منتشياً بما حققه من انتصارات عسكرية في السنتين الأخيرتين، لا يترك رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو فرصة إلا ويتحدث فيها عن عمله على تغيير وجه الشرق الأوسط... وبالفعل تغيّر الكثير في هذه المنطقة ذات الألف مشكلة ومشكلة ومما تغيّر وجهها القديم. ولكن حتى الآن لا وجود لأي تصوّر حول شكل ما سيحلّ مكانه.
في سياق ردّها على هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وما تناسل منه من هجمات وحروب، انتهكت إسرائيل سيادة سبع دول عربية، آخرها قطر، وضمنه نقلت معركتها مع القوى العسكرية غير الدولتية المتحالفة مع إيران أو التابعة لها إلى قلب طهران نفسها، حارمةً نظام آيات الله من ميزة محاربتها عبر وكلاء في وقت يتنعّم هو بالأمان بعيداً عن خطوط النار والموت.
التغيير الذي حققته إسرائيل في وجه الشرق الأوسط هو "تفوّقها في التصعيد"، بحسب تعبير المبعوث الأمريكي السابق إلى المنطقة آرون دايفيد ميلر، بمعنى أنه صار "لديها شيء لم تملكه من قبل هو القدرة على التحكم في وتيرة وشدة الصراعات بطرق لا يستطيع أحد منافستها فيها"، إلا أن هذا لا يعني أنها صارت مهيمنة على هذا الجزء من العالم ولا حتى أنها اقتربت من الهيمنة عليه.
حققت إسرائيل تغييراً في وجه المنطقة هو "تفوّقها في التصعيد"، فقد صارت تمتلك "القدرة على التحكم في وتيرة وشدة الصراعات بطرق لا يستطيع أحد منافستها فيها"، ولكن هذا لا يعني أنها صارت مهيمنة على هذا الجزء من العالم ولا حتى أنها اقتربت من الهيمنة عليه
للهيمنة شروط كثيرة يستعرض بعضها الأستاذ في العلاقات الدولية في جامعة هارفرد ستيفن م. والت في مقال بعنوان "إسرائيل لا يمكن أن تكون قوة مهيمنة"، نشره في مجلة "فورين بوليسي"، أولها أن الدولة المهيمنة لا تواجه أي تهديدات أمنية كبيرة من جيرانها و"لا تحتاج حتى للقلق من ظهور منافس حقيقي في أي وقت قريب"، كما أنها "لا تحتاج للاعتماد على الآخرين للسيطرة على محيطها"، فيما "إسرائيل لا تزال تعتمد اعتماداً حرجاً على راعيها الأمريكي، الذي يزوّدها بمعظم الطائرات والقنابل والصواريخ التي تحتاجها لمهاجمة جيرانها، بالإضافة إلى الحماية الدبلوماسية المستمرة".
والأهم هو أن "الهيمنة الإقليمية المستدامة تتطلّب أن تقبل الدول المجاورة (وفي بعض الحالات ترحّب) بمكانة الدولة المهيمنة"، وهذا يتطلّب من الأخيرة أن تكون "الرجل الصالح"، إذا استعرنا لقب سياسة الرئيس الأمريكي السابق فرانكلين روزفلت تجاه دول أمريكا اللاتينية. بدون ذلك، "ستظل الدولة المهيمنة قلقة من تجدد المعارضة وستضطر لاتخاذ إجراءات متكررة لمنع ظهورها".
تعرف إسرائيل أن طريقها إلى الاندماج في المنطقة العربية، وهو الخطوة الأولى لتكون فاعلاً إيجابياً فيها، حتى لو لم يوصلها ذلك إلى الهيمنة عليها، يمرّ عبر دول الخليج، الكتلة الأقوى اقتصادياً في المنطقة، والمؤثرة بسبب ذلك في مصائر معظم الدول العربية الأخرى الكبيرة والصغيرة. ولذلك كانت في السنوات السابقة تراهن على توسيع مسار اتفاقيات أبراهام، متأملة انضمام السعودية إليها بعد الإمارات والبحرين، على أساس أن هكذا خطوة ستجعل مسبحة السلام وتقبّل إسرائيل تكرّ في المنطقة.
