بعد ليالٍ قاربت الستين، لا يزال الترقب والحذر والخوف من ظلام قد يستر تسلل المعتدين مرةً أخرى، ورهبة من مجرد الإطلالة على شرفة أو نافذة، تدفعني لانتقاء أبعد زاوية تظهر للخارج.
فأسباب الخوف لا تزال قائمةً، ولا تطمينات تدفع أهالي السويداء، المدينة المنكوبة والمحاصرة، إلى نزع شعورهم الذي رافق الاجتياح الإرهابي لقوات الأمن العام والقوى الرديفة من العشائر، لساعات لم تتجاوز 48 ساعةً، وخلّفت وراءها قرى وأحياء منهوبةً ومحروقةً.
ما تم التعارف عليه بأنه"الغزوة"، كانت غنائم الغزاة فيه كثيرةً، من 36 قريةً من قرى الريف الغربي والشمالي التي لم يتمكن أهلها لغاية هذا التاريخ من العودة، إلى جانب دمار أجزاء من أحياء المدينة وخسارات فادحة للأهالي في أرواح الضحايا التي تجاوزت 2000 ضحية من الأطفال والشباب والنساء والعجائز. ومع كل يوم تزداد المخاوف: فهل سنعود؟
من ينزع من ذاكرة هذه المدينة مشهديةً سوداء لإعدامات ميدانية لا تزال دماء ضحاياها على تراب الساحات وإسفلت الشوارع، وجثثاً تفسخت ولم تُدفن إلا بعد أيام وأيام، في حالة قد تكون الأولى في عالم يراقب ويتابع ويدّعي التفاوض ويناقش بنود مبادئ اتفاقات وهمية، لا تعيد لأم قذف الغزاة بأولادها الثلاثة من شرفة أرواحهم، ولا تشفع لمئات المختطفات والمختطفين والمغيّبات/ ين قسراً بالتحرر والعودة لأهاليهم النازحين إلى منازل أقاربهم ومراكز الإيواء؟
ما بعد 15 تموز/ يوليو 2025، وبكل وضوح، مختلف عمّا سبقه بمقدار ضخامة الوجع والحزن وحالة الهلع والرعب التي لازمتني. تأبى ذاكرتي نسيان ليلة زارنا فيها الموت بأسلحته الثقيلة ممتطياً أحصنة الحقد الطائفي، ومثّلت بداية انهيار ساحق للأمان وزعزعة لاستقرار بدأ منها واستمر.
ليلة الهجوم
في تلك الليلة، تحضّرت مع مغيب الشمس لليلة عنيفة، شغل نهارها بمناوشات قريبة: رصاص وقناصات ومدافع ودبابات على مداخل المدينة. أصبحت الأصوات قريبةً جداً، وعلينا إطفاء الأنوار وانتقاء أكثر الأماكن أمناً في المنزل تلافياً للخطر قدر الممكن.
اتكأت على حقيبة ملابس صغيرة دسست فيها بعض المال وحلقة مفتاح سيارتي أدوّرها بين يديّ كي لا تكون بعيدةً في حال تمكّننا من الهروب للمرة الثانية قبل وصول "الغزاة" إلى الحي المفتوح باتجاه الدوّار، علّنا ننفذ بما تبقّى لنا من حياة
كان هذا الممكن صعباً جداً على خمسة أشخاص: أصغرهم بعمر 22 عاماً، ووالدتي بعمر 75 عاماً، وخالتي التي تحمل سنواتها الـ65 بثقل كبير، وأختي، وأنا الحائرة في هذا الوقت الطويل كيف أتناسى ارتجاج المكان عشرات المرات في الساعة.
أدور في مكاني وإذا بالصوت يباغتني، فأهبط إلى الأرض التي هجرها السكون منذ ثلاثة أيام، أي مع بداية الهجوم على الريف الغربي في 14 تموز/ يوليو الماضي، وتبعتها ليلة 15 بأصوات الانفجارات وأصوات الغزاة الذين تسللوا إلى دوّار العمران، المدخل الشمالي الغربي للمدينة، بعد أن حرقوا ونهبوا قريتي الثعلة، وقرى المزرعة، وولغا، والمجد، وريمة حازم، ونجران، وكفر اللحف، وقرى الريف الشمالي، بوحشيتهم المعهودة.
