"أما زلت تذكر أحلامنا" يا حسن؟… صديق "جمال" قبل أن يصبح "عبد الناصر"

سياسة نحن والتاريخ

السبت 27 سبتمبر 202516 دقيقة للقراءة

لعب المستشار حسن النشار دوراً كبيراً في حياة جمال عبد الناصر منذ صِغره؛ فهو الصديق الذي زامله خلال مراحل مبكرة من حياته واستمرّت علاقتهما حتى فترة ما بعد الثورة.

هو أخوه في الرضاعة الذي زامله في أغلب مراحل دراسته، وحينما رُزق جمال بابنته الأولى، أطلق عليها اسم "هدى"، وهو اسم زوجة النشار الذي كان الصديق الوحيد الذي ذكره بالاسم في الطبعات الأولى من كتابه "فلسفة الثورة".

استكشاف تلك العلاقة يمنحنا فرصة فريدة للتعرّف على المزيد من جوانب شخصية عبد الناصر والعوامل التي لعبت دوراً حاسماً في صهر خبراته وآرائه وبناء شخصيته التي غيّرت من تاريخ مصر، وربما منطقة الشرق الأوسط بأسرها.

في هذا الموضوع سنحاول استشراف ما أمكننا من ملامح طفولة عبد الناصر من خلال تتبّع السيرة المشتركة له مع صديقه حسن النشار.

أبناء وهيبة

بحسب ما نُشر في كتاب "مما جرى في برِّ مصر" للصحافي الشهير يوسف الشريف، فقد نمت الصداقة بين سامي النشار وعبد الناصر حسين في مصلحة البريد، ولأن الأول كان مديراً للثاني، حرص على أن يصحب صديقه معه في كل تنقلاته الوظيفية من صعيد مصر حتى الإسكندرية والخطاطبة (تقع اليوم ضمن محافظة المنوفية). نتيجة لهذه العلاقة الوظيفية الحميمية بين الرجلين، نمت صداقة بين زوجتيهما، وكذلك بين أولادهما، وخاصة بين جمال عبد الناصر وحسن النشار.

حكت السيدة وهيبة زوجة سامي النشار للشريف أن والدة عبد الناصر كانت بارعة في الشراء والفصال مع البائعين، لذا كانت تنوب عنها في ابتياع "لوازم البيت" على أن تترك لها جمال لرعايتها، الأمر الذي جعلها تتولّى إرضاعه يوماً.

لم تكن علاقة جمال عبد الناصر بحسن النشار مجرد صداقة صِبية جمعت بين مقاعد الدراسة، بل كانت امتداداً لرابطة عائلية منذ الرضاعة، وملاذاً نفسياً بعد فقدان الأم، وجسراً حمل الزعيم بين البيت والعسكر والسياسة

وحينما تعرّض جمال لأولى صدمات حياته بوفاة والدته، فإن والده طلب من السيدة وهيبة احتواءه، فلعبت دوراً كبيراً في تهدئة روع جمال خلال تلك الفترة التي أظهر تأثراً كبيراً برحيل والدته، حتى أنها ضبطته يوماً وهو يحفر الأرض بحثاً عن والدته المدفونة حسبما اعتقد وقتها.

خصصت وهيبة غرفة له في بيتها بالروضة إبان دراسته في كلية الحقوق ثم الكلية الحربية، وتحكي للشريف أنها في نهاية موسم الصيف كانت تشتري خيوطاً من الصوف حتى تصنع لكل واحد من أبنائها "بلوفر"، والأول دائماً كان من نصيب جمال. فتضيف: "كنت بالنسبة إليه في منزلة والدته ثم ازدادت الغلاوة المتبادلة بيننا بعد رحيلها".

خلال الترتيب لوحدة مصر مع سوريا تلقت السيدة وهيبة مكالمة مفاجئة من محمود الجيار، السكرتير الخاص لجمال عبد الناصر، بأنه سيزورها في منزلها في شارع المنيل. وبعد قليل، فوجئت الحاجة وهيبة بعبد الناصر يصحبها مع شكري القوتلي، رئيس سوريا الأسبق، وقدّمها له باعتباره "أمه الروحية"، ثم نقل لها أنهما يخططان لوحدة بين مصر وسوريا، وطلب منها الدعاء لهما بالتوفيق.