قلق من إسرائيل وقوّتها
في الوقت الذي كانت إسرائيل تشنّ هجومها على إيران في حزيران/ يونيو 2025، صادف أن وفداً من أعضاء الكونغرس يضم جمهوريين وديمقراطيين كان يجول بين السعودية والإمارات والبحرين، في زيارة هدفها الأساسي تعزيز التعاون بين إسرائيل والدول المذكورة.
عبّر المسؤولون الخليجيون الذي التقوا بالوفد عن قلقهم من برنامج إيران النووي، ولكنهم عبّروا أيضاً عن تفضيلهم للحلول السلمية لأن العنف يعقّد مساعي دولهم إلى تحقيق ازدهار وتكامل في الشرق الأوسط. وفي وقت كان نتنياهو يدعو الولايات المتحدة للمشاركة في قصف المواقع النووية في إيران، تحدث المسؤولون الخليجيون عن هاجس وصول الحرب الإسرائيلية-الإيرانية إلى أراضيهم بحال قررت إيران استهداف القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة فيها.
في السنوات الخمس الأخيرة، غيّرت دول الخليج كثيراً في إستراتيجياتها الشرق أوسطية، فبعد أن كانت ميّالة إلى تحجيم نفوذ إيران بالقوة، وعارضت على هذا الأساس الاتفاق النووي للعام 2015، انتقلت إلى تفضيل تصفير مشاكلها مع محيطها وفق رؤى جديدة لمستقبلها وضعتها ويأتي الاقتصاد في الأساس منها، وازدهاره يتطلب الاستقرار.
نبع هذا المسار الجديد من تجربة قاسية، فقد خلصت إليه السعودية والإمارات بعد وصول نيران الحروب في الإقليم إلى أراضيهما في العامين 2019 و2022 تباعاً واكتشافهما أنه لا يمكن التعويل على الحليف الأمريكي لتوفير الحماية لهما. وتجلّى ذلك في اتفاق المصالحة بين الرياض وطهران في آذار/ مارس 2023.
يلخّص أستاذ العلوم السياسية الإماراتي عبد الخالق عبد الله هذا التحوّل بقوله: "منذ جائحة كوفيد فصاعداً، قررنا اتباع سياسة خفض التصعيد، للتركيز على الاقتصاد بقدر ما نركز على الأمن".
في لقاءاتهم مع الوفد الأمريكي، أشار المسؤولون الخليجيون إلى أن إيران تلعب منذ وقت طويل دور القوة المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط، و"مع ذلك، كان هناك شعور بأن آخر ما يريدونه هو أن تصبح إسرائيل المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار في المنطقة"، كما قال عضو الوفد الأمريكي النائب الديمقراطي جيمي بانيتا.
فَتَحَت الضربات التي وجهتها إسرائيل إلى أعدائها وتجرؤها على إيران أعين دول الخليج على ما تمتلكه الدولة العبرية من قدرات تستطيع استخدامها لفرض إرادتها في المنطقة، وأثار الأمر قلقها.
"هناك قلق بين هذه الدول من أن إسرائيل أصبحت قوية عسكرياً أكثر من اللازم ومنفلتة، وهو ما يخشون أن يؤدي إلى مزيد من النزاعات الإقليمية وعدم الاستقرار"، يقول مدير شؤون إسرائيل في "معهد اتفاقات أبراهام للسلام" آشر فريدمان.
ما تقوم به إسرائيل حالياً هو أنها "تستخدم القوة العسكرية لزعزعة استقرار الشرق الأوسط بأسره من أجل إعادة تشكيل المنطقة وإعادة ترتيبها"، يقول المحاضر في الأمن الدولي في "كينغز كوليدج" في لندن، والأستاذ المساعد في جامعة "جونز هوبكنز" الأمريكية روب غايست بينفولد، في مقال بعنوان "إسرائيل ليست قوة مهيمنة بعد، لكنها أصبحت قوة مراجِعة"، نشره في مجلة "فورين بوليسي".
ما يحدث حالياً يمكن وصفه بصراع رؤى أو أولويات بين دول الخليج وإسرائيل. فالأولى تبحث عن شرق أوسط عنوانه الاقتصاد ما يتطلّب استقراراً وأمناً، أما الثانية فهي دائمة الشعور بخطر وجودي يتهددها وشيئاً فشيئاً تحوّلت إلى إسبرطة، تعرّف نفسها ومستقبلها بقوّتها العسكرية قبل أي شيء آخر
ويعوّل نتنياهو على جني ثمار عملية إعادة التشكيل هذه، فبرأي بينفولد هو يعتقد "أن الدول العربية ‘المعتدلة’ ستكون حرة في تطبيع العلاقات مع إسرائيل بمجرد أن تتخلص من الخوف من المفسدين مثل إيران".
