بعد رحيل

بعد رحيل "زياد"… لا أريد أن أحيي ذكرى الحرب

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 24 سبتمبر 20257 دقائق للقراءة

في 18 نيسان/ أبريل 1996، استهدفت إسرائيل في قصف مباشر مقرّاً تابعاً لقيادة اليونيفيل في قانا، جنوبي لبنان. كان يحتمي في المقرّ مئات المدنيين اللاجئين إليه في أثناء عملية "عناقيد الغضب". 

راح ضحيةً لهذا القصف أكثر من مئة شخص، معظمهم من النساء والأطفال. كنت طفلةً آنذاك، ولم أكن أعرف حينها أنّ قتل مئات الأشخاص عمداً يمكن أن يحدث على كوكب الأرض عموماً، وفي البلد حيث أعيش خصوصاً. 

مجزرة في عقل طفلة

آنذاك، سمعت للمرة الأولى كلمة "مجزرة". كانت ثقيلةً على دماغي الصغير فاعتقدت أنها تشبه بشكل ما كلمة "غول" الذي يظهر في القصص ويخيفني. ربما لأنني شعرت بالشيء نفسه حين ظهرت لي صور المجزرة على التلفاز في دار جدّي.

سنوات مضت على مجزرة قانا، وأنا على عهد "لن ننسى"، وعدتُ نفسي أن أتذكر هذا اليوم مهما كبرتُ كل عام، لكنني حقيقةً أخللتُ بوعدي منذ سنوات لا أكاد أذكر عددها. لستُ أذكر كيف هربت الذكرى ولا كيف صارت رواسبها أصغر من الشبكة في ذاكرتي

أتذكّر التلفاز ثقيلاً وسميناً، يحمل وجهه في إطار خشبي. أمّا وجه أمي، فكان يختبئ بين يديها، تديره وتغطيه هرباً، ثم تغضب من أبي كيف يتركني وأخي نرى ما نراه، فتلحّ عليه أن يغيّر القناة. 

ما رأيته مرعب، ومدهش، ولا يزال موجوداً في الألبوم الحزين المفتوح في ذاكرتي. أمّا الغضب الذي وُلد في صميمي بعد ذلك فكان كبيراً، لم يسعني حينها أن أعبّر عنه سوى بتعليق شريطة صفراء على مريول مدرستي تضامناً. 

سنوات مضت وأنا على عهد "لن ننسى". وعدتُ نفسي أن أتذكر هذا اليوم مهما كبرتُ كل عام، لكنني حقيقةً أخللتُ بوعدي منذ سنوات لا أكاد أذكر عددها. لستُ أذكر كيف هربت الذكرى ولا كيف صارت رواسبها أصغر من الشبكة في ذاكرتي.

صغُرت الشاشات وكبرت الحرب

مرّ ما يقارب الثلاثين عاماً. خلت دار جدي، وتعددت الشاشات بين تلفاز نحيل الوجه دون إطار وهواتف ذكية، لكن المجازر التي ترتكبها إسرائيل لم تتوقف، وكذلك أنا لم أتوقف عن إضافة صور جديدة وكثيرة إلى الألبوم نفسه. 

لا أريد أن أذكرها لأنني لا أريد أن أتذكر. لكننا في أيلول، شهر "ولّ". الشهر الذي يبكي فيه الناس في الحضارات القديمة موت الإله تموز، ونبكي فيه نحن حروقنا التي تعددت أشكالها بعد أن تقيّأ علينا العدوان الإسرائيلي ناراً لمدة ستة وستين يوماً.

اليوم، ومع حلول ذكرى العدوان الأولى، لا أريد أيّ ذكرى. أشعر أنّ ألبومي الحزين لم يعد يتّسع لأي صورة. أريد أن يكون أيلول شهراً ولّى لا شهر "ولّ". 

أتذكّر "زياد"... زياد الرحباني الذي ربما لم يحتمل هذا كلّه فرحل. أبكيه لأنه ربما كان آخر وجه للحقيقة الجميلة التي عرفناها.

لِم نحيي ذكـرى لم تمت أصلاً؟ ألا يزال القلق يتربص بنا يومياً؟ ألا تزال الأصوات العالية المفاجئة تخيفنا والأضواء في السماء تحيّرنا؟ أهي نجوم أو طائرات؟ هو ليس قلقاً عادياً، هو قلق قبيح يشبه وجه الأرض. 

إنّ فكرة إحياء ذكرى المآسي في لبنان -لكثرتها من حروب وانفجارات واغتيالات ومجازر- صارت تذكّرني بأغنية "بلياتشو"، لفرقة "عمدان النور" المصرية. موضوع الأغنية يدور حول "بلياتشو" الذي وقع في حبّ أنثى من الحضور وعشق عينيها، لكن لكونه "بلياتشو" لم يكن قادراً على التعبير عن حقيقة مشاعره إلى أن قرر أن يشنق نفسه في أثناء العرض "وبصّ ف عينها وقت الموت... تخيّل وقتها شاف إيه... لقاها واقفة بتسقف مع الجمهور على الإيفيه". 

