في الساعات الأولى من صباح يوم 13 حزيران/ يونيو 2025، شنَّ الجيش الإسرائيلي هجوماً واسعاً أُطلق عليه اسم عملية "الأسد الصاعد"، بمشاركة نحو 200 طائرة حربية من طراز إف-15 وإف-16 وإف-35، استهدفت مواقع متعددةً داخل إيران، شملت منشآت مرتبطةً بالبرنامج النووي، وقواعد عسكريةً، بالإضافة إلى اغتيال قادة بارزين. اعتمدت إسرائيل، وفقاً لعقيدتها العسكرية المعروفة بـ"المعركة بين الحروب"، على حزمة من العمليات المركّبة، شملت هجمات إلكترونيةً، تخريباً للبنى التحتية، اختراقات معلوماتيةً، وحرباً نفسيةً، بجانب ضربات جوية مباشرة صُمِّمت لتُحدث اضطراباً ممنهجاً في البنية اللوجستية والعسكرية لإيران. وبعد نحو عشرين ساعةً فقط من بدء الهجوم، ردّت إيران بموجات من الهجمات الصاروخية والمسيّرة، حيث أطلقت نحو 550 صاروخاً باليستيّاً، وأكثر من 1،000 طائرة مسيّرة باتجاه إسرائيل.
على مدى اثني عشر يوماً، اندلعت الحرب بين إيران وإسرائيل، وشكّلت محطةً فاصلةً في تاريخ الصراع المزمن بين الطرفين، ووُصفت بأنها "حرب بلا منتصر حاسم"؛ إذ لم يتمكّن أيٌّ من الطرفين من فرض حسم عسكري أو سياسي نهائي، ما حوّل الصراع إلى حرب استنزاف طويلة الأمد ذات تداعيات خطيرة على المنطقة والعالم.
من هذا المنطلق، يُطرح السؤالان المحوریان التاليان: لماذا يُعدّ وقف إطلاق النار أو الهدنة بين إيران وإسرائيل هشّاً/ ةً للغاية؟ وما العلامات والدلائل التي توحي بأنّ الحرب قد تعود في أي لحظة بين هذين الخصمين الإقليميين اللدودين؟
لماذا تُعدّ الهدنة بين إيران وإسرائيل هشّةً؟
السبب الأول: غياب آليات المراقبة
جاءت الهدنة نتيجة ضغوط دولية وإعلان مفاجئ في 24 حزيران/ يونيو الماضي، بوساطة أمريكية، من دون أي تفاهمات مسبقة. أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عبر منصة تروث سوشال، عن اتفاق "نهائي" لوقف النار لمدة 12 ساعةً، وقال إنّ الصراع بعدها سيكون "منتهياً". لكنّ طهران سارعت إلى رفض هذا الإعلان، إذ أكّد وزير الخارجية عباس عراقجي، أن لا اتفاق مسبقاً وملزماً، وأنّ إيران لن توقف عملياتها إلا إذا توقفت إسرائيل عن عدوانها. وبرغم دخول الهدنة حيّز التنفيذ، تبادل الطرفان الاتهامات بخرقها منذ اللحظة الأولى: إسرائيل أعلنت اعتراض صواريخ أطلقتها إيران، بينما نفت طهران ذلك وردّت إسرائيل بضربة جديدة.
أربعة أسباب وخمسة مؤشرات تجيب عن السؤالين الضروريين: لماذا يُعدّ وقف إطلاق النار أو الهدنة بين إيران وإسرائيل هشّاً/ ةً للغاية؟ وما العلامات والدلائل التي توحي بأنّ الحرب قد تعود في أي لحظة بين هذين الخصمين الإقليميين اللدودين؟
هذا الواقع يؤكد أنّ ما جرى لم يكن معاهدةً رسميةً أو اتفاقاً واضح البنود، بل تهدئة لفظية فرضتها وساطات هشّة وضغوط دولية. فغياب آليات قانونية ملزمة أو مراقبة محايدة يجعل هذه الهدنة عرضةً للانهيار في أي وقت. هذا الوقف لم ينتج عن مفاوضات مدروسة أو إطار قانوني متفق عليه، بل جاء استجابةً فوريةً لتصريح ترامب الداعي إلى وقف إطلاق النار من كلا الجانبين. كانت الهدنة في الغالب لفظيةً وليست عبر معاهدة ملزمة تُشرف عليها جهة ثالثة مستقلة. فوقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل لم يُرفق بأي آلية أو ميثاق واضح يُلزم الطرفين، ثمّ إنّ هذه الهدنة محكوم عليها بالضعف واللااستقرار.
