"في فلسطين، نُدرّس الموسيقى غالباً من المنظور الكلاسيكي، سواء العربي أو الغربي. لكن حين يتعلق الأمر بتقديم موسيقى جديدة، هناك رفض على المستوى المؤسساتي لأيّ شيء لا يندرج ضمن المألوف. هناك افتراضات حول الموسيقى التي تُصنّف بأنها 'مختلفة'، والقليل من التفكير في ما يمكن أن تفعله، أو ما يمكننا نحن، كمبدعين لموسيقى جديدة، أن نقدّمه. لذلك، كنت بحاجة لإيجاد مساحة لعرض موسيقاي. وكنت أعرف أنني لست الوحيدة التي تحمل هذه الحاجة".
بهذه الكلمات أجابتني الموسيقية الفلسطينية-الصربية دينا الشلة، عندما سألتها عن الدوافع الأولى وراء تأسيس مشروع Gradus/ العتبة في فلسطين.
أسست الشلّة المشروع عام 2017، بهدف دعم الإبداع الموسيقي الجديد في فلسطين. ومنذ انطلاقته، وفّر المشروع مساحةً للمؤلفين/ ات والموسيقيين/ ات المحليين/ ات لتقديم أعمالهم الأصلية، وتوثيق هذه الإنتاجات، والتعاون عبر أنماط موسيقية متنوعة موجودة في فلسطين، وتبادل المعرفة من أجل حماية الموسيقى، التراثية والمعاصرة، من التفتت والتغييب.
في جوهره، صُمّم المشروع ليكون مساحة التقاء بين الموسيقيين والجمهور، لمشاركة ليس فقط إنتاجاتهم الموسيقية، بل أيضاً المعلومات وسيرورة الإبداع التي ترافقهم، وذلك من اعتقاد بأنّ القرب من الجمهور هو أساسي لفهم كيفية تفاعل الموسيقيين مع موسيقاهم، عملياتهم الإبداعية، إنتاجهم، وبالتأكيد الواقع الذي يعيشونه تحت الاحتلال الإسرائيلي المستمر.
"القرار أن نكون هنا"
تزامن اندلاع حرب الإبادة على غزة مع حصول المشروع على منحة من الصندوق العربي للإنماء الاجتماعي والاقتصادي بالشراكة مع مركز خليل السكاكيني الثقافي. هذا التزامن أثّر بالضرورة على مسار المشروع وبرامجه، وأثار العديد من الأسئلة، ودفع نحو البحث في أهمية الموسيقى، وضرورة مواصلة الإنتاج، وخلق مساحات للاستماع، والتجريب، وتبادل المعرفة، والتعاون، والالتقاء وسط الكارثة.
المشهد الموسيقي الفلسطيني عالق بين مؤسسات تتمسك بالمألوف وفنانين يبحثون عن الجديد. جاءت مبادرة Gradus لتفتح مساحةً للإبداع، تعرض أعمالاً أصيلة، وتمنح الجمهور فرصة التفاعل مع لحظة الخلق الحيّة
تقول دينا: "في فلسطين، هناك انقطاعات دائمة لعملية بناء شيء مستمر. حرب الإبادة طرحت أسئلةً حول قيمة الحياة وقيمة الفن. ماذا يعني أن نكتب؟ أن نغنّي؟ هذا جعلني أفكر ليس في القيمة الجوهرية للفن فحسب، بل في كيفية خلق المعنى ضمن الظروف المعيشة. الموسيقى تأتي من الناس الذين يعيشون هنا ويختبرون كل شيء. الموسيقى تستمر في قول ما نعيشه".
وتضيف: "لذلك، القرار أن نكون هنا. نحن نبدع هنا، نطوّر هنا، وننمّي هنا. والطريقة الوحيدة لفعل ذلك هي مع الناس الحاضرين هنا".
وترى دينا أنّ الموسيقى مركزية لأنها عنصر أساسي في الثقافة والمقاومة. لكنها تشير إلى أنّ الموسيقيين يواجهون تحديات عدة، أبرزها غياب الفهم العميق لما يتطلبه الإبداع الموسيقي. وتوضح: "هناك الكثير من النقاش حول الموسيقى؛ علم الموسيقى، الإثنوموسيقولوجيا، الأنثروبولوجيا... لكن الفهم الأعمق للموسيقى، لمكوناتها وكيف تُخلق، ما زال غائباً".

