شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"قلبي يشتعل كالنار"… صرخات أهالي صحافيين يمنيين حُكم عليهم بالإعدام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

السبت 4 ديسمبر 202105:13 م

مثلها مثل بقية أمّهات المعتقلين والمختطفين في اليمن، خرجت والدة الصحافي توفيق المنصوري متلهفةً لاستقبال ابنها، بعد أن سمعت بوصول الدفعة الأولى من المعتقلين المُفرَج عنهم، في صفقة تبادل الأسرى والمعتقلين التي تمّت برعاية الأمم المتحدة، في أواخر عام 2020، بين جماعة أنصار الله (الحوثيين)، والحكومة الشرعية.

ومع وصول أول حافلة تحمل المعتقلين المفرَج عنهم، تقدّمت بحماسةٍ، تشقّ طريقها وسط الجموع المزدحمة، علّها تلمح وجه ابنها الذي لم تره منذ أكثر من ست سنوات. مرّت حافلةٌ تلو حافلةٍ أمام عينيها، من دون أي أثرٍ لابنها.

قالت في نفسها: "لعلّي لم ألحظُه، بسبب ضعف بصري الذي تدهور كثيراً من شدّة بكائي عليه"، وانتظرت نزول الجميع من الحافلات لتبحث عنه من قُرب. مشت مترقبةً، تشاهد من حولها الأمهات والعائلات وهي تحتضن أبناءها، ولسان حالها: "متى أرى ابني، ويأتي دوري لأحتضنه؟". غادرت الحافلات المكان، وانفضّت الجموع، وبقيت أم توفيق وحيدةً، لا ترافقها سوى خيبة الأمل.

"لا أدري إنْ كنت سأتمكّن من رؤية ابني"، تقول لرصيف22، مضيفةً: "من كثرة خيبات الأمل التي عشتها طوال سنوات اعتقاله، أصبح عندي اعتقاد جازم بأني سأغادر هذه الدنيا، كما غادرها من قَبل والده، من دون رؤيته". وتتابع: "قلبي يشتعل كالنار. الله أعلم بقلبي".

ابنة توفيق الصغرى نوران، هي الأخرى تفتقد والدها الذي لم تتعرف إليه حتى الآن، إلا من خلال الصور، فعندما اختُطف واعتُقل كانت ما تزال رضيعةً، وعمرها حينها لم يتجاوز الستة أشهر. دخلت هذا العام السنة السابعة من عمرها، وتستعدّ لبدء سنتها الدراسية الثانية، من دون رؤية والدها.

حالة أم توفيق وحفيدتها، واحدة من حالات الفقد والحرمان التي يعاني منها ذوو الصحافيين اليمنيين المعتقلين على مدى ست سنوات، خصوصاً الصحافيين الأربعة المحكومين بالإعدام: عبد الخالق عمران، وتوفيق المنصوري، وحارث حُميد، وأكرم الوليدي.

بدأت هذه المعاناة في التاسع من حزيران/ يونيو 2015، عندما اختطف الحوثيون مجموعةً من الصحافيين، من ضمنهم الأربعة المذكورون. كان المختطفون يعملون مع وسائل إعلام محلية غطّت الانتهاكات التي مارسها الحوثيون، بعد سيطرتهم بالقوة على العاصمة صنعاء، ومدنٍ أخرى في شمال اليمن، في أيلول/ سبتمبر 2014.

"أفرِجوا عن ابني"

بعد اختطاف الصحافيين الأربعة، أُخفوا قسراً لفترةٍ طويلة، لم يعرف خلالها أهاليهم مكان وجودهم، وما إذا كانوا أصلاً لا يزالون على قيد الحياة، خصوصاً بعد مقتل اثنين من الصحافيين الآخرين المختطفين بغارةٍ جويةٍ استهدفت موقعاً عسكرياً يحتجز فيه الحوثيون معتقلين.

كل أسبوع تقريباً، كان أهالي المعتقلين يخرجون للمشاركة في وقفاتٍ أمام السجون والمعتقلات في صنعاء، للمطالبة بمعرفة مصير أبنائهم، ومكان وجودهم.