السبب الثاني: غياب النصر الحاسم
الحرب التي استمرت 12 يوماً لم تُفضِ إلى انتصار عسكري أو سياسي لأيٍّ من الطرفين. حاولت إسرائيل الترويج لسردية نجاحها في ضرب أهداف داخل إيران، بينما أكدت طهران أنها صدّت الهجوم الإسرائيلي الأمريكي ووجّهت لإسرائيل "أقسى ضربة منذ تأسيس دولة إسرائيل". مع ذلك، لم تتمكّن إسرائيل من القضاء على البنية التحتية للصواريخ الباليستية الإيرانية التي تشكّل تهديداً مباشراً لها، كما لم تحصل على قرار دولي لإسقاط النظام الإيراني. بعض المنشآت النووية ومرافق الدفاع الإيرانية بقيت صامدةً، ما سمح لإيران بالاحتفاظ بقدرتها على استئناف برامجها.
من جانبها، وبرغم فقدانها قادةً بارزين وعلماء، نجحت إيران في إعادة هيكلة القيادة بسرعة لتقليل أثر الضربات على التنسيق العملياتي، ولجأت إلى تكتيك الهجمات المتنوّعة باستخدام صواريخ فرط صوتية وطائرات مسيّرة، ما أربك الدفاعات الإسرائيلية واستهدف مناطق حيويةً مثل غوش دان، لخلق ضغط نفسي على المدنيين.
وهكذا، ما حصل كان توازناً في الخسائر والمكاسب: إسرائيل اعتمدت على تحالفات وتقنيات دفاعية متطورة لتقليل الأضرار، فيما استندت إيران إلى إستراتيجيات مرنة للحفاظ على قدراتها. النتيجة: حرب بلا غالب ولا مغلوب، ما يجعل أي وقف لإطلاق النار هشّاً بطبيعته.
السبب الثالث: ضغوط داخلية وحاجة إلى إعادة ترتيب الأوراق
قبولُ الطرفين بالهدنة لم ينبع من رغبةٍ حقيقية في السلام، بل من حاجةٍ ملحّة إلى إعادة التقاط الأنفاس وإعادة بناء القدرات. فقد احتاجت إيران وقتاً لتعويض خسائرها وترميم منظوماتها الصاروخية والرادارية، وكذلك لدفن شهدائها وقادتها الذين سقطوا خلال الحرب. وبعد تكبّدها خسائر فادحةً في منظوماتها، أصبحت إعادة بناء القدرات الدفاعية والهجومية أولويةً قصوى، شملت تحديث أنظمة الصواريخ والرادارات وإصلاح البنى التحتية اللوجستية، كما استُغلّت الهدنة لتحقيق التعافي الإستراتيجي على مستوى السياسات والقدرات العملياتية، ولمنح الوقت اللازم لتقوية الاحتياطيات ومعالجة نقاط الضعف.
أمّا إسرائيل، فرأت في الهدنة فرصةً لشراء ذخائر جديدة والتزوّد بالأسلحة، كما سعت إلى معالجة الثغرات في دفاعها الجوي بعد استنزاف ترسانتها بفعل الهجمات الإيرانية. وبفعل كثافة الهجمات بالطائرات المسيَّرة والصواريخ الإيرانية، شهدت الترسانة الصاروخية الإسرائيلية تراجعاً ملحوظاً واقتراباً من النفاد، كما أصبحت الحدود الجوية أكثر عرضةً للخطر. لذلك عدّت تل أبيب وقف إطلاق النار فرصةً لإعادة ترتيب الأوراق العسكرية والإستراتيجية وتصحيح الأخطاء في منظوماتها الدفاعية.
من ناحية أخرى، وفّر وقف إطلاق النار فرصةً لمعالجة الثغرات الأمنية الداخلية. فقد واجهت إيران في الأيام الأولى من الحرب صدمةً إستراتيجيةً استدعت وقتاً للتعافي وإعادة التموضع. ومن أولوياتها حينذاك كان توقيف العملاء والجواسيس في الداخل. وقد ذكرت وكالة أنباء فارس شبه الرسمية، أنّ السلطات اعتقلت 700 شخص بتهمة "العمل لصالح إسرائيل" خلال الحرب التي دامت 12 يوماً. وأضاف التقرير أنّ "المرتزقة الذين عملوا أساساً ضمن شبكات التجسّس والتخريب، جرى تحديدهم واعتقالهم بناءً على بلاغات عامة وعمليات استخباراتية".
