في واحدة من أفظع الجرائم في حق الصحافيين في اليمن، قتلت إسرائيل في يوم واحد قرابة 32 صحافياً يمنياً في استهدافها لمبنى صحيفتَي "26 سبتمبر" و"اليمن"، في حي التحرير وسط العاصمة صنعاء، والذي يُعدّ أحد أكثر أحياء المدينة اكتظاظاً بالسكان. جاء الاستهداف ضمن سلسلة غارات شنّتها إسرائيل مساء الأربعاء العاشر من أيلول/ سبتمبر الجاري، على صنعاء والجوف الخاضعتين لسيطرة جماعة الحوثي. خلّفت الغارات وراءها 46 شهيداً و165 جريحاً، بحسب إحصائية أعلنتها آنذاك وزارة الصحة التابعة للجماعة.
تعقيباً على الهجمات، قال وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، في تغريدة عبر إكس، إنّ الضربات استهدفت "معسكرات تديرها عناصر إرهابية حوثية" بما في ذلك ما وصفه بـ"جهاز الدعاية الحوثية" في صنعاء ومواقع أخرى.
من جانبه، نفى متحدث جماعة الحوثيين يحيى سريع، هذا الادعاء في بيان له، قال فيه إنّ "غارات العدو الإسرائيلي طالت أعياناً مدنيةً بحتةً منها صحيفتا '26 سبتمبر' و'اليمن'، وهناك شهداء وجرحى من الصحافيين والصحافيات وكذلك من المواطنين والمارة".
يقول الأشول، لرصيف22، إنّ الحوثيين يتّبعون سياسة احتكار التوثيق والنشر للضربات الإسرائيلية وآثارها لأغراض سياسية وعسكرية، ومن ضمنها استغلال هذه الجرائم واستغلال أصوات الضحايا بما يتناسب مع خطابهم التحشيدي لتعبئة الناس والاستفادة منهم
من جانبها، أدانت نقابة الصحافيين اليمنيين الهجوم على صحيفة "26 سبتمبر"، وعدّته "جريمة حرب وانتهاكاً صارخاً لكل القوانين والمواثيق الدولية التي تؤكد على حماية وسائل الإعلام وحرية التعبير في أثناء النزاعات"، داعيةً "كافة المنظمات المعنية بحرية الصحافة والرأي والتعبير، إلى إدانة هذه الجريمة، والضغط لتوفير الحماية لوسائل الإعلام، وضمان بيئة آمنة لحرية التعبير، ومحاسبة كل المنتهكين لحرية الصحافة في اليمن".
في السياق ذاته، قالت الباحثة في "هيومن رايتس ووتش"، نيكو جعفرنيا، إن الهجوم الذي شنته القوات الإسرائيلية على مركز إعلامي في العاصمة صنعاء هو "مثال آخر على الخطر الذي يواجهه الإعلاميون في اليمن"، وأشارت إلى أنّ "مرافق الإذاعة والتلفزيون هي أعيان مدنية ولا يمكن استهدافها" وأنها تكون أهدافاً مشروعةً فقط إذا استُخدمت بطريقة "تساهم بشكل فعّال في العمل العسكري"، وأضافت أنه مع ذلك "لا تصبح مرافق البثّ المدنية أهدافاً عسكريةً مشروعةً لمجرّد أنها مؤيدة للحوثيين أو معادية لإسرائيل". وطالبت جعفرنيا الدول الأخرى بالضغط على إسرائيل والسلطات اليمنية على حد سواء، لوقف استهداف الصحافيين والإعلاميين فوراً وحماية حرية التعبير والمعلومات، وهو واجبها بموجب القانون الدولي.
الحوثيون واحتكار السردية
الضربات الإسرائيلية على حي التحرير استهدفت مقرّ التوجيه المعنوي التابع للجماعة، ودمّرت مكتبَي صحيفتَي "26 سبتمبر" و"اليمن" بشكل كامل، ما أسفر عن مقتل 32 من العاملين فيهما حيث كانوا مجتمعين داخلهما. كما انهارت مبانٍ مدنية مجاورة فوق ساكنيها، وفُقدت حيوات بأكملها تحت الركام.
في الأثناء، بقيت بعض الجثامين تحت الأنقاض لأيام وسط مناشدات لانتشالها من بينها مناشدة عبد الرحمن علي الرحبي، الذي ناشد الدفاع المدني والجهات المختصة في صنعاء انتشال جثة خاله الصحافي علي ناجي الشراعي، وذلك عبر منشور على صفحته في فيسبوك قال فيه: "لليوم الثالث وخالي تحت الأنقاض. والدفاع المدني يقول اليوم جمعة في إجازة، ولم يقوموا بواجبهم في إزالة الركام عن المباني المدمّرة. نناشد الجهات المختصة في صنعاء بسرعة إزالة الركام وإخراج جثث الشهداء حتى يتأكّد أهالي الشهداء من استشهاد أبنائهم".
على كارثية المشهد وفداحته، تستمر جماعة الحوثي في منع التصوير والنشر عن الجرائم التي ترتبت على هذه الضربات الإسرائيلية ضمن سياسة احتكارها للسردية الإعلامية عن الحرب حيث أصدر النائب العام التابع للجماعة بعد القصف مباشرةً تعميماً يدعو فيه المواطنين إلى الامتناع عن نشر صور أو مقاطع القصف الإسرائيلي، وبأنه سيتم اتخاذ الإجراءات القانونية تجاه كل من يخالف ذلك.
سياسة التعتيم الإعلامي هذه أغضبت المواطنين، خصوصاً بسبب نتائج المجزرة المروعة وحجم الخسائر في منطقة مدنية مثل حي التحرير، وظهر استياؤهم عبر تفاعلهم الواسع على مواقع التواصل الاجتماعي، من بينهم الناشط والمعتقل سابقاً في سجون الحوثي، عبد الرحمن النويرة، الذي كتب على فيسبوك: "أي حد يقول لا تنشروا صور القصف اللي وسط الحارات والبيوت ووسط المدنيين يحاول التغطية على جرائم العدو وإنه أخبث من العدو نفسه"، مُتسائلاً في نهاية منشوره: "ليش تشتوا تغطوا على جرائمه؟ مع من أنتو؟".
أما الكاتبة اليمنية جهاد جار الله، فقالت في منشورٍ على فيسبوك: "تسألني امرأة عربية: ماذا تتحدثون في اليمن؟ أقصد ما هي لغتكم؟ في جلسة تضم عرباً من دول مختلفة، يقولون للسودانية: كيف الوضع في البلاد؟ يجري الحديث عن كل حروب الأرض، حتى عن حرب الخليج، وأنا هناك، دون سؤال، لأنّ الكثير لا يعرف عنّا شيئاً، ومن يعرف عن حرب اليمن كثير منهم يظنّها حرباً خفيفة في خلفية نشرات الأخبار، لا تستحق لحظة فهم، فكيف ببقية العالم؟".
وتضيف جهاد: "ما يقتلني الآن، وأنا أشاهد الفيديوهات لمكان عرفته جيداً وعشت فيه كثيراً... ليس أننا نرحل بلا ذنب، بل بلا ذكرى حتى، في حين يُمنح الضحايا في البلاد الأقل حظاً فرصة لأن تكون عدداً أو خبراً جاداً لدقائق، نحن لا شيء... لا شيء، ثم يأتي صوت ويقول: لا تنشروا!".
رداً على ترويج الحوثيين والموالين لهم وسم "فداءً للسيد"، عقب مقتل وإصابة العشرات في حي التحرير في صنعاء، يمنيون يرفعون شعار "لسنا فداءً لأحد"، ويعارضون احتكار الحوثيين السردية المتعلقة بتبعات الضربات الإسرائيلية
وتختم منشورها بقولها: "إحدى معضلات الفلسفة تقول: إذا سقطت شجرة في غابة ولم يكن هناك أحد يسمعها، فهل تصدر صوتاً؟ فإذا قُتِل كل اليمنيين دون سمع العالم، فهل قُتلوا حقاً؟ لا جريمة دون شاهد.. لا جريمة دون شاهد!".