اتكأت على حقيبة ملابس صغيرة دسست فيها بعض المال وحلقة مفتاح سيارتي أدوّرها بين يديّ كي لا تكون بعيدةً في حال تمكّننا من الهروب للمرة الثانية قبل وصول "الغزاة" إلى الحي المفتوح باتجاه الدوّار، علّنا ننفذ بما تبقّى لنا من حياة.
أنظر إلى أمي: كيف ستساعدها ركبتاها على الجري لتصل إلى السيارة؟ وكيف ستسير خالتي المنهكة؟ هل ستتمكن من الرحيل في الوقت المناسب؟ وكم ستسير بنا سيارتي مع ما تبقّى فيها من وقود بعد رحلة الهروب الأولى من قريتي يوم 14 من الشهر المشؤوم نفسه؟ وأين ستكون المحطة القادمة بعد أن خرج معظم سكان الحي من حولنا وقد نكون الأشباح الوحيدين في هذا المكان؟
متعبةً، ملت بجسدي على الحقيبة في حركة شبه نادرة، أراقب عائلتي، وأحاول محادثتهم عن أيّ شيء، وأعيد في نفسي الدعاء مع دعاء أمي وخالتي، وهما تسجدان لطلب الرحمة من الخالق والعفو وطلب التلطف بنا، بدعاء سالت معه دموعي عند قولهما: اللهم ارحم عجزنا وضعفنا، عجائز نهرب من مكان إلى مكان، لأجل ماذا؟ وأي ذنب اقترفنا؟
متكئةً أسأل نفسي: كم ضاقت تفاصيل الحياة في عينيّ المعلّقتين على النافذة التي ستعكس أضواء المهاجمين الذين بدأوا باقتحام المنازل في الأحياء القريبة بحجة التفتيش عن الأسلحة، وفق ما كان يصلنا عبر شبكات التواصل التي تغيب لساعات مع الانقطاع الكامل للتيار الكهربائي، وظلام دامس يثقله صوت الرصاص والانفجارات من جهة الشمال، ورشاشات من الداخل أكدت أنّ العصابات دخلت إلى المدينة لتفعل فعلها.
أنظر إلى أمي: كيف ستساعدها ركبتاها على الجري لتصل إلى السيارة؟ وكيف ستسير خالتي المنهكة؟ هل ستتمكن من الرحيل في الوقت المناسب؟
لم يهدأ الرصاص تلك الليلة، فعلى الأبنية العالية نصب القنّاصون أسلحتهم، وهدفهم أيّ عابر للطريق، وفرضوا حظر تجول مخيفاً، لا تقطعه إلا أصوات طرقاتهم على الأبواب ليقول من يتكلم العربية: افتحوا، عليكم الأمان! تبعت ذلك رشقات مسمومة تشي بالأمان الموهوم، خاصةً عندما تساقط ستة رجال من آل سرايا بالقرب من سكننا الجديد دفعةً واحدةً، أُعدموا ميدانياً مع أصوات التكبيرات التي خرقت آذاننا، وحملوا ونهبوا كل ما وقعت عليه أعينهم واستكثروا عليهم الحياة.
إذا طُرق الباب ماذا نفعل؟
نتلفّت حولنا، وأحاول أن أُظهر بعض الصلابة، لكن الأصوات التي جرحت مسامعي بددت ذلك عندما ذُعرت سيدة في بناية مجاورة بمقتل ابنها قبل أن تتبعها رصاصة، وكأنّ القاتل قدّم لها عربون شكر على كمية كبيرة من الذهب نهبها منها، هي كل ما تملك. أخرجتها لتنقذ ابنها، لكن القاتل لم يرتدع فقتله، وقتلها بدم بارد.
وتطول الليلة وأنا على حقيبتي، يميل رأسي تعباً وخوفاً، وأجبر نفسي على التيقظ؛ يجب أن أبقى صاحبة وعي. قد تكون آخر اللحظات التي أرى فيها أمّي وعائلتي، وقد تكون آخر ليلة نقضيها معاً، وقد أتمكن بطريقة أو بأخرى من حمايتهم مع ثقتي بأننا نواجه المجهول، ولا نعرف أي نوع من الإجرام سيطالنا.