مسؤولية أخلاقية تجاه ماذا؟

في تعريفه لإحياء الذكرى، يقول الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، إنها "ليست مجرد استعادة صورة من الماضي بل فعل مسؤولية أخلاقية تجاه من سبقونا، حيث يصبح التذكر شهادةً وعدالةً في مواجهة النسيان أو التحريف". المشكلة في هذا التعريف برأيي، أنه أصغر مما يحصل هنا، وأضيق من واقعنا في لبنان وسوريا وفلسطين... لست أدري منذ متى نتذكّر، ولست أعرف شيئاً عن عدالة واحدة تحققت. 

فمنذ العام 1996، اجتمع أعضاء مجلس الأمن للتصويت على قرار يدين إسرائيل لارتكابها مجزرة قانا، ولكن الولايات المتحدة أجهضت القرار باستخدام حق النقض الفيتو. في غزّة، أصبح عدد الشهداء منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إلى اليوم، أكثر من أربعة وستين ألف شهيد. أي تذكّر هذا هو الذي سيُعدّ شهادةً وعدالةً؟

بعد انتهاء عدوان تموز/ يوليو 2006، في لبنان، شعرت بأنّ كيلي قد فاض، وأنّي غير قادرة على احتمال أي حرب بعده على الرغم من صغر سنّي حينها، إلى أن شنّت إسرائيل عدواناً آخر في أيلول/ سبتمبر 2024. 

اليوم أشعر أنّ في ذهني خدراً. أكرّر، وكلنا يكرّر، أننا غير قادرين على احتمال عدوان آخر، لكن ماذا لو؟ ماذا لو اندلع عدوان آخر؟ لقد كررنا الشيء نفسه كثيراً من قبل، وأنا لا أزال في دائرة النار: كيف أنسى؟ لم أعد أريد أن أرى أي صورة من غزّة، ليس لأنني فقدت حسّي الإنساني، ولا لأنني لم أعد أكترث... بل لأنني لم أعد أقدر. 

إنّ فكرة إحياء ذكرى المآسي في لبنان -لكثرتها- صارت تذكّرني بأغنية "بلياتشو"، التي تدور حول "بلياتشو" وقع في حبّ أنثى من الحضور، لكنه لم يكن قادراً على التعبير عن مشاعره، إلى أن قرر أن يشنق نفسه أثناء العرض

في تعريف آخر، يقول عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبفاكس، إنّ إحياء الذكرى عملية اجتماعية تُبقي هوية الجماعة حيّةً عبر الأجيال. لكن الجماعة صارت دوائرها تصغر وتصغر، تتوق إلى الفردية، تبحث عن هويتها التي تتلاشى كالغيم في الهواء. صارت وجهاً ناقصاً مزيّفاً ابتلعه الذكاء الاصطناعي المرعب، حتى صارت أي حقيقة موضع شك. 

الذكرى بدون زياد

شاهدت فيديو قصيراً للمغنية السورية فايا يونان، تخبر فيه كيف صنع "شات جي بي تي" أغنيةً تشبه أسلوبها الغنائي، وعرض أيضاً خدماته في التلحين والتوزيع. تضيف فايا أنها تخشى أن يغنّيها أيضاً باعتبار أنّ لديه بصمة صوتها. حاولت أن تلحّن الأغنية وتغنّيها بنفسها كي لا تقاوم تطور الحياة على وجه هذا الكوكب، الذي صار يمسح الدمعة في المونتاج ويرسم الضحكة في المكياج كما تقول أغنية الفرقة نفسها.

أمام هذا الواقع الغريب، وأمام ندرة كل ما هو حقيقي، أقف في هذا العرض بين الناس الكثيرة التي لم تعد تلتقط إشارات بعضها وأحاسيسها بسهولة. أتذكّر "زياد"... زياد الرحباني الذي ربما لم يحتمل هذا كلّه فرحل. أبكيه لأنه ربما كان آخر وجه للحقيقة الجميلة التي عرفناها. أبكيه لأنه لم يقف كما الجموع مصفقاً لبلياتشو حين قرر أن يشنق نفسه. بإنسانيته وحقيقيته حاول ردّه، لكنه عجز فرحل.

أشعر بالضيق من هذا العرض. أبحث عن"فَيّ" زياد البسيط بين الجموع كي ألتقط بعض الهواء، ولا أجده. أقف فيما الناس تصفق دون إدراك، مؤمنةً بعبثية إحياء ذكرى في زمن يُحاصر فيه الحاضر بين ماضٍ ومستقبل، ومؤمنةً بأننا لا نزال في حقبة لم يحن فيها وقت إحياء ذكرى بعد، ذكرى لا تقول إنه مات منّا فحسب، بل منّا من هم فعلاً أحياء، حقيقيون، مدركون وغير مخدّرين من كثرة الألم وسرعة الحياة.

لم يحن الوقت بعد طالما أنّ إسرائيل لم تتوقف عن قتلنا بدم بارد دون أي ضوابط ومحاسبة. تقتلنا منذ سنوات على مرأى الكرة الأرضية كلها كأننا مجرد "بلياتشو متخصص يموت قدامها تضحكلو"... ثم تدور كأنّ شيئاً لم يكن.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

وراء كل تقرير في رصيف22، أيام من العمل: من التفكير والتحرير إلى التحقق والإنتاج البصري.

نحن نراهن على النوع، والصدق، والانحياز إلى الحقيقة والناس.

وحتى يستمرّ هذا العمل، نحتاج إلى من يؤمن بأنّ الجودة والحرية تستحقان الاستثمار.

Website by WhiteBeard
Popup Image