قهوة ستراند... صيف آخر مختلف

قهوة ستراند... صيف آخر مختلف

ثقافة نحن والتنوّع

الأربعاء 18 يونيو 202503:24 م

سألتني زميلتي: "لماذا لم تكن جميلاً هكذا وأنت صغير؟". ليس سؤالاً، إنه ممازحة، ربما تقرير، توصيف لا يحتاج إلى إجابة. لكنني أجبت.

في قهوة "زهرة ستراند" بوسط القاهرة، قابلت حنان حماد. مرّ زمن طويل منذ اللقاء الأخير، قبل امتحانات السنة النهائية في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، صيف 1989. لقاء جديد يطوي عقوداً، ينسف زمنا شهد مرحلة بليدة أنهتها ثورة عظيمة، وقبل أن نفرح بها، ونطاول السحاب بأيدينا، ونتخيل كيف نجني ثمارها، فاجأتنا موجتان من الثورة المضادة، الأدق أنهما موجتان من القوى المضادة للثورة. هذا صيف آخر، صيف 2024، صيف أقل رحمة، وأشدّ استبداداً، ما أقسى استبداد الحرّ والغلاء والقمع معا. هذا كله يهون، أو بعضه على الأقل، ننساه مؤقتاً، بتأثير لقاء يتأجل دائماً، من سنة إلى أخرى، كلما عادت حنان حماد إلى مصر.

قهوة "زهرة ستراند"

في مثل هذا المكان، "ستراند"، شيء ما مختلف، روح تتغلب على حدة هذا التحالف الثلاثي للقسوة، تفكك ثلاثية الحرّ والغلاء والقمع. التصميم المعماري الخالي من حدّة الزوايا القائمة لبنايات وسط البلد يكسر الحرّ قليلاً، وحنان قادمة من دار الكتب والوثائق، ساخطة على بيروقراطية موروثة أضيف إليها تشكك الموظفين في أي باحث يطلب مرجعاً، ولا يراعون أنها جاءت من أمريكا، وانتزعت من وقتها ما يمنحها شعوراً بجدوى عناء المشوار، والعودة بفائدة من دار الكتب.

هل كنا فقراء؟ إنها لعنة الطبقة الوسطى، حتى في القرى، الأغنياء أغنياء، والفقراء أجراء، والطبقة المتوسطة قوامها "المساتير"، إذا استعرنا لغة الجبرتي، تأكل مما تزرع، تنقصها الرفاهية ولا تثقلها الديون

لم تتغير حنان، كما عرفتها في الكلية في ذلك الزمان، الروح نفسها والابتسامة وتلقائية الطفولة، وطزاجة التعليق الساخر. لم تتغير لكنها غيّرت المسار، ودّعت الصحافة، بعد عبور الأطلسي، وطاوعت قلبها، فاستجابت لمصادفة حلوة حملتها إلى براح التاريخ. خاضت التجربة مدفوعة بالفضول المعرفي، جعلت الدراسة الجديدة هواية لا تنال منها رتابة ولا تثقلها أعباء الاضطرار، حتى نالت الدكتوراه، وهي الآن أستاذ كرسي التاريخ في جامعة هيوستن في ولاية تكساس.

لم تتغيّر حنان. رحم الله زماناً كانت فيه الصورة الفوتوغرافية تحتاج إلى استعداد، الذهاب إلى ستوديو التصوير يتطلب قراراً، ويليه الانتظار أسبوعاً لإتمام "عمليات" التحميض وطبع الصور. فاتتنا لحظات تستدعيها الذاكرة، ولا تسعفها صور عزيزة هي الأجدر بتثبيت لحظة، وتجميد زمن، وحفظ خلفيات دالة على تفاصيل كثيرة لا يعيها المصور نفسه. لي ثلاث صور فقط مع زملاء قسم الصحافة بصحبة الدكتورة عواطف عبد الرحمن، أمام تمثال ثورة الطلبة في ساحة الجامعة، عند التمثال الذي خلّده فيلم "خلي بالك من زوزو". لا تظهر حنان في هذه الصور، كنا نحو خمسين طالباً في شعبة "التحرير" في قسم الصحافة، ومثلهم تقريباً في شعبة "الإخراج".