"استجابة مباشرة للواقع"
منذ تأسيس Gradus/ العتبة، تعمل دينا بجانب زوجها روبين بارلتون، وهو موسيقي يعيش في رام الله منذ عشر سنوات، ويعمل كمدرّس ومؤلف موسيقي. وُلد في اسكتلندا ونشأ في إنكلترا. في حديث مع روبين، شاركني تجربته في عمله: "ومع ذلك، ما زلت أشعر بك في كل مكان" بالتعاون مع زوجته دينا. قُدّم العرض في الحفل الثاني للمشروع ضمن سلسلة "تعبيرات في المقاومة الثقافية". كثير من موسيقى العرض تداخلت مع الواقع الفلسطيني في تلك اللحظة الراهنة، وهو يراها "استجابةً مباشرةً للواقع".
مع حرب الإبادة على غزة، تحوّل المشروع إلى سؤال عن قيمة الفن وسط الخراب. الموسيقى هنا لم تعد ترفاً. بل ضرورة تؤكد أن الفلسطينيين يبدعون رغم كل الانقطاعات.
يضيف روبين: "في العرض، سبقت كل حركة من الحركات الستة للقطعة قصيدة كتبتها مرتبطة بصورة فوتوغرافية. أُعطي الجمهور وقتاً لقراءة القصيدة ورؤية الصورة قبل أن نبدأ بعزف المقطوعة. كان العمل مستوحى من رحلة صيفية قمنا بها، ومن فكرة السفر والتنقل بين المدن. شعرت بوعي كبير تجاه معنى السفر وإمكانياته، خصوصاً عندما تأتي من مكان تُفرض فيه قيود على حرية الحركة والاختيار".
ويتابع: "الفكرة الأساسية هي أنه مهما انتقلت من مدينة إلى أخرى، يبقى الإحساس بما تركته خلفك حاضراً داخلك. حتى مع الفرح والدهشة اللذين يمنحهما السفر، هناك دائماً شيء عميق يبقى خلفك. وهذا مهم أن ندركه ونفكر في أثره علينا".

الحاجة إلى مساحات جماعية
منذ تأسيس Gradus/ العتبة، شارك ما يقارب 80 موسيقياً/ ةً في تأليف وأداء موسيقى جديدة، بالإضافة إلى مشاركتهم في المحاضرات، وورش العمل، والبودكاست. كما شارك فنانون/ ات آخرون من مجالات متنوعة مثل الأدب، والتصميم الغرافيكي، والتصوير الفوتوغرافي.
من بين الموسيقيات اللواتي شاركن في المشروع مايا الخالدي، التي تزامن انخراطها فيه مع بحثها الذي تمحوّر حول أغاني الرثاء (التناويح) باللهجة الفلسطينية، وإنتاجها لموسيقى تجريبية باستخدام نصوص من أغنيات كانت تُغنّى تقليدياً في الجنائز في فلسطين.
بدأت مايا العمل على مشروع "من ماضي البكائيات لحاضرنا: لعل البكاء يكون رفيقاً للصمود"، قبل حرب الإبادة على غزة. ومع اندلاعها، ازداد ارتباط العمل بأسئلة الحزن، والفقدان، والتفاعل الجماعي عبر الأغنية والموسيقى.
تشرح مايا: "من خلال النقاشات مع دينا، بدأ المشروع يتشكّل ويتطور. وكان السؤال الذي رافقنا دوماً، سواء أنا أو كثير من الموسيقيين في فلسطين وخارجها، هو: ما الذي ينبغي أن نفعله الآن في الموسيقى؟ ما الدور المناسب وما هو غير المناسب؟ هذه الأسئلة دفعتنا للعمل في اللحظة الراهنة، فطوّرت المشروع أكثر وجمعت أغاني إضافيةً إلى أن وصلت إلى خمس أغانٍ شكّلت عرضاً كاملاً للجمهور".