تروي والدة الصحافي حارث حُميد، وشقيقته، لرصيف22، كيف كنّ على مدى سنوات، يخرجن مع نساء أُخريات أسبوعياً، تحت أشعة الشمس الحارقة، للوقوف أمام السجون والمعتقلات والمقرّات الأمنية المختلفة التي يُحتمل أن أقاربهن محتجزون فيها. كنّ يحملنَ لافتاتٍ مكتوباً عليها "أفرِجوا عن أخي"، و"أفرِجوا عن ابني"... ويتعرّضن لشتى أنواع الإهانات والمضايقات اللفظية الجارحة، وحتى للأذية الجسدية، وللتهديد بإخفاء أبنائهنّ إلى الأبد، وبحرمان البعض منهنّ من الزيارات، عقاباً لهنّ على الاحتجاج.

بعد ثلاث سنوات من اختطاف حارث حُميد، واعتقاله، أصيب والده، في منتصف عام 2018، بجلطةٍ دماغيةٍ، نُقل على إثرها إلى العناية المركّزة التي مكث فيها أسابيع، قبل وفاته.

تقول شقيقة حارث إن والدها كانت يتمنّى رؤية ابنه، قبل إصابته هذه، وحاول كثيراً زيارته، لكن محاولاته كلها باءت بالفشل، ولم يُسمح له بالزيارة أبداً.

"عند ذهابي لزيارة الصحافيين المعتقلين، دخلتُ صالة الانتظار، وأخرجوا لي رجلاً كهلاً تسعينياً. حاولت أن أتعرّف على ملامح وجهه، وبصعوبةٍ شديدةٍ عرفت أنه الشاب الصحافي عبد الخالق عمران"

حارث، هو الآخر كانت يتمنى زيارة والده في المستشفى لتوديعه، لكنه مُنع من ذلك. وبعد أن فارق والده الحياة، لم يُسمح له أيضاً بحضور جنازته. تقول شقيقته: "عدم تمكّنه من توديع والدي، أدخله في حالةٍ نفسيةٍ صعبة جداً، بالإضافة إلى تدهور صحته الجسدية".

وتشير الشقيقة إلى أن والدتها هي الأخرى تدهورت حالتها الصحية كثيراً، بعد اعتقال حارث، خصوصاً بعد سماعها بخبر الحكم بالإعدام الذي يخافون من تنفيذه في أي وقت.

بدوره، عانى والد الصحافي توفيق المنصوري، كثيراً قبل أن يموت مكلوماً بسبب اعتقال ابنه. يذكر عبد الله، شقيق المنصوري، أن والده الطاعن في السن، كان يأتي من قرية وصاب إلى صنعاء، قاطعاً مسافة حوالي 330 كيلومتراً، مرات عديدة للوقوف أمام السجن، مطالباً بالسماح له بزيارة ابنه، لكن طلباته كلها رُفضت، وكان يعود خائب الأمل.

يقول لرصيف22: "بعد خمس سنوات من المعاناة، توفي والدي كمداً على توفيق، قبل أن يتمكّن من رؤيته خارج السجن، أو حتى زيارته".

اتصالات محدودة ولا زيارات

طوال سنوات الاعتقال الستّ، لم يُسمح لأهالي الصحافيين الأربعة بالزيارة أبداً، وكل ما سُمح لهم به، هو اتصالات محدودة جداً، كانوا يستغلّونها لطلب أموالٍ وأدوية من أهاليهم، وفي الغالب كانت لا تصلهم كاملةً، كما يقول عبد الكريم، شقيق الصحافي عبد الخالق عمران.

يذكر عبد الكريم أنه حتى المحامين لم يُسمح لهم بزيارة الصحافيين الأربعة، والتحدث إليهم، إلا مرةً واحدةً، بعد صدور حكم الإعدام، على الرغم من أن المحامين تقدّموا بطلبات عدة للسماح بزيارة موكّليهم.

ومنذ تشرين الأول/ أكتوبر 2020، لم يتمكّن أهالي الصحافيين الأربعة، ولا المحامون، من زيارتهم، أو الاتصال بهم على الإطلاق، ولا يملكون أي معلومةٍ عنهم، ولا عن حالتهم الصحية.

يقول المتحدث باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في اليمن، بشير عمر، لرصيف22، إنهم يبحثون في البلاغات كلها التي تصلهم، وتتحدث عن انتهاكات تُرتكَب بحق المعتقلين والأسرى. لكنه يذكر أنهم لا يستطيعون الوصول إلى بعض السجون والمعتقلات وأماكن الاحتجاز.