حنان درست التحرير، ولا توجد في الصور. لعل لديها صوراً مع آخرين. لا أعرف من التقط هذه الصور مع الدكتورة عواطف، ولا كيف احتفظتُ بها. من يملك كاميرا في ذلك الزمان ملكٌ. أتأمل ملامحي في صور صيف 1989، فيتأكد لي أنني عشت كثيراً. بثقل التجربة، وشيء من الرضا بثمارها، أردد قول نوح النبي: "شبعتُ أياماً". لستُ نبياً، ولم أعش ألف سنة، ولا أزال أريد حظي من زماني، وقد بدأتُ عامي الستين، وأتصالح مع سني ولا أنكره، وكلما رأيت سواد شعري يكاد يغرُب تماماً رددتُ مبتسماً، بسؤال لا يبلغ درجة العتاب: "أنا لسه، يا رب، عيّل!"، فمن هذا الذي يظهر لي في المرآة؟ الكثيرون يصبغون. في سنوات صراع بياض الشعر مع سواده، نهتني صديقة عن حماقة صبغ الشعر، بادرتْ بالنصيحة من دون أن أسأل، أو أشكو من هجوم البياض. صديق أزعجه طغيان البياض وكبر أنفه، سألني كيف أتصالح مع أنفي وشعري؟ نبهني إلى ما لا يشغلني، وسارع إلى إجراء جراحة لم تحدث فارقاً. وبعد هذا العمر، وفي جلستنا في ستراند، فاجأتني حنان: "لماذا لم تكن جميلاً هكذا وأنت صغير؟". ولأن البساط أحمدي، والكلام عفوي، وهواء مروحة القهوة لطّف حرارة الجو، فلم أعدل صيغة الكلام، فأضع كلمة "فقير" بدلاً من "صغير"، وتذكرت أنني لم أكن قط فقيراً، ولم يلاحظ أحد أن جيبي خالٍ، ولم أتخلّ يوماً عن أناقة قميص واحد أرتديه، بالحرص على النظافة وطيب الرائحة وحُسن الهندام.

هل كنا فقراء؟ إنها لعنة الطبقة الوسطى، حتى في القرى، الأغنياء أغنياء، والفقراء أجراء، والطبقة المتوسطة قوامها "المساتير"، إذا استعرنا لغة الجبرتي، تأكل مما تزرع، تنقصها الرفاهية ولا تثقلها الديون، أحياناً تتعرض لديون موسمية تنتهي بجمع القطن، كان ثروة تسدّد ديونا وتزوِّج أبناء. لكني أجبت حنان حماد، عن ملاحظتها التي لم تطلب لها إجابة ولا تفسيراً، بكلمة واحدة: "الفقر". لن تصدّق حنان، وأنا أيضاً لا أصدّق، كيف عشت تلك الأيام بشعور الغني لا المستغني. سلوك الغني طبيعي، والمستغني يقرر الاستغناء، يعيه ويحرص على صون هشاشته. ونفسي امتلأت بكبرياء لا أعرف مصدرها، وشعور بأنني كبير ومشهور شهرة لا يراها ولا يشعر بها سواي. وفي وقت لاحق، طمأنتني القراءات. ذكر بهاء طاهر في كتابه "أبناء رفاعة" أن يحيى الطاهر عبد الله كان "يلبس باستمرار القميص والبنطلون، فإذا جاء الشتاء لبس فوق القميص (بلوفر) من الصوف وانتهى الأمر. ولم يغير على مدى عمره القصير شيئاً من مسلكه أو مظهره".

في مثل هذا المكان، "ستراند"، شيء ما مختلف، روح تتغلب على حدة هذا التحالف الثلاثي للقسوة، تفكك ثلاثية الحرّ والغلاء والقمع.

في كتابها "الجنوبي" تذكر عبلة الرويني أن أمل دنقل كان "يملك بنطالاً واحداً أسود ممزقاً، كان هذا الثقب الناتج من احتراق سيجارة يطل من فوق الركبة، وكان أمل يحاول مداراته دائماً عن عيوني البرجوازية بينما كنت أبحث دائما عنه. وأنا أكاد أعتذر عن ملابسي الأنيقة".