في لحظات بقيت أصوات الاستغاثة والظلام سيّدة الموقف حتى ساعات الفجر الأولى، عندما حاولت الوقوف بلا شعور، ورجلاي تلتويان، أستند إلى الحائط محاولةً رفع الستارة، وتراجعت في اللحظة الأخيرة مع اندفاع رشقة من الرصاص في الساحة المجاورة. علمت أنها إعدام ميداني جديد دون أصوات أو نداءات، وبدم بارد أسال الدم الحار. في ما بعد علمنا أنه لمسنّين نُهب ما لديهم وأُردوا قتلى.
الهروب الأول
في تلك اللحظة بالتحديد سألت: لماذا هربت من قريتي؟ لماذا نزحت أنا وعجائزي وأخي وأطفاله الثلاثة؟ أقول: ليتنا بقينا برغم كل شيء، أليس أقل سطوةً من هذا الخوف، وأرحم قليلاً من أصوات الإعدامات واستغاثات الأطفال والنساء من قبو مجاور اجتمعت فيه 15 عائلةً خوفاً من عصابات أدارت مَقتلةً وقودها أهالي السويداء؟
أعود للسؤال: لماذا هربت؟ وأتذكر كيف فعلت أصوات الصواريخ والدبابات والمدافع والأسلحة الثقيلة باتجاه قريتي فعلها في خلق حالة من التوتر والخوف اللذين ارتفع منسوبهما مع طلقة رشاش قريبة جداً شاء القدر أن تجد طريقها بعيداً عن سيارتي كهدف لأحد القنّاصين، وشاء القدر النجاة مع شعور مرعب لا يختلف كثيراً عن سكرات الموت التي عاشها العشرات من أهالي قريتي وقرى الريفين الغربي والشمالي في محاولة يائسة للنجاة.
النار التي أُضرمت في الجنوب أرادوا لها أن تستمر لتحرق الريف وتستعر لتحرق المدينة، وها نحن بعد شهرين ننظر إلى الغرب وننتظر طريقاً لا يزال الخوف يعتمه، وقرى يعبث فيها الغرباء في انتظار اتفاقات دولية قد تعيد الحق لأهله
صباح ذلك اليوم، أسرعت مع أخي بالعودة بعد زيارة المخبز الذي أوصد أبوابه معلناً بداية معركة لا حيلة للمدنيين فيها إلا التزام المنازل قبل التفكير في النزوح، وأنّ الخروج في هذه المرحلة مغامرة غير محسوبة النتائج.
لكن يبدو أنّ عقلي الباطن لم يستجب بدايةً لفكرة أنّ هجوم تموز/ يوليو الماضي أخطر مما توقعت، وتالياً لا بدّ من التفكير في ما هو أخطر قبل فوات الأوان.
الأصوات وصلت إلى ذروتها، سبقها انقطاع التيار الكهربائي ومرور السيارات والدراجات التي اعتدت على مرورها، لكن كان عليّ أن أعرف: ماذا حصل؟ وكيف؟ والأهم: هل المقصودة قريتي أم القرى المجاورة؟
بعد ساعات جاء اتصال سريع على مجموعة تواصل عبر "واتساب": سقط التل، أي تلّ الحديد، الذي كان هدفاً لعصابات البدو. مصفحات ما يسمّى "فض النزاع" وصلت إلى منازل القرية الجنوبية الشمالية من جهة قرية أم ولد، ونداء: أخرجوا العائلات بأقصى سرعة، وهذا ما كان.
الطريق إلى السويداء
أخيراً، حملت بعض الحاجيات وأقفلت أمي الأبواب الخارجية، وانطلقنا بين رتل كبير جداً من الحافلات النازحة. أصوات محركات تجهد لتقطع المسافة بأقصى سرعة، منّا من عرف إلى أين الوجهة، ومنّا من خرج لمجرد الابتعاد عن أرض المعركة على أمل أن تكون المدينة أكثر أماناً.
إلا أنّ النار التي أُضرمت في الجنوب أرادوا لها أن تستمر لتحرق الريف وتستعر لتحرق المدينة، وها نحن بعد شهرين ننظر إلى الغرب وننتظر طريقاً لا يزال الخوف يعتمه، وقرى يعبث فيها الغرباء في انتظار اتفاقات دولية قد تعيد الحق لأهله، وقد تطعمه رغيفاً ساخناً للمعتدين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.