من جهته، أقرّ جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد)، بدور عناصره السرّيين العاملين داخل إيران في إطار عملية "الأسد الصاعد"، التي بدأت بهجمات غير مسبوقة على إيران في 13 يونيو/ حزيران 2025. وفي 30 حزيران/ يونيو نفسه، أعلن جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، بالتعاون مع الشرطة الإسرائيلية، عن اعتقال ثلاثة مواطنين إسرائيليين في قضيتين منفصلتين، بتهمة تنفيذ مهام لصالح جهات استخباراتية إيرانية، وذلك في سياق التصعيد المستمر بين إيران وإسرائيل. من هذا المنظور، تظلّ الهدنة أقرب إلى سلام مسلّح أو استراحة عمليات تمنح كل طرف فرصةً لإعادة ترتيب أوراقه العسكرية والسياسية استعداداً لجولة قادمة، بدلاً من أن تكون بوابةً إلى سلام دائم.
السبب الرابع: انعدام الثقة المتبادلة
بعد أيام قليلة من وقف إطلاق النار، شهدت إيران موجة انفجارات غامضة في منشآت حساسة مثل المصافي والمخازن العسكرية، بمعدل انفجار أو اثنين يومياً. وبرغم أنّ طهران لم تتهم إسرائيل علناً لتجنّب الاعتراف باختراق واسع، إلا أنّ مسؤولين إيرانيين قالوا لصحيفة "نيويورك تايمز"، إنّ هذه الحوادث ليست "مصادفات". اللواء عبد الرحيم موسوي، رئيس الأركان الإيراني، شكّك علناً في التزام تل أبيب بالهدنة، مؤكّداً أنّ إيران جاهزة للردّ بقوة إذا تكررت الاعتداءات.
في المقابل، تتهم إسرائيل إيران بخرق التهدئة عبر دعم هجمات جماعة "أنصار الله-الحوثيين" في اليمن، بينما أشار رئيس الموساد ديفيد برنيا، إلى وجود عملاء داخل إيران قائلاً: "تماماً كما كنّا هناك، سنبقى هناك". كما حذّر ضباط ومسؤولون آخرون من أنّ الجولة الثانية من الحرب قادمة لا محالة، ورأى أحد مستشاري نتنياهو أنّ عدم شنّ هجوم استباقي على إيران بمثابة انتحار، عادّاً أنّ إيران تشكّل تهديداً وجودياً كبيراً لإسرائيل. وبحسب داني سترينوفيتش، الرئيس السابق لفرع إيران في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، فإنّ طهران تعيش ضائقةً إستراتيجيةً قد تنفجر في مواجهة جديدة.
مجمل هذه العوامل من غياب آليات المراقبة، وعدم وجود منتصر، والضغوط الداخلية، وانعدام الثقة، تجعل الهدنة بين إيران وإسرائيل هشّةً وقابلةً للانهيار في أي لحظة، مع استمرار خطر اندلاع حرب ثانية ذات تداعيات كارثية على الأمن الإقليمي والدولي.
مؤشّرات اندلاع الحرب الثانية بين إيران وإسرائيل
المؤشّر الأوّل: تصاعد الخطاب الحربي
يتجلّى تصاعد الخطاب الحربي بين القيادات الإيرانية والإسرائيلية في تهديدات صريحة باستئناف العمليات العسكرية، ما يحوّل السياسة من أداةٍ للتهدئة إلى وسيلةٍ لتأزيم الصراع. كلّ تصريحٍ عدائي يُعدّ مؤشراً يزيد من احتمال الانزلاق نحو مواجهة جديدة. صرَّح يسرائيل كاتس، وزير الدفاع الإسرائيلي: "نحن نستعد لمفاجأة جديدة لإيران"، ورأى بعض المراقبين أنّ هذه التصريحات تُفهم على أنها إعلان عمليّ عن استعداد لمواجهة. كما قال رئيس الوزراء المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، بنيامين نتنياهو، في خطاب أمام هيئة الأركان: "علينا تدمير المحور الإيراني… هذا العام قد يكون تاريخياً لأمن إسرائيل، ونحن مصمّمون على تحقيق أهداف حربنا".