سيرة غابرييل غارسيا ماركيز أكثر غنى وتفصيلاً. في بداياتها يسجل زيارة أمه له، بعد ترك البيت منذ بلغ الثامنة عشرة وهجر كلية الحقوق، حتى إنه لم يعرف أمه "للوهلة الأولى". كان قد قرر العيش من الصحافة والأدب، وأن يصير كاتباً. أمه الحزينة على مصيره، المشفقة عليه من عناده، عذّبها سوء حاله، حتى إنها أيضاً لم تتعرف إليه للوهلة الأولى: "لقد ظننت أنك متسول صدقات ـ ونظرت إلى صندلي، وأضافت: ودون جورب". قال لها إن هذا مريح، وإن لديه قميصين وسروالين، يرتدي واحداً، والآخر يجفّ. "ما الذي أحتاجه أكثر من هذا؟". في تلك المرحلة انشغل ماركيز عن أناقة المظهر بالرغبة في السيطرة على العالم والْتهامه، وإعادة تمثّله. كان أكبر من العالم. وفي ختام الجزء الأول من المذكرات عاد إلى مراهقته، وأمه تهاتف أباه البعيد، وتشكو أنه تركها "مع هذه الكتيبة من الأبناء. وقد وصلنا إلى حد عدم العثور على ما نأكله، مرات عديدة". كانت أمه تشتري ملابس مستعملة، "وعندما لا تعود تنفع لمقاسي، تكيفها لإخوتي الصغار".

أم ماركيز، وأمي، عنوان الأنفة. أمي لا تعرف القراءة، وتتمتع بوعي وذكاء فطري وحكمة تورثها. نبهتني أن أتواضع، أن أتخلى عن الكبر، وأن أنفي لو وقع على الأرض فلن أنحني لالتقاطه. كنت دون العاشرة، لا أفهم معنى "التواضع" أو "الكبر". هي أيضاً كانت عزيزة النفس، وتأمرّنا بالتعفف، "عفّ نفسك، ما تأخذ إلا نصيبها". أمي وأبي، كلاهما، حذّرني أن أنظر إلى ما في يد غيري. دلّتهما الفطرة السليمة على ما صار من علامات التحضر والرقي في أوروبا والدول المتقدمة. في الصف الرابع الابتدائي، سمعت زميلي "يسري" يقول إنه يأخذ قرشين مصروفاً. مبلغ كبير. عملتُ في سن السادسة بستة قروش في تنقية دودة القطن. نهار صيفي طويل يزيد على تسع ساعات، ونقبض في نهاية "المدة"، وقدرها أسبوعان، نستبشر بالحاج عبد الله خليل ينزل من على الحمار، يلمّ الشمسية، وفي يديه حقيبة القبض ودفتر يسمى "الحافظة". أكثرنا سعادة من يدبر عشرة قروش يعيطها له، فيأخذ جنيها كاملاً، جديداً مشدوداً، ورقياً "يذبح". تسعون قرشاً بعد شقاء أسبوعين. أفرح بالجنيه مسافة السكة، ثم أسلّمه إلى أبي أو أمي. وزميلي "يسري" يملك أبوه مصنعا للكتان، لما كبرت قليلا عملت فيه بيومية قدرها ثلاثون قرشاً. لا يعلم "يسري"، إلى اليوم، أنني لما سمعته يتكلم في الفصل عن المصروف، تحيّرت، فلا أعرف معنى الكلمة، ليس في قاموسي مفردة "المصروف". مبلغ كبير يؤمّن لمالكه شراء ساندوتشات وفاكهة وحلوى له ولأصحابه. تجنّبتُ صحبته؛ فلا أملك ما أردّ به الكرم.