لاحقاً، تكرّر هذا الموقف تقريباً عام 1963 حين اتّصل مصطفى، شقيق جمال عبدالناصر، بحسن النشار، ليُخطره أن جمال في الإسكندرية و"عاوز يشوف السيدة الكريمة الوالدة"، بعدها أُرسلت لهما سيارة ذهبت بالأسرة كاملة إليه، حيث التقاهم بعد سنواتٍ من الغياب، بحسب كتاب الشريف.

زعيم طلبة ثانوي

بحُكم شهادة النشار للشريف، فإن عبد الناصر انخرط مبكراً جداً في العمل الوطني، فكان عضواً فعّالاً في مختلف التنظيمات الطلابية بالإسكندرية والقاهرة، حتى أصبح زعيماً للجنة العليا لطلبة المدارس الثانوية.

في يوم 13 تشرين الثاني/نوفمبر 1934، الذي يُوافق عيد الجهاد الوطني، والذي يحتفل به حزب الوفد، ألقى فيه قادته مصطفى النحاس ومكرم عبيد باشا كلماتٍ من نار أشعلت الحماس في المتظاهرين، من بينهم وقف جمال وحسن، الطالبان في السنة الرابعة الثانوية.

بعدها خرجت الجموع في مظاهرة وطنية عارمة تصدى لها البوليس وأطلق الرصاص على المتظاهرين. أصيب عبد الناصر سطحياً في رأسه، فنقله النشار وبعض زملائهم إلى مبنى جريدة "الجهاد"، حيث أجريت له بعض الإسعافات الأولية.

كثيراً ما اشترك الصديقان في الفعاليات والمظاهرات الوطنية، وخلال تلك الفترة كشف النشار أن جمال كان يتردد على مختلف الأحزاب من أقصى اليمين، مارّاً بالإخوان المسلمين، إلى أقصى اليسار الوطني، ممثلاً في حركة التحرر الوطني الماركسية، كذلك تأثر بأفكار الوفد ووريث ثورة 1919، وأيضاً بعض مواقف مصطفى كامل، زعيم الحزب الوطني وتشدده مع الإنكليز وفي قضايا الاستقلال.

أيضًا أظهر إعجاباً بتوجهات حزب "مصر الفتاة"، حتى أنه خلال فترة من حياته حين كان طالباً بمدرسة "النهضة" الثانوية بالضاهر، كان يضع شعار الحزب على ذراعه. لبعض الوقت تردد على مقر الحزب بانتظام، والتقى بعددٍ من قادته، لكنه ضاق ببعض مواقف الحزب التي لم يقبلها، فخلع شارة الحزب وابتعد عنه.

في النهاية، قرر عبد الناصر أن يكون حيادياً مستقلاً عن جميع الأحزاب المتنازعة بينها وبين بعضها، وأن يبحث عن آلية أخرى يغيّر بها الأوضاع بشكلٍ حاسم.

وكما جمعت السياسة بين هذا التوأم الملتصق (جمال وحسن)، فإنها فرّقت بينهما أيضاً بعدما تعرّض حسن للسجن خلال مشاركته في إحدى المظاهرات، فتأخر عن امتحان البكالوريا الذي خاضه عبد الناصر ونجح والتحق بكلية الحقوق بعد فشله في الالتحاق بالكلية الحربية بسبب عجزه عن توفير "واسطة" من أحد الباشوات تزكّي طلبه، بينما احتاج صديقه لعامٍ آخر يعيد خلاله امتحان البكالوريا.

ورغم أنه في ذلك الوقت كانت كلية الحقوق هي مقصد الطلبة الوطنيين الحالمين بدور سياسي لتحرير مصر، وكان يُطلق عليها "كلية الزعماء"، إلا أن عبد الناصر كان شغوفاً بدخول الكلية الحربية، لذا فما أن أُعلن عن دفعة جديدة للكلية الحربية حتى أقنع النشارُ اللواءَ حافظ صدقي، نائب الوفد في البرلمان عن دائرة الوايلي وقتها، بأن يتوسط لدى إبراهيم خيري، رئيس لجنة كشف الهيئة، بقبول جمال، وهذا ما تحقق بالفعل.

رسائل الثكنات… نحتاج ألف عامٍ من الإصلاح

بعدما أصبح جمال طالباً عسكرياً، لم تنقطع علاقته بأسرة النشار، فظلَّ يتردد عليهم كل أسبوع، ويقضي معهم يوم الإجازة، خاصة بعدما ارتحل والده من القاهرة، واستمر كذلك 18 شهراً (مدة الدراسة) حتى تخرج بعدها وأصبح ضابطاً.