لكن نجاحات إسرائيل العسكرية تغريها بعدم ضبط استخداماتها للقوة ضد أعدائها، و"إذا استمرّت في هذا المسار، سيستمر ‘الشرق الأوسط الجديد’ الذي يطرحه نتنياهو في التشابه كثيراً مع القديم: لا وقف لإطلاق النار في غزة ولا تطبيع مع الجيران العرب. وستواصل الإستراتيجية الكبرى المراجِعة لإسرائيل تنفير الدول الإقليمية التي تخشى انتشار الفوضى، مما يجعل النجاح على المدى الطويل أكثر بعداً".
القلق الذي كان قد ألقى بثقله على أنظمة الخليج وقت هجوم إسرائيل على إيران تضاعف بعد هجومها على قطر، فاستهداف حركة حماس في قلب الدوحة "يمثل علامة فارقة أخرى في تصوير إسرائيل كدولة مارقة لا تأخذ في الاعتبار القوانين والأعراف الدولية"، يقول الباحث في "معهد دراسات الأمن القومي" في تل أبيب عوفر غوترمان، مضيفاً أنه "يضخّم الخوف الذي نراه بين الدول العربية من أن إسرائيل أصبحت الآن سلاحاً طائشاً بطموحات هيمنية".
"المطرقة" لا تصنع الاستقرار
"إذا اخترنا التعامل مع كل شيء بالمطرقة، فلن يبقى شيء سليماً"، قال أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، في تعليق أثناء الحرب الإسرائيلية-الإيرانية، لافتاً إلى أن تلك الحرب "تتعارض مع النظام الإقليمي الذي ترغب دول الخليج في بنائه، والذي يركز على الازدهار الإقليمي".
"تميل دول الخليج في الغالب إلى تبني عقلية الأعمال أولاً، وعدم الاستقرار سيئ للأعمال"، يوضح الباحث في معهد "تشاتام هاوس" البحثي في لندن رناد منصور. وبعد الهجوم على قطر، حتى صناع السياسات الأمريكيين بدأوا يدركون أن "عقلية إسرائيل العسكرية تمثل تهديداً للمنطقة بأسرها"، بحسب المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأمريكية والمتخصص في شؤون شبه الجزيرة العربية جوزيف فرسخ، الذي يقدّر أن دول الخليج ستدرك على المدى الطويل "أن التعامل مع إسرائيل ببساطة سيضر بالأعمال."
ما يحدث حالياً يمكن وصفه بصراع رؤى أو أولويات بين دول الخليج وإسرائيل. فالأولى تبحث عن شرق أوسط عنوانه الاقتصاد ما يتطلّب استقراراً وأمناً، أما الثانية فهي دائمة الشعور بخطر وجودي يتهددها وشيئاً فشيئاً تحوّلت إلى إسبرطة، تعرّف نفسها ومستقبلها بقوّتها العسكرية قبل أي شيء آخر.
تغيّرت حسابات دول الخليج على وقع الحرب الإسرائيلية المفتوحة وغير المحددة جغرافياً، وصارت ترى أن "الفاعل الأكثر زعزعة للاستقرار الآن هو إسرائيل" وليس إيران، بحسب الباحث في الأمن الدولي ودراسات الشرق الأوسط في "معهد الخدمات المتحدة الملكي للدفاع والدراسات الأمنية" في لندن هـ. أ. هيليير.
ويلفت هيليير إلى أن الغطاء الواسع الذي منحته الولايات المتحدة وأوروبا لإسرائيل وأفعالها أثار قلق دول الخليج "بشكل هائل".
ماذا بعد؟
يشير نائب مدير "معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط" في واشنطن تيموثي إي. كالداش إلى أن "العديد من الدول- بغض النظر عن كرهها الشديد للنظام في إيران- قلقة جداً بشأن غياب أي شكل من أشكال ضبط النفس لدى إسرائيل، أو بصراحة، غياب أي منظور إستراتيجي"، ويضيف: "يصبح السؤال هنا: ما هو هدفكم النهائي؟ هل لديكم واحد؟".