ويدعو عمر جميع أطراف النزاع في اليمن، إلى تمكينهم من زيارتها، لافتاً إلى أنه على جميع الأطراف بلا استثناء، الالتزام بالقانون الدولي الإنساني الذي يتحدّث بكل وضوحٍ عن أنه من حق جميع الأشخاص المحتجزين لدى أطراف النزاع، الحصول على معاملة إنسانية لائقة، وطبابة مناسبة، وعن تمكينهم من التواصل مع أسرهم وأحبائهم، وأيضاً تمكين عائلاتهم من زيارتهم، ومعرفة حالتهم الصحية، وظروف احتجازهم، من دون قيدٍ، أو شرط.

محاكم استثنائية مشكوك في نزاهتها

بعد سنوات من الاحتجاز التعسفي، والإخفاء القسري، أُحيل الصحافيون الأربعة إلى المحاكمة. وفي الـ11 من نيسان/ أبريل 2020، أصدرت المحكمة الجزائية المتخصصة التي يديرها الحوثيون في صنعاء، حكماً بالإعدام بحقهم، بعد أن أدانتهم بتهم "الخيانة والتجسس لصالح دول أجنبية".

يقول المحامي والناشط الحقوقي، عبد المجيد صبره، وهو أحد المحامين الموكلين بالدفاع عن الصحافيين الأربعة، لرصيف22، إنه "تمت محاكمة هؤلاء الصحافيين من دون حضورهم الشخصي، ومن دون حضور محاميهم، وأحكام الإعدام التي صدرت بحقهم كانت جائرةً ومسيسةً بشكلٍ واضحٍ، ولا وجاهةً قانونيةً لها، وصدرت من محكمة استثنائية لا تخضع لأي معايير قانونية".

"سؤال: ما هو التعذيب الذي تعرّضت له؟ وممَن؟ وما دليلك؟ جواب: الإخفاء القسري لمدة سنة، والضرب بالأيدي والعصي، والتهديد بالسلاح. ويوم أمس، تعرضت وزملائي للتعذيب، بالضرب والشتم، من قبل أشخاصٍ آخرين غير الذين قاموا بالتحقيق معنا"

ويضيف لرصيف22، أن "المحاكمة في مُجملها كانت مخالفةً لكل المبادئ والأُسس القانونية التي تقوم عليها المحاكمة العادلة"، مشيراً إلى أن حكم الإعدام لم ينفَّذ إلى الآن، "لكنه تحوّل الى سيف مُصلّت على رقاب الصحافيين، وأهاليهم، على حدٍّ سواء".

ويذكر صبره أن "الممثلين القانونيين للصحافيين الأربعة، تقدّموا بطلباتٍ لاستئناف الحكم، بعد أسبوعٍ من صدوره، لكن على الرغم من ذلك، لم تُحدَّد جلسة الاستئناف إلا بعد سنةٍ ونصف".

ويشير إلى أنه "على الرغم من أن لدى الصحافيين الأربعة أوامر بالإفراج عنهم، صادرةً من النيابة الجزائية المتخصصة (في 30 أيلول/ سبتمبر 2020)، وعلى ضوء هذه الأوامر تم تسليمهم إلى لجنة تبادل الأسرى، إلا أنه لم يُفرَج عنهم، وأُعيد فتح قضيتهم، وعُقدت جلسة استئنافية في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، لم يحضر فيها المتّهمون، وتقدّم فيها المحامون بالدفع بعدم اختصاص المحكمة الجزائية المتخصصة للنظر في هذه القضية، كونها من اختصاص محكمة الصحافة والمطبوعات، على فرض أن هناك تُهماً حقيقية".

وكان فريق الخبراء البارزين التابع للأمم المتحدة المعني باليمن قد أفاد، في تقريره الصادر في أيلول/ سبتمبر 2020، بأن الحوثيين استخدموا "المحكمة الجزائية المتخصصة" في صنعاء، "كأداةٍ لقمع المعارضة، وترهيب المعارضين السياسيين، وتنمية رأس المال السياسي، لاستخدامه في المفاوضات"، وأن هذه المحكمة "تجاهلت على نحوٍ ثابتٍ الحقوق الأساسية للمتّهمين في الحصول على محاكمةٍ عادلة".

اليوم، يعيش أهالي الصحافيين الأربعة حالةً من الخوف أصبحت ملازمةً لهم، منذ لحظة صدور أحكام الإعدام، وازدادت سوءاً بعد أن نفّذت مؤخراً السلطات القضائية التابعة للحوثيين، عدداً من الإعدامات. ففي الـ18 من أيلول/ سبتمبر 2021، أعدم الحوثيون تسعة أشخاصٍ بينهم قاصر، بموجب حُكم أصدرته المحكمة ذاتها التي حكمت على الصحافيين الأربعة بالإعدام.

تقول أفراح ناصر، الباحثة في هيومن رايتس ووتش، لرصيف22، إن الحوثيين استخدموا محاكم مشكوكاً في نزاهتها، لمعاقبة الصحافيين على قيامهم بعملهم، وذكرت أن اعتقالهم ما كان يجب أن يحدث أصلاً، ناهيك عن مواجهتهم عقوبة الإعدام.

وتضيف ناصر أن معاناة الصحافيين المعتقلين، وعائلاتهم، متواصلة، فأسرهم مصابة بالإحباط والألم، لعجزها عن مساعدة أحبّائها، بينما تتدهور صحتهم في غياب الرعاية الطبية الكافية.

تعبئة ممنهجة ضد الصحافيين

"المرتزقة والعملاء من فئة الإعلاميين، أكثر خطراً على هذا البلد من الخونة، والمرتزقة الأميين المقاتلين"؛ هذا ما قاله زعيم جماعة أنصار الله (الحوثيين)، عبد الملك الحوثي، في أحد خطاباته المتلفزة عام 2016. لم يكن هذا الخطاب التحرضي، الوحيد ضد الصحافيين، ما انعكس بشكلٍ واضحٍ على التعامل العنيف، واللا إنساني، الذي يلقاه الصحافيون في اليمن.

وكانت رئيسة رابطة أمهات المختطفين، الناشطة الحقوقية أمة السلام الحاج، أول مَن استطاع زيارة الصحافيين المعتقلين، وذلك بعد محاولات عديدة مع المشرف "الحوثي" على السجن، وبعد ادّعائها بأنها والدة الصحافي عبد الخالق عمران.

تروي لرصيف22، لحظات زيارتها هذه بالقول: "عند ذهابي لزيارة الصحافيين المعتقلين، دخلتُ صالة الانتظار، وأخرجوا لي رجلاً كهلاً تسعينياً. حاولت أن أتعرّف على ملامح وجهه، وبصعوبةٍ شديدةٍ عرفت أنه الشاب الصحافي عبد الخالق عمران. كانت ملامحه منهكةً، ويده مكسورة، وعليها أربطة من الشاش، وله لحية كثّة طويلة، وشعر طويل غير مرتّب، ويلبسُ ثياباً رثّة، وكأنه عائد من القرون الوسطى. سلّمت عليه بعد أن سمعت صوته ينادي: ‘أهلاً يا أمّاه، كيف حالك يا أمّاه، أنا والشباب بخير’. أما أنا، فقد عجزت عن الكلام والحديث معه، لشدّة الصدمة، ولم تُسعفني إلا دموعي".

في محضر تحقيق النيابة الذي حصلنا عليه، والمؤرَّخ بتاريخ 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، أورد الصحافي حارث حُميد في أقواله، أنه تعرّض مع زملائه للتعذيب، قبل يومٍ واحدٍ من موعد التحقيق. ووردت أقواله حرفياً كالآتي: "سـ: هل لديك أقوال أخرى؟ جـ: لا، وأضيف أنّي تعرّضت للتعذيب، والإهمال الطبي. سـ: ما هو التعذيب الذي تعرّضت له؟ وممَن؟ وما دليلك؟ جـ: الإخفاء القسري لمدة سنة، والضرب بالأيدي والعصي، والتهديد بالسلاح. ويوم أمس تعرّضت وزملائي للتعذيب، بالضرب والشتم، من قبل أشخاص آخرين غير الذين قاموا بالتحقيق معنا. بالإضافة إلى عدم الإفراج عنّا، على الرغم من وجود أمرٍ من نيابة شرق الأمانة بذلك. وكذلك تم حبس المحامي محمد أبكر، الحاضر معنا الآن، في أثناء إحضاره أمر الإفراج. ولا أعرف مَن عذّبوني".