خلال تلك الفترة، داوَم على مراسلة صديق عُمره أينما ذهب؛ من الإسكندرية ومنقباد وطنطا ومن السودان وفلسطين، عبّر جمال للنشار عن مشاكله وفلسفته في الحياة وأفكاره ونقده المرير للأوضاع السياسية والاجتماعية التي تمرُّ بها مصر آنذاك.

تُشكّل تلك الخطابات فرصة ثمينة لمعرفة النار التي كانت تموج في نفس عبدالناصر خلال تلك الفترة المبكرة من حياته التي صهرت وعيَه، وخلقت ثورة يوليو ومبادئها التي شكّلت مسار مصر ربما حتى اليوم.

بحسب ما روى سامي شرف، سكرتير جمال عبدالناصر، في كتابه "سنوات وأيام مع جمال عبد الناصر"، فإنه في سنة 1938 تخرج عبد الناصر في الكلية الحربية وعُين بسلاح المشاة في الكتيبة الخامسة التي كانت تُعسكر في منقباد بضواحي مدينة أسيوط في صعيد مصر.

من منقباد بعث الملازم جمال عبدالناصر بأول رسالة له قال له فيها: "صديقي حسن، تسلّمتُ عملي أمس في منقباد وهي مكان جميل وشاعري يبعث على التأمل، وهي تجمّع بين الصحراء والجبال والمزارع والبرك والأنهار (...) يسرّني يا حسن أن تعلم أن أخلاقي ما زالت متينة، وأن جمال عبد الناصر الحاضر أو الموجود في منقباد هو طبعاً جمال عبدالناصر الذي تعرفه منذ زمن بعيد، الذي كان يبحث عن آماله في الخيال لكنها تفرّ منه كالأشباح، ودخل في صراع بين ما يراه وبين ما يؤمن به، جمال القوي الذي يبحث في المحن عن أسباب الأمل" (منقباد، 8 آب/أغسطس 1938).

كما كتب له رسالة أخرى في شباط/فبراير 1939 جاء فيها: "نحن نشتغل يا حسن تحت رئاسة شوية (…) أكثرهم أو كلهم يتمنون عودة الاستعمار للسيطرة على الجيش المصري، وكلهم مجردون من الأخلاق (...) ويُحزنني يا حسن أن أقول إننا نسير إلى الهاوية بالرياء والنفاق والملق، أما أنا فقد صمدتُ ولذلك تجدني في عداء مع هؤلاء الكبار".

وفي حزيران/يونيو 1939 بعث رسالة بثّ فيها بعضاً من أوجاعه العائلية قائلاً: "عندي موضوع وأظنّك تعرف له حل، وهو رغبتي في إدخال شقيقي الليثي المدرسةَ مجاناً، وطبعاً هذا يقلل المصاريف عليّ أنا على وجه الخصوص، لأن والدي يظهر موش ناوي يدفع المصاريف أو جزء منها. أرجو أن تهتم بمسألة أخي الليثي وتجاوبني بصراحة… هل هذا في مقدورك؟".

وحينما انتقل إلى الخرطوم بعث له رسالة في 6 نيسان/أبريل 1941 جاء فيها: "الضباط يا حسن كل واحد مختار له محل علشان البنت اللي في المحل، واحد مختار الأجزاخانة، إذا ما دخلت حجرته سوف تجدها عبارة عن مخزن أدوية، قال لنا: 'إنني لم أشترِ اليوم سوى أسبرينة واحدة بقرش تعريفة، ومع ذلك وقف مع البنت البائعة في الصيدلية نصف ساعة تساوي شلن! حاجة تكسف يا حسن، آدي يا سيدي الضباط'".

وبالعام نفسه كتب له من فوق جبل الأولياء -مقر بعثة الري المصرية التي كانت لا تبعد كثيراً عن معسكره واعتاد التردد عليها في أوقات راحته لتناول الغداء مع أعضائها وخوض مناقشات مطوّلة- يقول: "المصريين في السودان ليس لهم في الحقيقة أي حس أو صوت، سواء كان ذلك الحكومة المصرية أو الأهالي. إنني أشعر بأن السودان ما زال إلى الآن مصرياً بالاسم فقط. حسن دي حاجة تسدّ النفس!".

ووفق كتاب "البكباشي والملك الطفل: مذكرات من مصر"، فإن عبد الناصر دخل يوماً في مشاجرة مع أحد قادته ونال عقاباً، فكتب إلى حسن: "أما زلت تذكر أحلامنا؟ مشاريع الإصلاح التي كنّا نأمل تحقيقها في ظرف عشر سنوات؟ أظن أنه يلزمنا الآن ألف سنة".

وحينما انتقل إلى طنطا سنة 1942 بعث له: "ربما نبقى مدة طويلة إذا لم تقم الحرب بين مصر وإيطاليا وإلا فإلى الحدود، أما مسألة الزواج فأظن أنه ليس من المناسب الكلام فيها الآن بسبب الحرب والحياة غير المستقرة التي نحن فيها الآن".

أيضاً كتب له من العلمين في الصحراء الغربية في شباط/فبراير 1942 يقول: "أما الجيش فقد كان لهذا الحادث (4 شباط/فبراير 1942 حين حُوصر قصر عابدين بالدبابات) تأثير جدّي على الروح والإحساس فيه، فبعد أن كنت أرى الضباط لا يتكلمون إلا عن اللهو والملذات، أصبحوا يتكلمون عن التضحية والاستعداد لبذل النفوس في سبيل الكرامة (...) هذه الطعنة ردّت الروح إلى بعض الأجساد وعرّفتهم أن هناك شيئاً اسمه كرامة الوطن، وأن عليهم أن يستعدّوا دائماً للدفاع عنها. لقد كان درساً (...) ولكنه درس قاسٍ"، وفقاً لما ورد في كتاب شرف.

معاً لقلب نظام الحُكم

كشف النشار أنه بعدما يئس الصديقان من الأحزاب جميعاً، انضما إلى تنظيم وطني يهدف إلى قلب نظام الحُكم بالقوّة، كان يحمل اسم "جبهة مصر". ذلك التنظيم كان يجتمع سرّاً في منزل الدكتور محمد سالم، وكيل وزارة الحربية، وهو ابن شقيق الدكتور عبدالرحمن عزام أول أمين عام للجامعة العربية. أعجب عبد الناصر بفكرة ذلك التنظيم وآمن بهدفه حتى أنه دعى بعض أصدقائه الضباط لحضور اجتماعاته وعلى رأسهم خالد محيي الدين ومحمود لبيب.

لاحقاً، قرّر عبد الناصر، لدواعي السرية، عقد جلسات الضباط من أعضاء ذلك التنظيم في منزله، بينما كان المدنيون يجتمعون في "جمعية الشبان المسلمين" بشارع "رمسيس"، لكن القلم السياسي نجح في الإيقاع بهم، كان من بينهم النشار الذي قضى عاماً ونصفاً في السجن أنهى خلالها امتحان ليسانس الحقوق. في ذلك الوقت اعتكف عبد الناصر مؤقتاً عن العمل السياسي، وتفرّغ للزواج عام 1944 درءاً للشبهات.

حظي ذلك التنظيم بقيادة عليا من علي ماهر باشا وصالح حرب باشا ومصطفى الشوربجي نقيب المحامين، إلا أن تلك المحاولة انتهت بالفشل.

بعد انكشاف أمر "جبهة مصر"، أدرك عبد الناصر خطورة جمع المدنيين والعسكريين معاً في تنظيم واحد، فقرر تشكيل تنظيم "الضباط الأحرار"، وأن تقتصر عضويتهم على العسكريين فقط، ومن هنا كانت بداية تنظيم "الضباط الأحرار" الذي فجّر ثورة يوليو.

ابننا الزعيم

لعب حسن النشار دوراً هامشياً ليلة ثورة يوليو بعدما مرّ عليه عبد الناصر بصحبة عبد الحكيم عامر، وطلبا منه الذهاب إلى منزل أنور السادات، ليبلغه أن عليه الاتصال بهما ضروري. حينما نفّذ النشار المطلوب وجد مدام جلاديس تشارلز، حماة السادات، التي أخبرته أن أنور اصطحب ابنتها (زوجته جيهان) إلى سينما الروضة وأنها ستُبلغه فور عودته.

بعد قيام الثورة بيومين، ذهب إلى شقة جمال عبد الناصر في كوبري القبة، وتناول معه الغداء، ونزلا سيراً على الأقدام حتى مقر قيادة الجيش. هنا رأى الكثير من التبجيل لصديق عُمره: "لم أكن في حاجة إلى مَن يؤكد لي أن جمال عبد الناصر هو القائد الفعلي للثورة"!

ورغم أنه بعدها عجَز عن مقابلته بانتظام، لكن جمال منحه تأييداً مفتوحاً بقوله: "يا حسن لو واجهتك أي مشكلة، اذهبْ فوراً إلى المسؤول وأبلغه على لساني أن يحلها".

أما أسرة النشار فقد عاشت حالة من السعادة بعدما طالعوا صور "ابنهم" عبد الناصر وهو يظهر في الصور المنشورة بالجرائد التي وصفته بأنه قائد "الحركة المباركة".

عيّن جمال الدكتور علي سامي النشار (شقيق حسن ومفكر إسلامي بارز) مستشاراً ثقافياً لمجلس الثورة، وهي المهمة التي استمرّ فيها حتى قرّر علي النشار الزواج من فتاة أوروبية، خطوة لم يوافق عليها عبد الناصر واعتبرها تتناقض مع الظروف المشتعلة التي تعيشها مصر بعد الثورة ودخولها عدة تحديات على رأسها احتدام علاقتها بالغرب.

أما حسن النشار فقد توقّع كثيرون إسناد منصب رفيع له بسبب نضاله السياسي الطويل ضد الملكية والإنكليز، إلا أن ذلك لم يحدث، فقد استمرّ في عمله مستشاراً في قلم قضايا الحكومة، حتى انتقل إلى "شركة الجمهورية للتأمين"، دون أن يحظى بمعاملة تمييزية في عمله، وقد حكى في حوار: "تحملت الكثير من الاضطهاد في عملي بقضايا الحكومة وشركة الجمهورية للتأمين، رغم ذلك لم أكن ألجأ إليه".

لم يمنع هذا أن يحظى حسن بمكانة خاصةً لدى عبد الناصر بسببها كلّفه بـ"مهمة خاصة جداً"، ففي عام 1954 استدعاه عبد الناصر وكلّفه بالمساهمة في تشكيل حزب سياسي ديمقراطي يمثّل مبادئ الثورة بعدما كشف لهم نيته حلّ "هيئة التحرير"، التي شكّلها مجلس قيادة الثورة، لتكون ذراعه السياسي، لكنها فشلت في تلك المهمة.

خلال أحد اجتماعات النشار وبعض المُكلّفين بالحزب الجديد في مجلس قيادة الثورة وقعت مشاجرة مع بعض الضباط الأحرار بعدما طالبوا بعودة الجيش إلى ثكناته، لكن عبد الناصر ردّ عليهم بأن لديه في المخازن "عشرات الجوالات" من رسائل العمال والفلاحين الذين يطالبونه بالاستمرار في الحُكم، وهو غير مستعد للتراجع وترك البلد للأحزاب والإقطاع وأذناب الاستعمار.

وبحسب كتاب "الرئيس الذي لم يسرق"، فإن النشار كان شاهداً -الوحيد ربما- على أول قصة حب في حياة جمال، وهي سعاد، زميلة شقيقة حسن في مدرسة فنون التطريز، والتي فشل في الارتباط بها، لكن ذكراها بقيت في ذهنه، حتى أنه لما بلغه نبأ وفاتها في أيار/مايو 1970 وضع نظارة سوداء وسار بسيارة مسدولة الستائر في جنازتها دون أن يعرفه أحد إلا النشار.

على خُطى العقاد

حسبما رُوي في كتاب "جمال عبد الناصر: في طريق الثورة" على لسان النشار، "كان عبدالناصر يشتري كتب توفيق الحكيم، وبعد أن يقرأها يعطيها لي وأشتري كتب العقاد ثم أعطيها له ليقرأها، حتى استقرت كتب توفيق الحكيم عندي واستقرت كتب العقاد لديه".

بحسب الكتاب، فإن تلك العادة لعبت دوراً كبيراً في صياغة عقلية عبدالناصر، لأن توفيق الحكيم مثّل الرؤية العاطفية والواقعية والانتقادية عبر رواياته ومسرحياته، مثل رواية "يوميات نائب في الأرياف"، التي انتقد فيها الإدارة المحلية بالريف، أما رواية "عودة الروح" فقد حظيت بأقصى اهتمام جمال عبدالناصر؛ فالمضمون الواقعي الانتقادي لتلك الرواية ترك أعمق الأثر في وجدانه بسبب جودة الموضوعات التي أثارتها: الواقع الذليل المُرّ، التراث العظيم الخالد، ضرورة ظهور زعيم للمصريين يستطيع توحيد صفوفهم وقيادتهم في النضال من أجل الحرية والوحدة القومية.