في كلمته خلال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، قال نتنياهو: "كثيرون ممّن يشنّون الحروب علينا اليوم، خصوصاً في إيران، لن يكونوا موجودين غداً، وستحلّ محلّهم قوات سلام". من جهته، قال يوآف غالانت، وزير الحرب السابق، إنّ "تل أبيب لا تعدّ الحرب المنتهية مع إيران نهائيةً، وتتوقع الجولة الثانية". وتطرّق مسؤولون أمنيون إلى إمكانية استهداف قيادات إيرانية، ما يشير إلى تحضيرات لإجراءات عسكرية واسعة النطاق. وأكّد جاك نيريا، ضابط مخابرات إسرائيلي سابق، أنّ "هناك احتمالاً لاندلاع جولة ثانية… وإيران تستعد للانتقام".
على الجانب الإيراني، تصاعدت لهجة التحذير وارتفعت وتيرة الاستعداد. قدّر مسؤولون أنّ احتمال اندلاع حرب جديدة مرتفع، وأنّ القوات المسلّحة وُضعت في درجات جاهزية أعلى مقارنةً بفترة الحرب. صرّح القائد العام للجيش اللواء أمير حاتمي، بأن "تظلّ القوات دائمة الجاهزية"، وأكد العميد أحمد رضا بوردستان، رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية لجيش الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أنّ ميادين المواجهة قد تتنوّع في القتال المقبل.
وحذّر المساعد والمستشار الأعلى للقائد العام للقوات المسلحة، يحيى رحيم صفوي، في 18 آب/ أغسطس 2025: "قد تندلع حرب جديدة في أي لحظة… ليست هناك هدنة نهائية؛ نحن في طورٍ من أطوار الحرب". وفي سياقٍ متصل، أعلن محمد باقر قاليباف، رئيس مجلس الشورى الإيراني: "في الحرب المقبلة المحتملة سينتهي صبرنا وضبط النفس"، وأضاف مخاطباً المجلس: "ستُضاف مناطق وأهداف جديدة إلى ردّنا على أي عدوان، وإذا تمادى العدو فقد تمتدّ الحرب إلى المجالات الاقتصادية والسياسية".
من جهته، قال وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، على منصة إكس: "إذا تكرّر أيّ عدوان، فلن نتردّد في الردّ بشكل أكثر حسماً وبطريقة لا يمكن إخفاؤها". ويُجمع قادة طهران على أنّ تكلفة أي ردّ يجب أن تكون باهظةً لتثبيت الردع ومنع تكرار العدوان.
المؤشّر الثاني: تسريع سباق التسلّح
تمثّل فترة الهدنة مرحلةً حسّاسةً في سباق التسلّح، إذ يعمل الطرفان على تعزيز قدراتهما العسكرية والتكنولوجية بشكل متزامن لتحسين خيارات الردع والهجوم. يشمل هذا المسار تخزيناً منهجياً للأسلحة، تحديث القدرات الهجومية والدفاعية، وإجراء تجارب صاروخية وتدريبات مكثفة، ما يحوّل الهدنة إلى مرحلة لإعادة التموضع العسكري بدلاً من تهدئة دائمة. فبعد إعلان الهدنة، توجّه نتنياهو إلى واشنطن وطلب دعماً بصواريخ دفاعية وذخائر متقدمة.
وفق التقارير، أمرت وزارة الدفاع الإسرائيلية بتسريع برامج تطوير أنظمة Arrow 3/4، والقبة الحديدية، والمشروعات الليزرية والرادارات المتقدمة، كما جرى التعاون مع شركات محلية لتصميم صواريخ اعتراضية جديدة. وتشير صور الأقمار الصناعية إلى تفعيل أربع منصات إطلاق جديدة لنظام الدفاع الصاروخي "ثاد" في إسرائيل، ليصبح عددها الإجمالي عشر منصات، ما يعكس تعزيزاً ملحوظاً للقدرات الاعتراضية.
تركّزت جهود إسرائيل خلال الهدنة على:
1- تطوير منظومة "آرو 4" بدقة أعلى وإنتاج أسرع.
2- تحديث برامج القبة الحديدية ومقلاع داود لاعتراض الصواريخ الباليستية.
3- تعزيز القدرات الجوية واللوجستية باستلام طائرات تزويد بالوقود KC-46.
4- الاعتماد على التحالفات لتمكين التزوّد بصواريخ باتريوت وTAD.
5- زيادة إنتاج الصواريخ الاعتراضية (حيتس 3/ حيتس 4).
6- إجراء تدريبات لمحاكاة هجمات صاروخية على نطاق واسع.
من جهة أخرى، أجرت إيران تجارب على صواريخ بعيدة المدى وعابرة للقارات كرسالة ردع، واستمرت في إعادة بناء منشآتها الصاروخية وتطوير برامجها الصاروخية والنووية، بما في ذلك إعادة تأهيل مرافق الإنتاج (خلاطات وقود صلب)، وإجراء تجارب لتعزيز الدقة والمدى. وأظهرت صور الأقمار الصناعية بدء إيران بترميم مواقع إنتاج الصواريخ التي قصفتها إسرائيل خلال حرب حزيران/ يونيو الماضي، مع التركيز على إعادة بناء المنشآت الأساسية، مثل خلاطات الوقود الضرورية لاستئناف الإنتاج، ويُتوقع أن تشتري إيران هذه الخلاطات من الصين لتعزيز برنامجها الصاروخي، وفقاً لمصادر أمريكية وخبراء.
شكلت العوامل الدبلوماسية والاقتصادية عاملاً إضافياً يزيد من هشاشة الهدنة. فقد تفعّلت آلية "الزناد" (Snapback)، بإجراء من الترويكا الأوروبية ودعم أمريكي، ما أفضى إلى إعادة فرض عقوبات دولية على إيران وفتح باب الضغوط من جديد. هذه الضغوط قد تفضي إلى ردّ إيراني تصاعدي
كما ركّزت طهران على شراكة إستراتيجية أوسع مع الصين، لتزويدها بمقاتلات متعددة المهام J-10C، ومنظومات إنذار وسيطرة AWACS، وصواريخ كروز مضادة للسفن من طراز YJ-12، ومنظومات دفاع جوي HQ-9B وHQ-16، بالإضافة إلى رادارات حديثة لتعويض التأخير في تسليم المقاتلات الروسية سو-35، وإعادة بناء دفاعاتها الجوية والبحرية. وأظهرت التقارير أنّ الصين ساعدت إيران في إعادة بناء القدرات الصاروخية، بما يشمل مرافق الإنتاج واللوجستيات الخاصة بالصواريخ الباليستية، لتعزيز الدفاعات وإعادة التزوّد بالأسلحة.
إجمالاً، يُظهر هذا التصعيد المستمر في سباق التسلح أنّ الهدنة الحالية تبقى هشّةً، وأنّ الطرفين يستغلانها لإعادة بناء القدرات العسكرية وتعزيز التخزين والتزوّد بالأسلحة، ما يزيد من احتمال اندلاع مواجهة عسكرية مستقبلية مع تداعيات واسعة على الأمن الإقليمي والدولي.
المؤشّر الثالث: الضغوط الدولية وتفعيل آلية الزناد
شكلت العوامل الدبلوماسية والاقتصادية عاملاً إضافياً يزيد من هشاشة الهدنة. فقد تفعّلت آلية "الزناد" (Snapback)، بإجراء من الترويكا الأوروبية ودعم أمريكي، ما أفضى إلى إعادة فرض عقوبات دولية على إيران وفتح باب الضغوط من جديد. هذه الضغوط قد تفضي إلى ردّ إيراني تصاعدي، بما في ذلك خيار الانسحاب من معاهدة عدم انتشار السلاح النووي (NPT)، كخطوة انتقامية أو احترازية.
نُقل عن عضو مجلس الشورى حسين علي حاجي دليغاني، أنّ البرلمان بدأ بإعداد مسوّدة للانسحاب من المعاهدة ردّاً على تهديد الترويكا بتفعيل "الزناد". وفي تصريح مفصّل، أكّد علي لاريجاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، في مقابلة مع فريق برنامج PBS الأمريكي الذي زار إيران، أنّه إذا تم تفعيل آلية "الزناد" فستوقف طهران تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشكل كامل.
فمع فشل المساعي الدبلوماسية في مجلس الأمن وعودة العقوبات، باتت الساحة الإقليمية أكثر عرضةً للخيارات العسكرية. وتشير التحليلات إلى أنّ أي هجوم إسرائيلي مستقبلي قد يستهدف البرنامج النووي الإيراني، وربما يتوسّع ليشمل أهدافاً تمسّ ركائز النظام، ما يزيد من احتمالات انزلاق الصراع إلى مواجهة مباشرة. ومن منظور القيادات الإسرائيلية، تُقرأ آلية "الزناد" أحياناً كغطاء سياسي قد يسهّل اتخاذ خيارات عملية ضد المواقع النووية الإيرانية.
المؤشّر الرابع: إعادة تخصيب اليورانيوم
أفاد تقرير للبنتاغون بأنّ الضربات الجوية الإسرائيلية والأمريكية أرجأت البرنامج النووي الإيراني لأشهر عدة، فيما حذّر مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، من احتمال استئناف تخصيب اليورانيوم خلال ثلاثة إلى أربعة أشهر. وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي أنه سيراقب الملف فترة 60 يوماً قبل اتخاذ "الخطوة التالية".
وأكد تقرير للوكالة الدولية بتاريخ 7 أيلول/ سبتمبر الجاري، أنّ إيران تحتفظ بمخزون من اليورانيوم المخصّب يكفي نظرياً لإنتاج مادة نووية قابلة للاستخدام، برغم تضرّر بعض المنشآت جزئياً. رفضت طهران مطالب أمريكيةً بتفكيك برامجها النووية والصاروخية، ويُنظر إلى هذا الملف في تل أبيب على أنه "خطر وجودي" قد يدفعها إلى خيار الضربة الوقائية.
وبرغم فتوى المرشد بتحريم السلاح النووي وتصريحات رسمية بعدم حاجة البلاد إلى سلاح نووي، تصاعدت في أوساط البرلمان مطالب بمراجعة العقيدة الدفاعية. ففي 22 أيلول/ سبتمبر 2025، طالب 71 نائباً إيرانياً، المجلس الأعلى للأمن القومي بمراجعة فتوى 2003، ردّاً على ما وصفوه بـ"فقدان الردع" بعد الضربات الإسرائيلية. مثل هذه المبادرات، بجانب التحذيرات العسكرية، ترفع من منسوب المخاطر الإقليمية وتُعزز احتمال استهداف إسرائيلي مستقبلي لإيران. كما أنّ النقاشات حول تعزيز أدوات الردع الإيرانية، بما في ذلك مراجعة برامج الصواريخ وتقوية الدفاعات، تثير تساؤلات جوهريةً حول ما إذا كانت هذه الإجراءات ستردع العدوان أو ستزيد من احتمال اندلاعه.
المؤشّر الخامس: تقارب نتنياهو وترامب
تعتمد إسرائيل على دعم الولايات المتحدة والتحالفات الدولية في مواجهة التهديد الإيراني، سواء عبر تزويدها بأنظمة دفاعية متقدمة أو عبر توفير غطاء دبلوماسي لعملياتها المحتملة. وتؤدي الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية على طهران إلى تكثيف احتمالات ردودٍ تصعيدية من جانبها.
لم تعد الفجوة بين مواقف دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو كبيرةً، كما كانت سابقاً؛ فالاجتماعات المتكررة بين الزعيمين خلال تسعة أشهر من عام 2025، ركّزت على البرنامج النووي الإيراني، وقف إطلاق النار في غزة، ملف الرهائن، وخطط الأمن الإقليمي. أظهر ترامب ميلاً إلى دبلوماسية الضغط المحدود، بينما شدّد نتنياهو على الخيار العسكري كوسيلة لشلّ قدرات إيران.
وذكر تقرير أنّ نتنياهو حصل خلال زيارته واشنطن في تموز/ يوليو الماضي، على ما وُصِف بـ"الضوء الأخضر" من ترامب لتنفيذ هجوم جديد على إيران إذا لزم الأمر، وهو ما عُدّ تحفيزاً للقيادة العسكرية الإسرائيلية. وبحسب صحيفة "وول ستريت جورنال"، أبلغ نتنياهو ترامب بأنّ إسرائيل ستوجّه ضربةً إلى إيران إذا استأنفت برنامجها النووي، ولم يُبدِ الأخير أيّ اعتراض على هذا المخطط. ومع ذلك، وفي محادثة خاصة، أوضح نتنياهو لترامب أنه إذا واصلت إيران خطواتها نحو امتلاك سلاح نووي، فإنّ إسرائيل ستنفّذ هجمات عسكريةً إضافية. وردّ ترامب بأنه يفضّل تسوية دبلوماسية مع طهران، لكنه لم يبدِ معارضةً لخطط إسرائيل.
وفي نهاية تموز/ يوليو الماضي، حذّر ترامب قائلاً: "الإيرانيون يرسلون إشارات عدائيةً جداً… إذا أعادوا تشغيل قدراتهم النووية سندمّرها بسرعة أكبر مما يمكنكم تصوّره". هذا التقارب السياسي والإستراتيجي بين واشنطن وتل أبيب، يعزّز احتمال أن تتخذ إسرائيل إجراءات عسكريةً استباقيةً، خصوصاً إذا رأت أنّ التحركات الإيرانية تقوّض الردع أو تقترب من عتبة نووية محسوسة.
تُظهر جميع المؤشرات الحالية أنّ المنطقة على أعتاب تصعيد محتمل وحرب ثانية، وأنّ أيّ فشل في ضبط الردع أو إدارة التوترات النووية والعسكرية قد يؤدي إلى مواجهة واسعة وخطيرة بين إيران وإسرائيل. كيف ذلك؟
هل تقع الحرب الثانية بين إيران وإسرائيل قبل نهاية العام؟
الهدنة الهشّة بين إسرائيل وإيران بعد حرب الـ12 يوماً آخذة في التلاشي؛ فهي لا تُجسّد وقفاً مستقرّاً لإطلاق النار، بل أقرب إلى حالة "سلام مسلّح" تختبئ تحت سطحها عوامل قد تفجّر صراعاً جديداً. بعبارة أخرى، الهدنة الحالية ضعيفة، وتبدو كـ"هدوء ما قبل العاصفة"، في حين يواصل كل طرف تعزيز قدراته العسكرية والإستراتيجية استعداداً لأيّ تصعيد محتمل.
تشير الوقائع إلى أنّ مصادر التوتر البنيوي لم تُعالج، بل تفاقمت بفعل تراكم الأزمات الأمنية والسياسية والإستراتيجية، ما يجعل احتمال انهيارها قائماً في أي لحظة. ويمكن تلخيص هذه المؤشّرات الرئيسية في تصاعد الخطاب الحربي بين القيادات، وتسريع سباق التسلّح بين إيران وإسرائيل، واستمرار التجارب الصاروخية، والضغوط الدولية، والتهديدات النووية، بالإضافة إلى غياب آليات رقابية فعّالة.
مع استمرار هذا الوضع، يُتوقع أن تزداد احتمالات الحرب، خصوصاً بين 7 تشرین الأول/ أكتوبر المقبل ونهاية العام، إذ ترجّح إسرائيل استئناف الأعمال العدائية قبل نهاية 2025، لمنع إيران من إعادة بناء قدراتها بالكامل بعد هجمات حزيران/ يونيو الماضي. أما بداية العام الميلادي الجديد، فلا تُعدّ توقيتاً مناسباً لأيّ هجوم، نظراً إلى تزامنه مع انتخابات مجلس النواب والكونغرس الأمريكي، ما قد يصعّب على الرئيس ترامب إعلان دعم علني لأي حرب جديدة.
في حال مضت إيران في تخصيب اليورانيوم أو خطوات نووية إضافية، يزداد احتمال قيام إسرائيل بهجوم مباشر بشكل كبير، خاصةً إذا حصلت على دعم أو "ضوء أخضر" من الولايات المتحدة. وتشير التقديرات إلى أنّ المواجهة القادمة قد تكون أكثر اتساعاً ودماراً وتعقيداً من النزاع السابق، مع آثار واسعة على الأمن الإقليمي والدولي، بما في ذلك استقرار أسواق الطاقة وسلاسل الإمداد والتحالفات الإستراتيجية في المنطقة.
باختصار، تُظهر جميع المؤشرات الحالية أنّ المنطقة على أعتاب تصعيد محتمل وحرب ثانية، وأنّ أيّ فشل في ضبط الردع أو إدارة التوترات النووية والعسكرية قد يؤدي إلى مواجهة واسعة وخطيرة بين إيران وإسرائيل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.