حجّمت إسرائيل نفوذ محور إيران وألحقت ضرراً كبيراً بقدرته على المبادرة ما يوفّر لها "فرصة تاريخية لإعادة ترتيب المنطقة"، بحسب تعبير أستاذ الفلسفة في جامعة تل أبيب عساف شارون. ولكن الوضع الحالي يتطلب أن تقوم بخطوة لترتيب مرحلة الـ"ما بعد".
يدعو شارون حكومة بلاده للتوصل إلى اتفاق إقليمي "على غرار مبادرة السلام العربية" التي تبنتها قمة جامعة الدول العربية في بيروت عام 2002 وعرضت فيها السلام مقابل تأسيس دولة فلسطينية. فبرأيه، "يمثّل الصراع مع الفلسطينيين التهديد الأمني المستمر والفوري لإسرائيل، وترددها في إنهاء الاحتلال هو العقبة الرئيسية أمام تحالف إقليمي للتيارات المعتدلة، وهكذا تحالف هو الحصن الوحيد ضد عودة التطرف".
تغيّرت حسابات دول الخليج على وقع الحرب الإسرائيلية المفتوحة وغير المحددة جغرافياً، وصارت ترى أن "الفاعل الأكثر زعزعة للاستقرار الآن هو إسرائيل" وليس إيران
غير بعيد عن هذا الرأي، يعتبر آرون دايفيد ميلر أن الطريقة التي تستخدم بها إسرائيل قوتها "ستحدد الكثير في مستقبل المنطقة"، فـ"إسرائيل الواثقة، على سبيل المثال، قد تبرم اتفاقيات لتخفيف الأعمال العدائية في غزة، ومعالجة مطالب الفلسطينيين، وتخفيف التوترات في أماكن أخرى على طول حدودها"، دون أن ينسى الإضاءة على أن طبيعة الائتلاف الحكومي الإسرائيلي اليمينية تصعّب عملية تحويل الإنجازات العسكرية إلى معاهدات سلام تحقق استقراراً إقليمياً.
لا تقدّر إسرائيل التي تقول إنها تريد سلاماً مع دول الخليج وتكاملاً إقليمياً وشرق أوسط مستقر تأثير القضية الفلسطينية على أنظمة الخليج. المواطنون الخليجيون بأغلبهم متعاطفون مع هذه القضية فيما نتنياهو لا يأخذ بالحسبان أو لا يريد أن يأخذ بالحسبان "أن هناك جمهوراً داخلياً يراقب ما تفعله هذه الحكومات"، كما يقول الباحث في "تشاتام هاوس" يوسي ميكلبرغ، فـ"هذه الحكومات في الواقع تستوعب الكثير، لكن عندما تفعل ذلك، فهذا يعني أن هناك ثمناً داخلياً".
خطر آخر يهدد أنظمة الخليج ولا تأبه له إسرائيل يشير إليه مدير "مركز دبي لبحوث السياسات العامة" (بحوث) محمد باهارون، هو عودة النشاط العنيف من قبل الفاعلين غير الدوليين مثل القاعدة والدولة الإسلامية، لأنه "إذا لم تستطع الدول فعل أي شيء" لكبح إسرائيل، فإن بعض "الأشخاص سيتولون الأمور بأيديهم."
حالياً لا يحدث أي شيء على صعيد تحديد وجه الشرق الأوسط الجديد، وإسرائيل لم تقدّم أي طرح يقابل الحرب الواسعة التي تشنّها في طول المنطقة وعرضها. هذا يضع دول الخليج أمام مسؤولية التحرّك أقلّه للمساهمة في تحديد معالم مستقبل المنطقة، وهي واعية للمسألة.
ولذلك لم يكن مجرَّدَ كلامٍ تأكيد بيان قمة الدوحة العربية-الإسلامية في 15 أيلول/ سبتمبر على "ضرورة الوقوف ضد مخططات إسرائيل لفرض أمر واقع جديد في المنطقة"، ولم تكن من قبيل الصدفة مسارعة السعودية إلى توقيع اتفاقية دفاع مشترك مع باكستان في 18 أيلول/ سبتمبر، فأثر العدوانية الإسرائيلية تجاوز انزعاج دول الخليج من مستقبل قد تتحول فيه إلى مجرّد أجرام تدور حول الدولة العبرية القادرة على فرض أي شيء تريده على أيٍّ كان أينما كان، وبات يشكل خطراً وجودياً على أنظمتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.