الوزراء الأسبق محمود الزعبي (إن صح ذلك، فهو يقلل كثيراً من أسهُم المسلسل في الجرأة)، لكنه شمل شرائح مجتمعية أوسع إلى جانب أبناء العشوائيات في تأذيهم من السلطة.
الأمل هو المرحلة التي تلت سنوات الانتظار مع انطلاقة ربيع الثورات، لكنه ما لبث أن سقط من أوجه، وتراجعت مع سنوات السقوط الأعمال الدرامية نفسها، لكنه ما زال بإمكاننا الرهان على أصحاب التجارب السابقة ليكملوا رسمَ التحولات النفسية والاجتماعية والتنبؤ بمآلاتها بعد أن تفرّقت السبل بأبناء الوطن الواحد
كذلك لم يخل المسلسل من محاولة إبراز سيادة القانون ونزاهة جهاز الشرطة والوزراء، وربما القيادة كذلك! الفارق الجوهري بين المسلسلين ("غزلان في غابة الذئاب" و"الانتظار") أن الأخير كان أكثر مصداقية في نقله لواقع البيئات المسحوقة بتكوينها النفسي ما بيّن قدرتها على الحلم وعجزها عن تحقيقه، بينما أبرزهما الأول برؤية أقرب للنمطية كفئات مُعدَّة للخطأ بدافع الحاجة، ومنكسرة ذليلة أمام حاجتها لابن المسؤول في تأمين وظيفة، حتى دفعها ذلك للتفريط بالحبيبة والأخت. يغيب عنهم المبدأ والصبر والأمل، وتحضر المساومة والوصولية والدناءة، فتظهر أخطاؤهم ناشزةً منفّرة حتى تكاد تثير قرف المشاهدين (على خلاف ما فعله حاتم علي في مسلسل "على طول الأيام"، 2006).
لم يكن "غزلان في غابة الذئاب" معبّراً عن حالة الانتظار المنسجمة مع عام 2006 بل عن حالة الاستسلام الملائمة لفترة حكم الأسد الأب، ولم يكن رؤيوياً مستشرفاً، إذ بشّرت نهايته بتكرار القصة لنفسها؛ الحوار الذي يدور بين الفقير، بعد أن أصبح وزيراً، وابنه في آخر حلقة هو نفس الحوار بين المسؤول وابنه في الحلقات الأولى. وكأن الفساد دائرة لا يمكن الخروج منها وهي تتوالد بطبيعتها من مجتمع مليء بالأمراض بكافة فئاته وطبقاته. بينما الحيرة التي ينتهي بها مسلسل الانتظار تجعله أكثر انفتاحاً على الاحتمالات، ومبشّراً بأعمال أكثر وضوحاً في طرحها مثل "الولادة من الخاصرة" لسامر رضوان ورشا شربتجي عام 2011، حيث يشفّ الاسم نفسه عن حتمية الانبثاق حتى لو من المكان الخطأ والطريقة الخطأ.
لم تخلُ بعض الأعمال الدرامية ما بين 2000-2010 من ملامح دفاعية عن السلطة، ولعل ذلك يعود في بعض الأحيان للرقابة الصارمة، وفي أحيان أخرى لعلاقة الكتّاب والمخرجين والمنتجين بالسلطة نفسها. لكن الأرضية الاجتماعية والنفسية التي قامت عليها هذه الأعمال، و"الانتظار" على وجه الخصوص، وثّقت لبيئات أزيحت سكانياً وعمرانياً بشكل كامل عبر آلة حرب النظام السوري وحلفائه، بحيث يمكن اعتمادها كأحد المراجع البصرية لذاكرة مهددة بالامّحاء في ظرف الهزائم، لأن الهزيمة تنكر نفسها بالنسيان. فالأمل هو المرحلة التي تلت سنوات الانتظار مع انطلاقة ربيع الثورات، لكنه ما لبث أن سقط من أوجه، وتراجعت مع سنوات السقوط الأعمال الدرامية نفسها، لكنه ما زال بإمكاننا الرهان على أصحاب التجارب السابقة أنفسهم ليكملوا رسمَ التحولات النفسية والاجتماعية والتنبؤ بمآلاتها بعد أن تفرّقت السبل بأبناء الوطن الواحد، وصار من الصعب التكهّن بمستقبله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 17 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين