منذ أيام قليلة نشر الإعلامي محمود سعد عبر حسابه على فيسبوك منشوراً حول الروتين الصباحي للفنانة سميرة أحمد، إحدى نجمات عصر السينما الكلاسيكية. شمل هذا الروتين أنشطة بسيطة مثل الاستيقاظ مبكراً وإطعام العصافير؛ أفعال رقيقة وبسيطة تدل على امرأة مسالمة تعيش شيخوختها بسلام. غير أن هذا المنشور أثار عاصفة من التعليقات السلبية تمثَّل أغلبها في: كنا نتوقع أن تستيقظ الفنانة لتصلي الفجر وليس لإطعام العصافير.
هذه التعليقات تعكس صورة نمطية راسخة عن المرأة حين تتجاوز مرحلة الشباب؛ صورة تتخيلها منسحبة من الحياة، لا شاغل لها سوى العبادة والدعاء وانتظار زيارة الأبناء. غير أن الفيلم المغربي "زنقة مالقا"، المعروض في مهرجان القاهرة السينمائي، جاء ليقلب هذه الصورة رأساً على عقب، مقدِّماً حكايةَ امرأةٍ ترفض التنازل عن متع الحياة، حتى وهي تقترب من عقدها الثامن.
فيلم "زنقة مالقا" (Calle Málaga) هو أحدث أعمال المخرجة المغربية مريم التوزاني، في أول تجربة لها باللغة الإسبانية، وكتبته بالشراكة مع نبيل عيوش. شهد الفيلم عرضه العالمي الأول ضمن قسم "Venice Spotlight" في الدورة الـ82 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، حيث نال جائزة الجمهور عن هذا القسم. ومن هناك بدأ مسيرته الدولية، قبل أن يصل إلى مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ46 (12 إلى 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2025)، حيث استقبل بحفاوة لافتة وأثار تفاعلاً واسعاً بين الجمهور.
حكاية تكسر النمط السائد عن الشيخوخة
يؤسس الفيلم لوتيرته المتمهلة وشخصية بطلته في مشاهده الافتتاحية، حيث نشاهد يدَي البطلة فقط في اللقطات الأولى وهي تُعدّ لنفسها فطوراً شهياً في مطبخ منزلها. ثم تتابع اللقطات لتعرفنا المخرجة على تفاصيل حياة البطلة التي تقارب الثمانين. تلك التفاصيل التي تتقاطع مع منزلها الذي يشي كل ركن فيه باهتمام صاحبته ماريا أنخليس (كارمن مورا)، ليس فقط من حيث النظافة أو النظام، بل بالتنسيق الأنيق والرقيق الذي يجمع بين الذوق الإسباني والمغربي في آن واحد، وتحفه المختارة بعناية.
مَن قرّر أن الشيخوخة تعني النهاية؟ وأن المرأة بعد السبعين لا يحق لها أن تحلم، أو تختار، أو تُدهشنا؟
تكشف التتابعات السينمائية التالية حياةً يمكن اعتبارها مفعمة بالوحدة لبطلة الفيلم، لكنها وحدة غنية بالدفء؛ فالمرأة ذات الأصول الإسبانية التي عاشت حياتها كلها في مالقا، تركتها ابنتها وسافرت إلى مدريد وهي في السابعة عشرة من عمرها، ثم مات الزوج، فظلت ماريا وحدها غارقة في أنس وألفة أهل الحي الذين يعاملونها كجدة للجميع، بالإضافة إلى زيارات مستمرة لصديقتها الراهبة التي نذرت الصمت، أو لزيارة قبور معارفها وأصدقائها وزوجها.
يهدد هذا الاستقرار وصول زيارةٍ مفاجئة من ابنتها، التي لم تأتِ للاطمئنان على الأم أو بدافع الحنين لمسقط رأسها وأصدقاء طفولتها، بل لبيع منزل الأم الذي كتبه الأب باسمها. فيصبح على ماريا أن تختار بين خيارين أحلاهما مُرّ: السفر إلى مدريد مع الابنة للمساعدة في تربية الأحفاد، خصوصاً بعد انفصال الابنة عن زوجها، أو الحياة في إحدى دور المسنين التي تستقبل أصحاب الأصول الإسبانية بشكل مجاني.
تجبر هذه المعضلة ماريا على رؤية نفسها في مرآة المجتمع: امرأة مسنة واقعة حرفياً تحت وصاية ابنة لا تربط بينهما أي صلة حقيقية. ثم تنتقل هذه الوصاية إلى دار مسنين تفقد فيها طعامها الشهي الذي تطهوه لنفسها كل يوم، بل حتى حرية اختيار ما تأكل، أو طول شعرها، أو موعد استيقاظها ونومها، لتأخذ ماريا قرار الاحتفاظ بإرادتها بيديها، فتهرب من الدار، مثل المراهقات، بحيلة ذكية وطريفة في الوقت ذاته، وتدفعها هذه التجربة، التي تشبه الموت، بعدما اضطرت لبيع أثاث منزلها وتحفه، إلى اكتشاف معنى الحياة الحقيقية.