خلال الانخراط في المشروع، تفاعلت مايا مع الأسئلة حول الجدوى والمعنى للفعل الفني، الموسيقي في حالتنا هنا، في زمن الإبادة. الإجابات عن هذه الأسئلة، حضرت في ردود فعل الجمهور خلال سلسلة "تعبيرات في المقاومة الثقافية"، حيث أدّت عرضها لأغاني الرثاء بمشاركة سارونا، وفارس أمين، وزينة عمرو.
تقول مايا: "كانت هناك ردود فعل أشارت إلى أننا في حاجة كبيرة إلى الجلوس معاً لمواجهة مشاعر الحزن والغضب". وتتابع: "كنت أظنّ أنّ أغاني النواح تعبّر فقط عن الحزن، لكن كثيرين شعروا وأكدوا أنها تنقل الغضب أيضاً. وأشاروا إلى قلة المساحات الجماعية للتعبير عن هذه المشاعر التي ترافقنا في كل لحظة. وجود مساحة مشتركة كهذه كان من أهم ما منح الناس شعوراً بالارتباط ببعضهم بعضاً والقدرة على التعبير عن اللحظة".

مساحة موسيقية وفرصة للتجريب
فارس أمين، عازف تشيلو ومدرّس فلسطيني، كان من بين المشاركين في Gradus/ العتبة وفي برامجه المتنوعة.
عن القيمة التي أضافها المشروع له كموسيقي، يوضح فارس أنّ المشهد الموسيقي الفلسطيني قبل الحرب، وأيضاً قبل جائحة كورونا، كان يوفّر فرصاً محدودةً للأداء. معظم العروض كانت -ولا تزال إلى حدّ ما- محصورةً في الأعراس والمطاعم، حيث يفضّل الجمهور الاستماع إلى موسيقى مألوفة، وكثير من الموسيقيين يعتمدون على هذه العروض لأسباب مادية، أو يكرّسون معظم وقتهم للتدريس بدلاً من التأليف أو الأداء.
يقول فارس: "أصبحت العتبة فرصةً كبيرةً للعزف مع موسيقيين آخرين، وكان مشروع التأليف الجماعي مميزاً للغاية. منح الموسيقي فرصةً للأداء، واللقاء مع الجمهور، والظهور على المسرح. هناك موسيقيون ذوو كفاءة عالية، لكن فرص الأداء قليلة. المرة الأولى التي ظهرت فيها على مسرح فلسطيني بهذا الشكل كانت عبر العتبة".
تجربة مايا الخالدي مع التناويح أعادت تعريف الرثاء، ليس كحزن فقط بل كغضب وصمود. الأغاني صارت مساحة جماعية للتعبير، توحّد الناس حول مشاعر مشتركة وتمنحهم عزاءً وقدرة على مواجهة اللحظة
شارك فارس في تأليف وأداء عمل بعنوان "أنا لست في غرفة ضيقة"، الذي تناول ظروف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، بمشاركة الموسيقيين إبراهيم نجم، نسيم ريماوي، حسام برهم، مجدل نجم، والشاعرة داليا طه. عملت المجموعة على استكشاف إمكانيات التعبير الجماعي وإنتاج فن في ظروف قاسية، كنوع من مقاومة المحو الثقافي. وُصِف العرض بأنه "غناء في الساعة المظلمة، عبر مونولوغات قصيرة من تاريخ السجن ومن تجارب الذين خرجوا من زنازينه الضيقة عبر الموسيقى والغناء والتأليف".
ويختم فارس حديثه بقوله: "جمال العتبة أنه فتح مساحةً حرّةً للإبداع، والعمل، والتعاون مع موسيقيين وفنانين آخرين. الموسيقى ليست فقط للجمهور، بل تُخلق من أجل الموسيقى نفسها. هذا منح حريةً إبداعيةً واسعةً داخل إطار Gradus-العتبة العام، وهي حرية تفوق بكثير سياقات أخرى. وهذا ما يحتاجه الموسيقيون للاستمرار".
الذاكرة الجماعية والمستقبل
واجه المشروع العديد من التحديات، خاصةً مع الإبادة المستمرة في غزة وما تتركه من أثر مضاعف على الفلسطينيين أينما كانوا. هذه الكارثة طرحت أسئلةً حول قيمة الحياة والفن: ماذا يعني أن نكتب؟ أن نغنّي؟ أن نؤلّف؟ هذه أسئلة ترافق كل فلسطيني منخرط في الفن والإبداع.
