ما الذي حدث في نيويورك؟ وأين يجب أن نجلس؟

ما الذي حدث في نيويورك؟ وأين يجب أن نجلس؟

رأي نحن والحقوق الأساسية

الخميس 25 سبتمبر 20257 دقائق للقراءة

أمريكا وإسرائيل في جانب، وبقية العالم في جانب آخر. هكذا يُقال، جزافاً أو تسهيلاً للفكرة وإيصالها، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بحصول الفلسطينيين على حقهم في دولة على حدود السابع من حزيران/ يونيو 1967، وتقرير مصيرهم داخل حدود هذه الدولة.

لا شكّ أن أمريكا في موقع المعاداة الصريحة لمجمل تطلّعات الفلسطينيين، وهي تعلن، بلا مواربة، أنّ إسرائيل ومصالحها تتفوّقان على كل اعتبار، وتالياً فهي تؤمّن لحليفتها هذه، الغطاء العسكري والسياسي والدبلوماسي، بما يمنع تحقيق أي مطلب فلسطيني بالاستقلال، والحصول على دولة. لقد تجلّى ذلك عبر سنوات طويلة من نضال الفلسطينيين، ولا أحد ينكر هذه الحقيقة. لكن الموضوع مع الإدارة الحالية والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مختلف تماماً، فهو يتعلّق بضوء أخضر لرئيس الوزراء الإسرائيلي المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية بنيامين نتنياهو، لإنهاء الفلسطينيين مع قضيتهم ومطالبهم.

هذه الحرب أوصلتنا، نحن الفلسطينيين، من ضمن ما أوصلتنا إليه، إلى هذا الوضع. فهل نرفض أو نعطي هذه اللجنة السداسية فرصةً وندعمها ونفوّت الفرصة على ترامب ونتنياهو؟

وكما يرى الجميع، بمن فيهم أولئك الذين استفاقوا مؤخّراً واعترفوا بحقوقنا، فإنّ ترامب ونتنياهو لا يوقفهما شيء، ويستمرّان في خطة إبادة غزة بطريقة مدروسة بعناية، ومتدرجة خطوةً بعد خطوة، وكأنها سُحبت من الدُرج ووضعت على الطاولة للتنفيذ، وهذا ما يجعل الاعترافات الأخيرة بالدولة الفلسطينية، على الأقل من وجهة نظر الغزّيين، بلا معنى وبلا فائدة.

هذا الرأي ليس نتيجةً لانفضاضهم عن مشروعهم الوطني، وهو ليس نتيجة يأسٍ ما من أدوات السياسة وفاعليتها، بل لأنّ الأولوية هي لوقف نزيفهم ومعاناتهم. يشاركهم في الموقف هذا، الكثير ممن بُحّت أصواتهم وهم يطالبون بوقف هذه الإبادة بأي ثمن، تحت عنوان أنّ أرواح الناس وكرامتهم ومستقبل أطفالهم أغلى من أي مقدّسٍ آخر، وأنّ الشعب الفلسطيني لن يعجز عن ابتداع طرق أخرى للنضال في المستقبل لتحقيق مراده.

وهنا نصل إلى السؤال المهم: لماذا لا تتوقّف الإبادة بحق الشعب الفلسطيني في غزة برغم هذا الزخم العالمي، شعبياً وحكومياً، وتتويجه باعترافات بحقنا في دولة؟ ألم يكن من الأجدى أن يتم تتويجه أولاً بوقف هذه الإبادة، ما دامت هي المحرّك له؟ للإجابة عن هذا السؤال، وبعيداً عن الأسباب الخاصة بكل دولة أعلنت اعترافها، لا بد لنا من معرفة ما يجري في نيويورك، وما يجري في الدوحة.

في نيويورك، اعترف العالم بحقوقنا، كفلسطينيين، لكن تغيّب عن التواجد في القاعة وفدا إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وهو تفصيل غير مهم وغير مفاجئ. الأهم منه أنّ كل مندوب اعتلى المنصة طالب إسرائيل بوقف حربها، وطالب حركة حماس بتسليم الأسرى الإسرائيليين في غزة. الكل على الإطلاق وضع هذه مقابل تلك. البعض وضع تسليم الرهائن كشرط، والبعض ضمّنه في الجملة نفسها، وآخرون طالبوا به لتسهيل مهمتهم.

الغائبان عن الاجتماع أيضاً، يضعان الأسرى الإسرائيليين ذريعةً لاستمرار حربهما على الفلسطينيين، ويطالبان بتسليمهم. المتحدّث الرسمي باسم الفلسطينيين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، الرئيس محمود عباس، يطالب بتسليم الأسرى الإسرائيليين، وجزء كبير من الفلسطينيين يؤيده في ذلك، خاصةً من هم تحت النار. حماس نفسها، ومن خلال المتحدثين باسمها، أعلنت في أكثر من مناسبة أنها ليست معنيةً ببقائهم لديها.

لكن ما يحدث في الدوحة شيء مختلف تماماً، فالأسرى الإسرائيليون على مدار عامين من المفاوضات، هم لُبّ القضية والورقة الرابحة. المفاوضات تجري باسمهم، وهم عنوانها الرئيس في المقايضات ومنطق الصفقة. وهم ورقة التهديد التي تملكها حماس مع كل تغوّل لنتنياهو وحكومته تجاه غزة، فلا يخلو بيان من ذكرهم، ولا يستقيم تصريح دون التلويح بهم، ولا يكتمل المشهد دون فيديو أو صورة لأحدهم. وهم من جانب آخر، ورقة تغوّل نتنياهو وحجته الدائمة، وورقة ترامب في الدعم المفتوح.