شرعت ماريا في جمع قطع الأثاث والتحف كما لو أنها في رحلة إيزيس عندما جابت مصر من شمالها إلى جنوبها بحثاً عن أجزاء جثة زوجها أوزوريس. وعندما اكتمل الجسد الملكي، جامعته إيزيس لتنجب ابنها حورس الذي سيستعيد ملكَ أبيه. وبالمثل، بنهاية رحلة ماريا في استعادة منزلها كما كان، استعادت، في الوقت نفسه، سيطرتها على جسدها وجنسانيتها، وخاضت مغامرة جنسية هي الأولى في حياتها منذ 22 عاماً، قبل حتى وفاة زوجها الذي فقد الشغف بالعلاقة الحميمة، وذلك عندما تحولت علاقة العداوة بينها وبين جامع التحف العجوز عبد السلام إلى شغف روحي وجسدي متبادل.
جسد المرأة بعد السبعين… حضور لا يعتذر
يحتفي فيلم "زنقة مالقا" بحق النساء في الحياة التي يخترنها بإرادتهن، بحريتهن الجنسية، أيّاً كان عمرهن، وباستقلاليتهن المادية، واهتمامهن بأجسادهن وجمالهن في أي سن. فالنقطة التي قررت عندها ماريا تركَ دار المسنين خلف ظهرها كانت عندما أصرّت عليها الممرضة أن تقص شعرها حتى يصبح أسهل في العناية به، على الرغم من أنها لا تعاني من أي متاعب جسدية تمنعها من العناية بشعرها الطويل. وبشكل واضح تعتني البطلة بملابسها الملونة وأظافرها المطلية بالأحمر القاني.
ثم تظهر ابنتها كلارا (ماريا ألفونسو روسو) لتوضح التناقض بينها وبين أمها؛ فبينما تبدو الأم كلوحة زاهية الألوان، يفتقد وجه الابنة كل ألوان الحياة وبهجتها، لتبدو الأم أكثر شباباً منها. أرجعت كلارا ذلك إلى متاعبها المادية واضطرارها للعمل لإعالة نفسها وطفليها، واتهمت الأم بأنها لم تعمل يوماً، فلم تختبر مشاق الحياة المستقلة. لتأخذ الأم أولى خطوات حريتها بعد الهرب عن طريق بدء مشروعها الخاص، ليس فقط لإعالة نفسها بل لجمع المال الكافي لإعادة شراء مقتنياتها التي باعتها الابنة.
في زنقة مالقا تتحوّل الشيخوخة من محطة خفوت إلى مساحة كاملة للحياة، حيث تستعيد المرأة جسدها ورغباتها وحقها في أن تكون مرئية.
تتجلى في الفيلم كذلك جرأة المخرجة في استعراض جسد المرأة، خصوصاً في هذه المرحلة العمرية؛ فلم يمنعها ذلك من تقديم مشاهد حميمة تُبرز جماليات جسد الممثلة، في كسر للكثير من التابوهات التي لا تتردد في استعراض أجساد الممثلات الشابات، بينما تفرض هالة من القدسية على الأكبر عمراً، وكأنهن خارج نطاق الرغبة، أو لا يحق لهن الاستمتاع بحياة جنسية طبيعية كغيرهن.
يكمل الفيلم ما يشبه الثلاثية من أعمال مريم التوزاني التي تقدم فيها أشكالاً مختلفة من العلاقات الإنسانية؛ بدءاً من صداقة امرأتين في عمرين ومن خلفيتين اجتماعيتين واقتصاديتين مختلفتين اجتمعتا على حب الطفل (آدم) في فيلم "آدم" عام 2019، ثم علاقة "الزواج البنفسجي" أي الزواج الشكلي أو الصوري أمام المجتمع بين رجلٍ مثلي الجنس وامرأة غيرية تحميه من مجتمع قد يهدر دمه إن عرف حقيقته، وصولاً إلى أحدث أعمالها "زنقة مالقا"، الذي يروي علاقة حب شغوفة بين رجل وامرأة لا يُباليان بعامل العمر أو توقعات المجتمع.
في النهاية، يمضي فيلم "زنقة مالقا" أبعد من كونه حكايةَ امرأة مسنة تتشبث ببيتها أو تحاول استعادة مقتنياتها، ليصبح شهادة إنسانية على قدرة النساء في كل الأعمار على إعادة تعريف حياتهن خارج قوالب المجتمع المنتظِرة منهن الخضوعَ والهدوءَ والتلاشي.
لا يقدم الفيلم بطلة خارقة، بل امرأة عادية ترفض أن تكون ظلّاً لما كانت عليه، وتصرّ على أن تبقى مرئية، حرة، وراغبة. وهنا تكمن قوة العمل: في تذكيرنا بأن العمر ليس حدّاً للرغبة، ولا نهاية للبهجة، بل مساحة أرحب لتجريب حياة أكثر صدقاً مع الذات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