لماذا يمنع الحوثيون تصوير آثار الضربات الإسرائيلية والنشر عنها؟
في الإجابة عن هذا السؤال، يرى المحلل السياسي والعسكري اليمني أحمد الأشول، أنّ هناك أسباباً عدة بعضها عسكري وأخرى سياسية حيث يقول في حديثه إلى رصيف22: "تحاول جماعة الحوثيين عن طريق المركز الإعلامي وجهاز مخابرات الحوثيين احتكار المعلومات لأغراض سياسية وعسكرية. يحاولون ألا يخرج الأمر عن سيطرتهم وأن يتحكّموا في المواطنين بالنشر حتى وإن كانت المناطق المستهدفة سكنيةً ومدنيةً، كي لا يتم فضحهم إذا ما كانت هناك مخازن أسلحة أو مقرّات قيادة، لذلك يحاولون تجريم التصوير والنشر".
أسباب أخرى تتعلّق باحتكار السردية واستغلال أصوات الضحايا بما يتّسق مع سياسة الجماعة وخطابها، يشير إليها الأشول، شارحاً: "كما هو معروف منذ 2015، فإن الحوثيين يتّبعون سياسة الاحتكار هذه حتى منذ ضربات قوات التحالف لاستغلال هذه الجرائم واستغلال أصوات الضحايا بما يتناسب مع خطابهم التحشيدي لتعبئة الناس والاستفادة منهم".
ويردف الأشول: "الحوثيون لا يكترثون لأصوات الضحايا والمجازر التي تحدث وما يهمهم هو كيف يمكنهم الاستفادة منها".
عقب الضربات الإسرائيلية المشار إليها، دعت جماعة الحوثي إلى خروج مليوني، يوم الجمعة الموافق 12 أيلول/ سبتمبر الجاري، والاحتشاد في ميدان السبعين في صنعاء وفي بقية المحافظات الخاضعة لسيطرتها تحت عنوان: "وفاءً للشهداء... لن نتراجع في إسناد غزة مهما كانت التضحيات"، وهي تظاهرات اعتادت الجماعة أن تحشدها كل جمعة منذ أن بدأت حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة.
احتكار للسردية حتى على حساب الضحايا
فقد الشاب علي الضمدي، 14 شخصاً من عائلته قضوا تحت الأنقاض في الضربات على حي التحرير. انتشرت صورة مؤثّرة له وهو يبكي فوق أنقاض منزله مذعوراً من هول الصدمة. أصبحت الصورة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم، أيقونة الحدث، وتعاطف الناس مع الضمدي، وتساءلوا عن مصير عائلته.
لاحقاً، ظهر الشاب في فيديو مع الإعلامي التابع لجماعة الحوثي أسامة الفران، نشره رئيس وكالة الأنباء اليمنية "سبأ" نصر الدين عامر في تغريدة قال فيها: "اسمعوا المواطن اليمني البطل علي الضمدي -الذي فقد 14 شهيداً من أسرته في آخر عدوان صهيوني على صنعاء، وانتشرت صورته في الإعلام- يوجّه رسائل للصهاينة وللمنافقين أيضاً".
في الفيديو، يسأل الإعلامي الفران، الشاب الضمدي كم فقد من أسرته ليجيبه بأنه فقد 14 شخصاً، ثم يخبره الفران: "صورتك بتنتشر يا علي وكلما قلنا فداءً لغزة، سنضحّي للأقصى، لن نترك فلسطين يقولون لنا أنتم لم تضحّوا، دعوا الضحايا هي التي تتكلم"، ليجيبه الضمدي بأنّ من فقدهم هم أيضاً "فداء لغزة" و"على طريق القدس".
تعقيباً على هذا الفيديو، كتب الصحافي أصيل سارية، في منشورِ على فيسبوك: "أنا كصحافي لا يمكن أن أتخيّل نفسي أخلاقياً وإنسانياً، أروح أعمل مقابلة وممكن تكون بالقوة مع شخص فقد عائلته ولا يزال بعضهم تحت الأنقاض، بس حكم القوي أكيد...".
ويضيف سارية، في حديثه إلى رصيف22: "هناك محاولات لاحتكار السردية الإعلامية من قبل الحوثيين داخل مناطق سيطرتهم من خلال التعليمات التي يصدرونها سواء بمنع التصوير أو النشر، وأصلاً السردية هي محتكرة لأنه لم يعد هناك إعلام مستقلّ، ولذلك المعلومات شحيحة عن الضحايا المدنيين الذين سقطوا منذ بدء الغارات الإسرائيلية وكذلك الغارات الأمريكية".