يقول حسن في الكتاب السابق ذكره: "من الحوادث التي استوقفته (يقصد جمال) ووضع خطوطاً غليظة تحتها، ذلك الحوار الذي يطرح فكرة البطل المنقذ والذي دار بين عالم الآثار الفرنسي السيد فوكيه ومهندس الري الإنجليزي السيد بلاك". في ذلك الحوار أكّد الأثري الفرنسي أن الشعب المصري يمتلك قوة كامنة وهو شعب متماسك متجانس مستعد للتضحية بل يستعذبها.

تُظهر رسائل عبد الناصر إلى حسن النشار شاباً لم يكن يكتفي بالانضباط العسكري أو الشعارات الوطنية، بل كان مشغولاً بتشريح أوجاع بلده، بين فسادٍ متجذر واحتلال متغطرس ويأس يثقل النفوس

ونقل كتاب "دراسات في الحقبة الناصرية" عن حسن النشار أن جمال كان معجباً بمقالات أمين الرافعي، خاصةً تلك التي تناولت فضل الحضارة العربية على الحضارة الغربية، وتأثر برأيه حول إمكانية استعادة العرب لدورهم بالعلم والوحدة والحرية.

خلال حديثه مع "روز اليوسف" قال النشار: "كان جمال ولوعاً بالاستماع للشيخ محمد رفعت في قراءة القرآن، وبالشيخ الفران في التواشيح، وكان يحفظ العديد من التواشيح والموشحات الأندلسية والتركية، وكان يجيد الاستماع للموسيقى العربية الكلاسيك وبعض أغنيات مجمد عبدالوهاب القديمة، وكان يحلو له ترديد أغنيتَي 'جفنه علم الغزل' و'ليلة الوداع طال السهر'، أما حبه لأم كلثوم فلقد نما خلال خطبته لزوجته السيدة تحية".

رأى جورج فوشيه في كتابه "جمال عبد الناصر فى طريق الثورة"، أن هذه النوعية من القراءات "غرست في أعماقه حُب الأعمال المجيدة وألهبت فيه الروح الوطنية وبلورت في ذهنه فكرة الالتحاق بالكلية الحربية ليكون واحداً من الذين يساهمون في إغناء الحياة العربية".

هذا الفهم يتضح في خطابٍ بعثه لصديقه النشار في 2 أيلول/سبتمبر 1935 قال فيها -وفق المصدر السابق- بأن "اليأس قد أبلغ أشدّه! وَمن في مقدرته أن يعيد بناء الوطن؟ مَن يستطيع إيقاظ أولئك البائسين الذين يجهلون كل شيء عن حالتهم؟ مَن يستطيع أن يقوم اليوم ويقض مضاجع أمثال كرومر؟".

غرفة الذكريات

بحسب سامي شرف فإن المستشار حسن احتفظ بكل محتويات غرفة عبد الناصر كما كانت، ولم يغير حتى قماش "العفش". وكذلك احتفظ بكنز ثمين يضمُّ مجموعة من الصور والرسائل التي بعثها له عبد الناصر قبيل ثورة يوليو. فتح النشار بعض أسراره للصحافيين الذين تواصلوا معه، فيما أبقى البقية في معيته حتى رحل ومعه سرّها.

لاحقاً أزيل البيت رقم 21 في شارع المنيل الذي جمعه مع عبد الناصر، لتُقام بدلاً منه عمارة استثمارية، وتحلّ نهاية لا رجعة فيها لشاهد العيان العقاري الذي عاصَر علاقة الصداقة المتينة التي جمعت بين حسن وجمال، التي ربما استفاد فيها الأخير بأضعاف ما جناه الأول، على الرغم من أن كثيرين توقّعوا أن تسير الأمور بغير ذلك تماماً.

برغم ذلك، قضى حسن ما بقي من عُمره يعتبر نفسه حارساً على "كنز الذكريات" بفضل ما يمتلكه من قصص و"حواديت" وصور ووثائق عن الرجل الذي حكم مصر؛ بعض تلك الأسرار كشفها حسن تباعاً وأخرى ماتت معه وفقدناها إلى الأبد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منذ البداية، لم نخاطب جمهوراً... بل شاركنا الناس صوتهم.

رصيف22 لم يكن يوماً مشروع مؤسسة، بل مشروع علاقة.

اليوم، ونحن نواجه تحديات أكبر، نطلب منكم ما لم نتوقف عن الإيمان به: الشراكة.

Website by WhiteBeard
Popup Image