توضح دينا: "الموسيقى تأتي من الناس الذين يعيشون هنا، ويختبرون كل شيء. الموسيقى تستمر في قول ما نعيشه. لم أشكك يوماً في القيمة الجوهرية للفن، فهي أساسية. لكن كان عليّ أن أكافح في البداية. البعض افترض أن الموسيقى لا تستطيع التعبير مثل الفنون الأخرى، ومع ذلك واصلنا الإبداع بثقة، لنعبّر عن واقعنا وزماننا".
وتضيف: "لا يوجد فصل حقيقي بين تجربة الموسيقي وحياة الإنسان هنا. كل شيء متداخل: العاطفة، التجربة الشخصية، والذاكرة الجماعية. لا توجد مساحة محمية من أثر الأحداث الثقيلة على الصحة النفسية والجسدية، ونحن لا نحاول الهروب. الموسيقى أداة لمعالجة هذه الأعباء، على المستويين الشخصي والجماعي. الإبداع وسيلة لفهم الواقع وتجاوزه، وهو مرتبط بالذاكرة الجماعية والانتماء الشخصي للمكان".
تحوّل المسرح إلى بيت للموسيقيين الذين حُرموا من المنصّات. التأليف الجماعي والعروض المشتركة صارت مقاومة للمحو الثقافي، وتأكيداً أن الموسيقى تُكتب لمن هم هنا، كابنة للمكان والذاكرة.
في هذا السياق، يضيف روبين: "على نطاق أوسع، حتى قبل العامين الماضيين، كنا نتأمل طبيعة عملنا. درسنا مشاريع أخرى ورأينا كيف ينظم البعض عروضاً موسيقية، لكن واجهتنا صعوبات مثل عدم تمكن بعض الموسيقيين من الحضور، أو الحاجة إلى استقدام مشاركين من أماكن بعيدة. أحياناً كنّا نكتب موسيقى من دون أن نعرف ما إذا كان من سيؤديها سيتمكن من المشاركة".
ويتابع: "لذلك قررنا أن تكون كل قطعة موسيقية نكتبها مخصصةً لموسيقيين موجودين فعلاً هنا. لا نكتب الموسيقى أولاً ثم نبحث عمّن يؤديها، بل نتعرف على الأشخاص أولاً، ثم نكتب لهم. هذا النهج منح الموسيقى إحساساً أكبر بالمكان، أكثر من مجرد تخيّل ثم محاولة تنفيذه".
الهدف هو الاستمرارية
في السردية الفلسطينية، خاصةً المرتبطة بمقاومة محاولات المحو المستمرة بفعل الاستعمار الإسرائيلي، كان الفن عبر التاريخ قناةً من قنوات المقاومة. وترى دينا أنّ الموسيقى تتيح للفلسطينيين التعلّم من الماضي والتواصل مع تجارب الأجيال السابقة، لكنها في الأساس تفتح أفق التفكير في الحاضر وإعادة تشكيل المستقبل.
لكن المستقبل مليء بالتحديات والفرص في آن معاً. التحديات تتجسد في القيود المفروضة على الفنانين الفلسطينيين، والتي تحدّ من حرية الإنتاج، والتأليف، والأداء. أما القيد الأكبر فهو الظرف السياسي المستمر والمتصاعد في قسوته، إلى جانب غياب التمويل والدعم المؤسسي.
تقول دينا الشلة قبل الختام: "ما يحدث الآن محاولة للحفاظ على استمرارية الإبداع، لإثبات أننا موجودون ونواصل، وأنّ الموسيقى الفلسطينية ليست مجرد نوستالجيا، بل شيء حيّ ومتطور".
وتختم: "في النهاية، الهدف هو الاستمرارية، وتعزيز التوثيق، والتأكيد على أنّ الموسيقى الفلسطينية جزء من الحوار العالمي برغم كل الصعوبات. من خلال الاستمرارية، يمكننا بناء بيئة موسيقية أكثر مرونةً، تعليميةً وإبداعيةً للأجيال القادمة، لنثبت أن الثقافة والفن جزء لا يتجزأ من هوية المجتمع الفلسطيني وصموده".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.