وعن استهداف الصحافيين، ينبّه سارية: "سواء اختلفنا مع الحوثين أو اتفقنا معهم، إلا أنّ استهداف الصحافيين جريمة حرب، مهما كانت انتماءاتهم وولاءاتهم، والخطورة تكمن في أن إسرائيل تتعمّد إسكات الصحافة باستهداف متعمّد للصحافيين بدءاً من غزة، ولبنان وانتهاءً باليمن ولن تكتفي بذلك بل إنها تتفاخر به كما تفاخرت بضربها الصحافيين اليمنيين".
"لسنا فداءً لأحد"
الفيديو الذي صوره الإعلامي الموالي للحوثيين مع الشاب الضمدي والذي تزامن مع حملة عبر السوشال ميديا من موالين للجماعة بعنوان: "فداءً للسيد"، في إشارة إلى زعيمها عبد الملك الحوثي، استفزّا الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي في اليمن الذين عبّروا عن استيائهم بحملة على هذا الخطاب بمنشورات ومقاطع مصورة تحت عنوان "لسنا فداءً لأحد" و"أرواحنا غالية".
واحد من هذه الفيديوهات التي حقّقت صدى واسعاً من التفاعل والمشاركات لشاب نشر وصيّته بأسلوب ساخر قال فيه: "وصلنا الآن خبر بأنهم سيقصفون أمام منزلنا، لا يهم. أنا سأنام، وفي حالة قصفوا وحدث لي أي شيء لا تتفدّوا بنا لأحد"، متهكماً: "يا أخي إذا قابلوا معك لا تقل فداء للسيد ولا فداء لأحد".
يقول النهمي، لرصيف22: "لأنّ وجعنا غير مرئي، وجعنا لا أحد يتعاطف معه، وجعنا نشعر به نحن، فلماذا نتوجّع على من نحب إذا كنّا سنقدّمهم قرابين لأيٍّ كان؟ ثم إنّ من يتاجرون بدمائنا (أي الحوثيين) لا يختلف إجرامهم عن إجرام إسرائيل في غزة"
كما كتب رشاد الصلاحي، في منشور على فيسبوك: "الجثث لا تزال تحت الأنقاض حتى اليوم. في ظل إمكانيات منعدمة نحن لا نستطيع أن نحمي أنفسنا، لهذا نحن لسنا فداء لأحد".
الصحافي عمر النهمي أحد الذين تبنّوا هذا الخطاب وشاركوا في الحملة، بعد أن فقد عدداً من أقرباء زوجته، في هذه الضربات، كان قد نعاهم عبر حسابه في فيسبوك قائلاً: "بالنسبة لي، أنا لست فداءً لأحد غير أهلي، وأهلي ليسوا فداءً لأحد… هذا الكون بعيني رملة في حذاء أهلي".
وفي حديثه إلى رصيف22، يقول النهمي: "لأنّ وجعنا غير مرئي، وجعنا لا أحد يتعاطف معه، وجعنا نشعر به نحن، فلماذا نتوجّع على من نحب إذا كنّا سنقدّمهم قرابين لأيٍّ كان؟"، متساءلاً: "كيف يكونُ موتي نصراً لآخر؟ وهل إراقة دمي ستوقف نزيف الآخر؟"، قبل أن يختم: "ثم إن من يتاجرون بدمائنا (يقصد الحوثيين) لا يختلف إجرامهم عن إجرام إسرائيل في غزة".
وخلال الأيام الأخيرة، صعّدت الجماعة استهدافها للصحافيين، فقامت باختطاف الصحافي ماجد زايد، في أثناء خروجه من أحد المراكز الطبية، وقبله بساعات الكاتب أوراس الإرياني، وفق ما كشفته نقابة الصحافيين اليمنيين التي طالبت الحوثيين بإجلاء مصير الصحافي والكاتب المختطفين، فضلاً عن الإفراج عن تسعة صحافيين آخرين لا يزالون رهن الاعتقال التعسفي لدى الجماعة في صنعاء منذ سنوات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.