يشير المحامي عبد المجيد صبره، إلى أن هناك خصوصيةً، سلبيةً طبعاً، في التعامل مع الصحافيين في السجون والمعتقلات، بطريقةٍ ترقى لأن تكون ممنهجةً، نتيجةً للتعبئة التي يقوم بها الحوثيون، وغيرهم من أطراف الصراع في اليمن، ضد الصحافيين.

يقول إن "ما يتعرّض له الصحافيون بعد الاعتقال، من إخفاءٍ قسري، وتعذيبٍ وحبسٍ في زنازين منفردة، وإهمالٍ صحي، وحرمانٍ من الزيارة، وانتهاكات أخرى بالجملة، تم توثيق بعضها في محاضر تحقيقات النيابة، هو دليل قطعي على مدى العداوة التي يحملوها الحوثيون تجاه الصحافيين. فمجرّد مطالبتهم بإلحاقهم بالعلاج، على حسابهم الخاص، غير مسموح بها".

ويذكر صبره أن الصحافي المعتقل توفيق المنصوري، أخبره، في اللقاء الوحيد الذي سُمح له به، بأن صحته متدهورة جداً، في ظلّ إهمالٍ طبي متعمّد، إذ "لم يُسمح له بالذهاب إلى الطبيب، على الرغم من تقديمه طلباتٍ كثيرة بهذا الشأن".

الأمر نفسه أكّدته شقيقة الصحافي حارث حُميد: تقدّموا بطلبات كثيرة لعلاج شقيقها حارث، على نفقتهم الخاصة، خصوصاً بعد مخاطر فقدانه بصره، فهو يعاني من جفافٍ شديدٍ في عينيه، بالإضافة إلى الصداع النصفي الذي لا يكاد يفارقه، لكن كان دائماً يتمّ الرفض. وبعد فترةٍ طويلةٍ من الإلحاح، وتحديداً في نهاية عام 2019، سمح الحوثيون لحارث بالذهاب مرةً واحدةً فقط إلى عيادةٍ لعلاج العيون، وتكفّلت أسرته بجميع النفقات المالية، لكنها لم تكن كافية.

العنف في مواجهة الكلمة

28 حالة انتهاكٍ تعرّض لها الصحافيون والمؤسسات الإعلامية، خلال الربع الثالث من عام 2021 فقط، لتضاف إلى أكثر من 1400 انتهاك، رصدتها نقابة الصحافيين اليمنيين، منذ بداية الحرب في عام 2015، من بينها 38 حالة قتلٍ طالت صحافيين، ومصوّرين، وعاملين في وسائل الإعلام، كان آخرها مقتل الصحافية رشا الحرازي، وجنينها، وإصابة زوجها المصوّر الصحافي محمود العُتمي.

إذ بينما كانت الحرازي في طريقها إلى المستشفى، لوضع جنينها، انفجرت فيها عبوة ناسفة وُضعت أسفل سيارتها. لم تتمكن من الوصول إلى المستشفى، لكنها بفعل قوّة الانفجار، وضعت جنينها على قارعة الطريق، وسط ركامه.

كنا نقول مجازاً، إن الكلمة تُوجع أكثر من الرصاصة، لكن يبدو أن ما كان يُعبَّر عنه مجازاً، صار واقعاً في اليمن. فأن يُقتل إنسان لا يملك سوى كاميرا، وقلمٍ، بطريقةٍ بشعة وعنيفة، وتُرتكَب بحقه شتى أنواع الانتهاكات، لهو دليل على أن الكلمة التي يكتبها، والصورة التي ينقلها، فعلتا فعلهما.

بدت واضحةً من حديث أهالي الصحافيين الأربعة، كمية الإحباط والعجز التي يعيشونها، حتى أن بعضهم عبّر بوضوحٍ عن يأسه من جدوى الحديث مجدداً، وعبّر آخرون عن تخوّفهم من الحديث، لأنهم ما زالوا يعيشون في مناطق سيطرة الحوثيين.

وفيما تستمر معاناة الصحافيين الأربعة، من دون أي تحرّك جدّي من قبل الأمم المتحدة، أو الجهات الأخرى المعنية، تأمل أمهاتهم اللواتي تدهورت صحتهنّ كثيراً، بألا يرحلن عن هذه الحياة، قبل أن يتمكنّ من احتضان أبنائهنّ من جديد.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image