قلت للدكتورة حنان حماد إنني في سنوات الجامعة تفاديتُ دعوة أي زميل إلى مشروب؛ فلن أستطيع الوفاء بالرد بالمثل. في المدينة الجامعية، التي تكلفنا 5.5 جنيه شهرياً، نستعيد أنفسنا، ويعلن الكرم عن نفسه؛ لوفرة ما نملكه في الغرف. في السنة الأولى نظموا رحلة إلى الأقصر وأسوان، باشتراك رمزي أظنه خمسة عشر جنيها. بعد معرفة المبلغ طلبتُ شطب اسمي من قائمة الراغبين، متعللاً بانشغالي بأمور في البلد في إجازة نصف السنة. كيف أدبّر خمسة عشر جنيها؟ قبل سنوات، في الصف الأول الثانوي، وكنت أكتب القصص وأنال جوائز رمزية في المدرسة، أغروني برحلة إلى معرض القاهرة الدولي للكتاب، تتكلف جنيها واحداً، لقاء الذهاب من المدرسة إلى المعرض والعودة إلى المدرسة. من أين لي بالجنيه؟ وإذا دبّرته فماذا أفعل في المعرض وأنا لا أستطيع شراء كتاب واحد؟ ألا تزيدني الفرجة حسرة؟

في عامي الجامعي الأول، واستناداً إلى أنني كبير ومشهور شهرة لا يدركها سواي، كتبت إلى رئيس الهيئة العامة للكتاب الدكتور سمير سرحان أنني كاتب قصة قصيرة، وأدرس في كلية الإعلام، وأحتاج إلى المعجم الوسيط. لم أذكر أنني لا أملك عشرين جنيها ثمن المعجم بمجلديه. ولم يصلني رد. جمعتنا لقاءات أهمها مؤتمر مصغّر، عام 2004 في منتجع شرم الشيخ. كان طيباً ودوداً، ولم أسأله عن حكاية رسالتي إليه. لم أذكر له، ولا لغيره، أنني في الشهر الأول بالكلية، قررت تأجيل نشر القصص، وتحمست لكتابة مقالات سياسية، وكانت مجلة "أكتوبر" تنشر مقالات لنجوم من اليمين، والبعض مرتد عن اشتراكيته الزائفة. أرسلت إلى رئيس تحريرها صلاح منتصر مقالات، لم يأتي رد، ولا إفادة بسبب الامتناع عن نشرها، وأفادني الدكتور محمد علي العويني مدرس مادة "العلوم السياسية".

كان يصعد سلّم كلية الاقتصاد والعلوم السياسية لإلقاء المحاضرة في كلية الإعلام، ولافتتها النحاسية بخط الثلث مثبّتة أمام بسطة السلّم المؤدي إلى الطابق الرابع من المبنى نفسه. حرمونا من وضع "كلية الإعلام" بجوار بوابة المبنى؛ خوفاً من إثبات ملكية. أعارونا طابقاً وأستاذاً للعلوم السياسية لم أستطع إعطاءه المقالات، وتركتها له من دون توقيع. في المحاضرة التالية، وهو يهزّ رأسه، يميله على الجانبين، بحركة لا إرادية، قال إنه تلقى مقالات لطالب ساذج، واهم يظن نفسه كاتباً، ولا يعرف أن السياسة بحر عميق. كرر الاستخفاف، فانفجر المدرج بالضحك ساخرين من هذا الزميل الواهم، أنا الوحيد الذي لا يسخر مني، فانتبهت لنفسي وضحكت "مذبوحاً من الألم". ومن القهر، لن أعتذر إلى المتنبي.

لم أستردّ ثقتي بنفسي إلا بنشر قصة قصيرة في مجلة "أدب ونقد" برئاسة تحرير فريدة النقاش، والأجمل من نشر هو التعرف على القديس محمد روميش. أما شهادة ميلادي كاتباً للقصة القصيرة فمن مجلة "إبداع" برئاسة تحرير الدكتور عبد القادر القط، كما فزتُ بصداقة مدير التحرير عبد الله خيرت، ومكافأة قدرها ستة وعشرون جنيها خالصة بعد خصم الضرائب. ارتبط دفعي للضرائب بأول مبلغ يؤمّن مصاريف المدينة الجامعية لمدة خمسة أشهر. كانت قصة "لو" أقل من 250 كلمة، وبتوصية من عبد الرحمن أبو عوف أرسلتها إلى الروائي عبد الوهاب الأسواني فنشرها في مجلة "الشرق"، وأرسل لي رسالة تحمل لقب "الأستاذ سعد القرشط وشيكاً بمبلغ ستة وعشرين دولاراً. واقترح الشاعر عبد الله شرف إرسال قصة إلى مجلة "الخفجي"، فأرسلت القصة نفسها، لتتوالى الدولارات!