والنتيجة ماذا؟ مفاوضات ذات طابع أمني تخلو من أي ذكر للحقوق السياسية، وجولات لانهائية كان السعر فيها ينقص ويرتفع حسب الضغط العسكري على الأرض، وحسب القدرة على مقاومته أو تسجيل نقاط ضده. ثم بدأ التآكل في المطالب، والموافقات على أي شيء معروض، بارتهانٍ تام لإملاءات المُضيف، وبهدف واحد وأخير: البقاء في المشهد. يحدث ذلك كله على مدار عامين دون أي اعتبار لمعاناة الناس في غزة، ولتآكل الأرض من تحت أقدامهم.

في ظلّ هذا المشهد القاتم، جاء التحرّك الفرنسي السعودي و"إعلان نيويورك"، وقلب الطاولة على نتنياهو وترامب. لكن قلب الطاولة، بلا مبالغة أو تحفّظ، لم يوفر حماس أيضاً، بل هو ما تم التعبير عنه من جميع المتحدثين، كما أسلفنا، وكما سمع كل من تابع الاجتماع.

من المثير حقاً متابعة ردود الفعل لدى الأطراف التي تمّت إدانتها، ومواقف هذه الأطراف من الاعترافات بالدولة الفلسطينية. فحماس رحّبت وباركت، وبرغم اللامعقولية في الترحيب بقرارات تدينها، إلا أنّ هذه خطوة متقدِّمة وتُحسب لها شئنا أو أبينا. لكنها في المقابل تفرض عليها الاستجابة لهذه الإرادة العالمية، وأن تعيد النظر في سياساتها وتحالفاتها، بما ينسجم مع هذا الترحيب والمباركة.

وبغض الطرف عن كل العنجهية في تصريحات نتنياهو المتوعّدة، ومعه حكومته، وخطواته العقابية السريعة على الأرض، إلا أنّ ما تعبّر عنه هذه التصريحات ليس أكثر من فقدان للتوازن، ومن المتوقّع أن يُعالج فقدان التوازن هذا بمزيد من البطش والإجرام، والهروب إلى الأمام، في انتظار ما يقرّره ترامب.

ترامب من ناحيته كان ذكياً على غير العادة، فقد سارع إلى الاجتماع برؤساء وممثلي ست دول من المنخرطة في هذا الحراك السياسي، في خطوة هدفها امتصاص هذا الزخم، ومحاولة تقديم حلول تنقذ حليفه نتنياهو وتنقذه هو شخصياً. ثم عرض عليهم خطته المتمثّلة في نقاط عدة، حسب ما أفادت به القناة 12 العبرية، وهي: تسليم الأسرى الإسرائيليين كافة دفعةً واحدة، يليه وقف لإطلاق النار، ثم انسحاب للجيش الإسرائيلي من قطاع غزة، بالإضافة إلى أفكار حول اليوم التالي للحرب وإدارة القطاع من دون حماس، وبمشاركة عربية فلسطينية.

هل تتخلّى حماس عن مفاوضات أحادية طابعها أمني، وتتم تحت النار بثمن يومي يُقدَّر بعشرات الشهداء، أو تُحكّم العقل والاعتبارات الوطنية الجامعة، وتترك الأمر لمفاوضات فيها على الأقل شيء من السياسة؟ 

اللافت في الخبر، إن صحّ طبعاً، هو ما قدّمه الوفد من شروط تتمحور حول رفض ضم أي مناطق من الضفة الغربية المحتلة من قِبل إسرائيل، أو أي احتلال لأراض من القطاع، وغير ذلك من المطالب. لافتة أيضاً التصريحات المتفائلة لبعض أعضاء هذا الوفد، ووصفهم الاجتماع بالبنّاء والمثمر، وما سيلي هذا الاجتماع من اجتماعات للجانٍ فنية من أجل الخوض في تفاصيل التطبيق.

لم يكن طموح الفلسطينيين أن يفاوض باسمهم أحد، مهما كان حرصه عليهم، وهذا ليس تشكيكاً في أي طرف، وتحديداً هنا والآن ليسا مكانه أو زمانه على أي حال. لكن هذه الحرب أوصلتنا، من ضمن ما أوصلتنا إليه، إلى هذا الوضع. فهل نرفض أو نعطي هذه اللجنة السداسية فرصةً وندعمها؟ هل تتخلّى حماس عن مفاوضات أحادية طابعها أمني، وتتم تحت النار بثمن يومي يُقدَّر بعشرات الشهداء، أو تُحكّم العقل والاعتبارات الوطنية الجامعة، وتترك الأمر لمفاوضات فيها على الأقل شيء من السياسة؟

هل الأسرى الإسرائيليون وورقتهم أهم من ورقة الاعترافات الدولية، أو هم عائق حقيقي لأيّ فرصة سانحة لإحراج نتنياهو، ومن خلفه ترامب؟ أو لنقل الأمور باللغة التي بدأنا بها المقال: أمريكا وإسرائيل في جانب، وبقية العالم في جانب آخر، فأين يجب أن يجلس من تهمّه مصلحة شعبه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

من 12 سنة لهلّق، ما سايرنا ولا سلطة، ولا سوق، ولا تراند.

نحنا منحازين… للناس، للحقيقة، وللتغيير.

وبظلّ كل الحاصل من حولنا، ما فينا نكمّل بلا شراكة واعية.


Website by WhiteBeard
Popup Image