انتصرتُ في معركة صراع الفقر للقفز من العيون، كبحتُه ولا أدري أنه أحياناً ينجح في إطفاء مؤقت للروح، غلالة رقيقة أشبه بنصف إعتام يحجب النفس، غُبشة مؤقتة تواري الجمر الجاهز للاشتعال والتوهج

في ربيع 1991، ذهبت بتوصية من رجاء النقاش إلى عبد الوهاب مطاوع، أملاً في فرصة عمل بمؤسسة الأهرام. في ذلك اللقاء، تذكرت "الكِبْر" الذي حذّرتني منه أمي، ولم أعترف لها بأن هذا "الكِبْر" فطرة، رضعته فصار ترفّعاً، وسيلة دفاعية تمنحني صلابة فلا أضعف أمام أي شيء. كنت أتنقل من السكنى في غرف منزوية وفوق السطح، في مناطق شعبية ومتوسطة (أبو قتادة/قتاتة، بين السرايات، الزاوية الحمراء، العباسية، إمبابة)، إحدى غرف حيّ بين السرايات لا ترى الشمس، سمّاها صديقي بلال العايدي "المُظلمة".

سعد القرش وحنان حماد

غرفة حيّ الزاوية الحمراء في طابق أرضي خسفه ارتفاع الشارع؛ فأصبحت النافذة تريني السيقان والأقدام. الوصول إليها يمرّ بشادر السمك، ذي الرائحة الجحيمية صيفاً، تغمرنا حمم الرائحة في دقائق عبور الأتوبيس اللعين رقم 31، في زحامه رأيت ساعتي تطير، قذفها لص محترف فانفكّت وناولها لزميله، وأنا لا أجد مكاناً لقدم واحدة، ولا أستطيع أن ألقف الساعة، وأخشى أن أصرخ؛ فتنغرس في جنبي سكين؟ ما كانت أمي تسميه استعلاء وكبراً اتخذ اسماً آخر هو الكبرياء. بعد أن ناقشني عبد الوهاب مطاوع في عدة أمور، قال إنني مريض بالكبرياء، وصارحني بأنني سوف أتعب كثيراً؛ لأنني مختلف عن زملاء يجيدون التملّق، "لكنك سوف تصل في النهاية".

أنصتُّ إلى حنان حماد، لديها الكثير لتحكيه، والكثير لتكتبه، لولا الكسل والتعلل بانشغالات والتزامات. لم تتسع ساعتان لأحكي لها تلك المواقف كلها، ذكرت بعضا منها. حكيت ولم أهتم بالتنظير؛ فأقول مثلاً إن الفقر يطل أحياناً من العيون. لا أحد على الإطلاق لاحظ أن شيئاً ينقصني. حين تأتي لحظة كاشفة أبتعد عن صحبة زميلي "يسري" في الفسحة، وأعتذر عن حذف اسمي من قائمة رحلة الأقصر وأسوان، ولديّ قدرة على التسويغ والإقناع، حتى إن أصدقاء قالوا إنني أستطيع إقناعهم بأمر، وبعد دقائق أقنعهم بنقيضه.

انتصرتُ في معركة صراع الفقر للقفز من العيون، كبحتُه ولا أدري أنه أحياناً ينجح في إطفاء مؤقت للروح، غلالة رقيقة أشبه بنصف إعتام يحجب النفس، غُبشة مؤقتة تواري الجمر الجاهز للاشتعال والتوهج، حين يزول السبب، تستعيد الروح ألقها الطبيعي، لدرجة تدعو حنان حماد، في صيف 2024 وهي تتأسى على أحوال دار الكتب، إلى الممازحة؛ فتتذكّر أنني لم أكن "جميلاً هكذا" في تلك الأيام، لا أعادها الله.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image